بسم الله الرحمن الرحيم
التربية على ضوء القران والسنة
يعتبر القرآن هو كلام الله المنزل على النبي محمد J المكتوب في المصاحف المنقول
بالتواتر المتعبد بتلاوته المعجز بأقصر
بسورة منه من سورة الفاتحة إلى سورة الناس هو كلام الله تعالى المنزل بلفظه ومعناه
والمنقول إلينا بالتواتر[1].
فلقد أستعمل القرآن الكريم عدة وسائل لتثبيت العقيدة الصحيحة وتصحيح الانحرافات التي تصيب عقائد الناس ، ومن أهم هذه
الوسائل الأساليب هي إثارة العقل.
أي أن الله تعالى في القرآن يُنبه الإنسان إلى كثير من مظاهر قدرة
الله تعالى في هذا الكون آمرا إياه بأن يتدبر هذه المظاهر ليدرك بعد ذلك أن لهذا
الكون خالقا ، رازقا ، مدبر لشؤون الخلق.
وكذلك إثارة الوجدان فيثير القرآن الكريم عاطفة الإنسان ليتفطن لحقيقة الربوبية أي
يدرك قدرة الله وعلمه الشامل ويتفاعل مع ذلك.
والتذكير بقدرة الله ومراقبته فيذكر الله تعالى في القرآن أن الله على كل شيء
قدير كإحياء الموتى وإنزال الغيث وأن الله يعلم كل ما يفعله الإنسان من خير أو
شرٍّ ثم يُجازيه على ذلك يوم القيامة، فيستحي الإنسان من معصية الله تعالى.
وكذلك رسم الصور المحببة للمؤمنين من ذكر لصفاتهم الحسنة وما ينالون من جزاء وأجر يوم القيامة.
ويكون الإنسان في حالة طبيعية من الطمأنينة والراحة النفسية ، لا يعاني
من الاضطراب والقلق وهي بما تسمى الصحة النفسية.
وكيف يحقق القرآن الصحة النفسية حتى يكون الإنسان سويا نفسيا فإن القرآن
الكريم أرشد البشر إلى ما يحقق ذلك في حياتهم وأهم هذه الأشياء هي كما يلي:-
• قوة الصلة بالله تعالى: من صلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ومختلف
الطاعات التي تجعل العبد قريبا من الله تعالى.
• الصبر عند الشدائد: فقد ربّى القرآن الكريم المؤمنين على الصبر عند
المصائب ورتب على ذلك الأجر كما أثنى القرآن الكريم على الصابرين.
• التزكية والأخلاق: أمر القرآن الكريم بكثير من الأخلاق والمثل العليا
التي تجعل الإنسان محبوبا عند الله وعند الناس وبذلك يسعد الإنسان ويعيش مطمئنا.
• التفاؤل وعدم اليأس: التفاؤل يجعل المؤمن دائما مرتاحا ، ولقد حرم الله
تعالى في القرآن اليأس لأنه يجعل الإنسان يعيش في اضطراب وضيق ونكد. وهي أن يعيش
الإنسان سليما معافى في بدنه ، غير مريض ولا يعاني من أي عاهة من العاهات.
وعناية القرآن بالصحة الجسمية: لقد اعتنى القرآن بالصحية الجسمية بتشريعه
لتعاليم واضحة للمحافظة عليها ، وأهم هذه التعاليم هي:
• تحريم الاعتداء على جسم الإنسان كله أو بعضه: وترتيب العقوبات على ذلك.
• الإعفاء من بعض الفروض والواجبات: إذا كانت تؤثر على صحة الإنسان أو
تؤخِّرُ شفاءه.
• الوقاية من الأمراض: بتشريع الطهارة والوضوء، النهي عن الإكثار من
الأكل والشرب (الإسراف).
• تحريم كل ما يهلك النفس البشرية: من خمر وزنا ولحم خنزير، وتحريم
الانتحار.
• تنمية القوة وتوفير الصحة بمفهومها الحديث: الرياضة.
الف : معاني وجوانب التربية في اللغة والاصطلاح
تعددت دلالات كلمة التربية في معاجم اللغة العربية وتنوعت، إلا أنها
تشير في معظمها إلى عدة أصول لغوية يمكن
بالإطلاع عليها تحديد المعنى اللغوي للتربية، ويمكن إجمالها في خمسة تعاريف وهي:
التعريف الأول: ربا يربو بمعنى زاد ونما ، ومنه قوله تعالى ] وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً
لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم
مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ[[2].
التعريف الرابع : أن تكون بمعنى أصلح وأسس، ومنه ربيت القوم أي أسستهم
والعرب تقول :لأن يربيني فلان أحب إلي من أن يربيني فلان، بمعنى أن يكون فوقي
وسيدا يملكني.
ويتضح مما سبق أن التعريفات اللغوية تدور حول الرعاية والمحافظة والسياسة
والعلم والتنمية والزيادة والنشأة والترعرع.
وردت تعار يف متنوعة للإعراب عن معنى التربية، ومن الملاحظ أن سبب
الاختلاف في التعاريف راجع لتركيز صاحب كل تعريف على جانب من الجوانب الداخلة تحت
المفهوم العام للتربية.
فنجد من يعرفها على أساس النمو الجسدي، أو العقلي، أو النفسي[6]. ومنهم من يعرفها على أساس النتائج المتوقعة من
العملية التربوية. ومنهم من يعرفها بربطها بالفلسفة فيسميها فلسفة التربية أو علم
النفس التربوي[7]. ومنهم من يركز على التطور الفكري فيعرفها على
أنها الفكر التربوي[8].
3 - تعرّيف التربية باعتبار النمو:
ومن معاني التربية من جوانب متعددة هي تنمية الوظائف الجسمية والعقلية
والخلقية حتى تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف[9].
4 - تعريف التربية لدى علماء التربية الحديثة:
ومن معاني التربية من جوانب
متعددة هي نمو الكائن البشري من خلال الخبرة المكتسبة من مواقف الحياة المتنوعة.
ويقصد بالنمو اكتساب خبرات جديدة متصلة ومرتبطة ارتباطًا معينًا لتكون
نمطًا خاصًا بشخصية الفرد وتوجهه إلى المزيد من النمو ليتحقق بذلك أفضل توافق بين
الفرد وبيئته[10].
ويمكن تعريفها من خلال ربطها بالفكر:
ومن معاني التربية من جوانب متعددة من انها المفاهيم التي يرتبط بعضها
ببعض في إطار فكري واحد يستند إلى المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام.
والتي ترسم عدداً من الإجراءات والطرائق العملية يؤدي تنفيذها إلى أن
يسلك الفرد سلوكاً يتفق مع عقيدة الإسلام[11].
5 - تعريف التربية من خلال ربطها بالفلسفة:
ومن معاني التربية من جوانب متعددة ما أبدعته عقول الفلاسفة والمربين عبر
التاريخ فيما يخص مجال التعليم الإنساني، وتنمية الشخصية وشحذ قدرتها ويتضمن
النظريات والمفاهيم والقيم والآراء التي وجهت عملية تربية الإنسان[12].
ومن الواضح أن الاختلاف في تعريف التربية اصطلاحًا إنما هو نابع من
اختلاف الثقافات والمجتمعات، كما يختلف معنى التربية ومفهومها باختلاف ميادين
الدراسة النفسية والاجتماعية والحضارية في نظرتها للفرد والمجتمع.
فأحياننا تفهم على أنها التعليم،ولكنها في الواقع تعني أكثر من ذلك ،
أنها الوسيلة التي يحدث من خلالها التغير في السلوك. وأحياننا تفهم على أنها نقل
التراث رغم أن هذا المفهوم لا يعبر عن دور التربية الأساسي ، فدورها الفعال يتمثل
في إثراء الخبرة كأساس لنمو نظم اجتماعية
جديدة تتلاءم مع تغير النظم الثقافية[13].
6 - تعريفها بربطها بالمفهوم الإسلامي:
وختامًا لابد للمطلع من
تعريفها ومن ثم ربطها بالمنظور الإسلامي؛ لأنه هو الأهم في مجال البحث ولا يمكن أن
تحقق التربية غايتها إلا وفق قيم الإسلام ومفاهيمه البناءة.
ومن معاني التربية من جوانب متعددة يمكن تعريفها من خلال الربط بين مفهوم
التربية ومفهوم الإسلام بأنها إحداث تغيير في سلوك الفرد في الاتجاه المرغوب فيه
من وجهة نظر الإسلام[14].
7 - تعريف جامع شامل:
ويمكن أن نأخذ تعريف لعله يكون جامع لكثير من المفاهيم التي جاءت في
التعاريف السابقة وكذلك متضمن لمفاهيم أخرى هي مكملة لمصطلح التربية لمعاني
التربية ومن جوانب متعددة. فالتربية هي:
العملية المقصودة أو غير المقصودة التي اصطنعها المجتمع لتنشئة الأجيال
الجديدة بطريقة تسمح بتنمية طاقاتهم وإمكانياتهم إلى أقصى درجة ممكنة.
في إطار ثقافي معين قوامه المناهج والاتجاهات والأفكار والنظم التي
يحددها المجتمع الذي تنشأ فيه ، بما يجعلهم على وعي بوظائفهم في هذه المجتمع.
ودور كل منها في خدمته ، ونمط الشخصية التي يختارها، ونوع السلوك الذي
يجب عليه أن يسلكه[15].
هناك ضرورة للتربية في الحياة البشرية لوجود قاعدة وهي ضرورة فطرية عندما خلق الله تعالى البشر ثم استخلفهم في
الأرض نجد أنه قد سهل لهم سبل الاكتشاف ووسائل التطوير، وسخر لهم في سبيل ذلك ما في
الأرض جميعا منه منحة وهبة وحجة.
ولو لاحظنا طبيعة التكوين البشري نجد أنه مجزأ إلى قسمين قسم مادي يتطلع إلى إشباع رغباته
المادية، وقسم يسمو بالإنسان إلى التسامي والترفع عن مشتهيات الجسم. وقد خلق الله
تعالى للإنسان ميزان لضبط هذا النزاع وهو ميزان العقل ، وبه تميز عن بقية
المخلوقات و تفوق عليها.
وعن طريق الوعي بإمكانيات هذا العقل والذي أوجده الله تعالى داخل الإنسان
عمل على ملاحظة الظواهر الطبيعية المحيطة بـه، وقام بتفسـيرها للإفادة منها.
ونتيجة لذلك دخل في خبرات وتجارب مختلفة تفاعل معها وأحدثت تغير في سلوكه
ومعتقداته، ومن ثَم قام بنقل نتائجها إلى غيره، ويسـمي هذا التفاعل المستمر
والنشـط بين الإنسان وبيئته بالتربية بغض النظر عن كون هذه النتائج صحيحة أو
خاطئة.
ومن المُسلم به أن الاعتماد على ذات الإنسان كمصدر لتحديد القيم
والمفاهيم اعتماد غير منضبط يحتاج إلى تدخل إلهي يعيد تقويم الميزان كلما انحنى أو
مال عن الاتجاه المرسوم له.
خلق الله في فطرة
الإنسان التواجد في مجتمعات، وعدم الاكتفاء بالذات المنفردة، بل العيش وسط مجموعة
يتفاعل معها وتتفاعل معه.
وفي كل مجتمع من هذه
المجتمعات كان لابد من وضع أهداف عليا يسعى إليها الجميع- وهي ما تستهدف الخير
للفرد والمجتمع- وأهداف سفلى - وهي ما تؤذي الفرد أو المجتمع- لابد من الابتعاد
عنها وفرض العقوبة لمن يقترفها.
وقد وجد التفاوت
في نسبية الخير والشر على اختلاف الحضارات ، وفي مسميات العقوبات، والجوائز، ولكن
اتفق في جميع المراحل على وجود نصاب من
الخير يسعى إليه الجميع، وتذلل في سبيله العقبات، ويكافي من يصل إليه بأعلى
الدرجات الاجتماعية، و نصاب من الشر لابد لمن يصيبه العقاب.
ونشير إلى أمثلة مقتبسة من تاريخ البشرية توضح العمق البين بين الحضارات
البشرية في اهتماماتها التربوية، والتي نشأت من الاختلاف في القيم التي أرادت
أنشاء شعوبها عليها فمثلًا :
ينقل لنا التاريخ وقد اهتمت اسبرطة - وهي مدينة إغريقية كان لها شأن في
الماضي البعيد- بتأكيد فضائل النفس والطاعة والتضحية والتحمل والشجاعة. وكل ذلك
مغلف في رداء عسكري صارم أراده ساستها وفرضوه على مواطني اسبرطة.
في حين نجد في مجتمع آخر تنحسر النزعة الدينية وتخلى المجال للعناصر
الخلقية والفنية كما كان الحال في بلاد العرب القديمة، وفي غيرها من بعض المجتمعات
الآسيوية. نجد أن الصين القديمة سلطت الأضواء على المحتوى الإنساني في الثقافة،
كما أن الهند الإبراهيمية مجدت القيم الدينية والفلسفية ، وفي مصر الفرعونية صار
الإهتمام إلى القيم الدينية والمهنية[16].
إذا في كل مجتمع توجد مجموعة من الآراء والأفكار والنظريات الصائبة من
وجهة نظر فلاسفة وعلماء وأصحاب الرأي لذلك المجتمع ، ويقوم هؤلاء بتقعيدها وحث
الناس على التمسك بها أو الابتعاد عنها، وهذا هو ما يعرف بتربية المجتمع.
فالتربية توجد في مجتمع معين له ثقافته وفكره الذي يوجه حياته، هذه
الحياة التي نحكمها بمجموعة من القواعد والمعاير التي هي جزء من ثقافة المجتمع التي
يعبر عنها.
والفكر التربوي يتأثر بدرجة كبيرة بأبعاد المجتمع الديني، والثقافي،
والحضاري، والاقتصادي ، ولهذا فإن أي فكر تربوي إنما يعبر عن وجهة نظر اجتماعية أو
بعبارة أخرى يكون هذا الفكر انعكاسا لفكر المجتمع.
أنتبه البشر بعد مراحل من التاريخ أن من المهم أولا تربية الفرد ومن ثم
تربية المجتمع كما قال به لينتون[17]:
إذاً التربية ضرورة فطرية للفرد والمجتمع على حد سواء ، فكل مجتمع يحتاج إلى
حث النفوس وشحذ العقول نحو أهداف محددة كما أسلفنا لدفع المجتمع لاعتناق هذه
الأفكار ومن ثم العمل على تحقيقها لبناء الأرض التي قد استخلف فيها.
ومما لا شك فيه أن هذه الآراء والأفكار والأهداف كلما كانت مستقاة من
الكتب الإلهية الصحيحة الغير محرفة على مدار التاريخ البشري تكون التربية لذلك
المجتمع أقوم.
وبالتالي الوصول إلى بناء مجتمع متوازن ،يحقق الاستقرار لأفراده كان أكثر
توكيد وأقرب ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن أفضل مجتمع حقق التقدم في جميع الميادين
ووفر للنفوس البشرية المساعدة المرجوة هو الاسرة والمجتمع الذي بناه النبي J.
ثم المجتمع الذي تلاه وهو خلط بين مفاهيم الرسول J واخرى مغايرة له. ثم الذي
تلاه وهكذا الى ادنى مستوى الذي لايعرف من قيم النبي J سوى انه نبيJ. ثم الى مستوى ينتهي به الى
نار جهنم (اعاذنا الله منها جميعاَ).
وليست الأفضلية في مجال الدين فقط بل تعددت أوجه الخيرية، فكل علوم اليوم
انبثقت من تلك القرون التي حفظت لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة. إنه أفضل مجتمع
بناه النبي J لكي يحقق التوازن الديني
والعلمي والسياسي.
وفي وقت خَيم فيه ظلام العصور الوسطى على الغرب، فإن النهضة الأوربية
التي بدأت في النصف الثاني من القرون الوسطى اعتمدت في غذائها الثقافي والفكري على
نتاج الثقافة الإسلامية إبان عصرها الذهبي.
ويمكن إثبات ذلك بسهولة من خلال النظر في التربية التي توافرت في
المجتمعات القديمة والحديثة على مدار التاريخ البشري والتي سعت جاهدة لتحقيق
الأفضلية في تربية الفرد والمجتمع.
جيم : التربية القرآنية العقلية والايمانية والنفسية
1 - التربية العقلية
لا يمكننا الحديث عن أساليب التربية القرآنية قبل الحديث عن محاور هذه التربية ومن ثم إثبات شمولية المنهج
القرآني التربوي وإحاطته بجميع الجوانب التكوينية للإنسان.
والمنهج التربوي القرآني منهج فريد لا يوازيه منهج ومصدر تفرده أنه راعى الحاجات الفطرية لدى الإنسان، ويهدف
لبنائه، ويأخذ بيده ليحقق الهدف الأسمى الذي خلق من أجله، وهو الإقرار بوحدانية
الله، والعمل بمقتضيات هذا الإقرار، والقيام بمهام الاستخلاف الذي وكل به ، وأداء
الأمانة التي تحملها.
فالتربية القرآنية راعت خصائص الإنسان من حيث كونه إنسان، فهي تنظر إليه
بمنظار الواقعية فلا تطالبه بالمثالية التي لا يمكن تحقيقها ،إما إطلاقاً لأنها
فوق إمكانيات البشر ،أو عموما حيث يستطيعها فئة محددة من الناس.
وهي في واقعيتها شاملة لكل الخصائص الإنسانية من نواحي العقلية والجسمية
و النفسية ويمكناً إجماليا الاكتفاء بثلاثة محاور قد تكون هي الأهم من بين
كثير من محاور تكوين الإنسان.
وقد تطرق لدراستها والاهتمام بها الكثير من المختصين ،مثل التربية
الجسمانية ،والغذائية ،والانفعالية ،والعقلية ،والإيمانية، والنفسية ،وناخذ
الثلاثة الأخيرة هي إن شاء الله وهي: التربية العقلية والتربية الإيمانية والتربية
النفسية.
( أ ) - اهمية التربية العقلية بالقرآن
أهمية العقل : تكمن أهمية العقل في كونه الأداة التي يستطيع الفرد عن
طريقها سلوك الطريق المرجو منه في قضيتي الإيمان و الأعمار للأرض.
ولا شك أن العقول تتفاوت بين الناس وهذا أمر مسلم به ،مع الانتباه إلى أن
العقول قابلة للتطوير والارتقاء على حسب ما يتم تدريبها على ممارسة العمليات
العقلية.
من تفكر وتدبر وتأمل ،لذلك نجد أن الكثير من الآيات القرآنية تختم بكلمة
(..يتدبرون..) (..يعقلون..) (يتفكرون..). وعقول الأفراد مجتمعة تكون عقل المجتمع
أو الأمة ،لذلك كان الاهتمام بالقدرات العقلية ومحاولة تطويرها على النطاق الفردي
أو الجماعي عمل في غاية الأهمية.
فلوا تأملنا على سبيل المثال ارتقاء الأمة الإسلامية لوجدنا أن سر التأخر
في زماننا يكمن في إهمال التربية العقلية وتهمشيها ،واعتقاد أفرادها بعدم قدرتهم
على التقدم والاختراع.
وهو مرض استشرى حتى أصبح قضية مسلم بها، نشأ عنها تبني قضية هي بعيدة كل
البعد عن الإسلام وهي قضية الحرب المعلنة بين العلم والدين.
ولو يقصد بالدين غير دين الإسلام لأمكن ذلك ولكن لما اتهم الإسلام بذلك
كان الأمر مجانب للصواب كله ،لأن الإسلام دين حث على العلم ودعا إليه ووصى به قال
تعالى: ]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[[19] وقال تعالى : ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[[20].
ودين الإسلام وضع العقل في ميزانه الصحيح بعيدا عمن عظم العقل وبجله
وجعله إله مشرعا حاكما ، ومن خذل العقل وأماته بأمراض الخرافة والخيال.
فالقرآن الكريم نصب للعقل خيمة التفكير والتأمل والتدبر وأتاح له ممارسة
المقارنة والموازنة بين الأشياء ،ومهد له الطريق بالإشارات الدلالية إلى الأسرار
الكامنة حوله في الكون والمخلوقات وهو طريق يفتح له آفاق علمية وإبداعية تعينه على
الوصول إلى الحق.
ولو أننا تأملنا منهج القرآن الكريم في التربية العقلية ثم حاولنا تطبيق
هذا المنهج الرباني في حياتنا الواقعية والاستفادة منه في تربية لنشأ على المنهج
القرآني الصحيح ،لاستطعنا بحول الله العودة بالناشئة المسلمة إلى جادة الحق.
( ب ) - اهمية العقل بالقرآن
قال تعالى : ] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا
تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[[21].
كثر الجدل والكلام في التفريق بين العقل والقلب وأيهما هو المناط والمعول
عليه في التكليف، فقيل أن العقل موجود في مركز القلب، وهو الذي يقوم بتوجيه الدماغ
لأداء مهامه.
فالقلب هنا وحدة الفهم والإدراك والفقه والسيطرة ،واتخاذ القرار في
الإنسان وهو مناط التكليف في الإنسان ،ومن ثم فإنه محل النظر والاعتبار من الله
تعالى[23].
وقد قال النبي J في حديث النعمان ابن بشير
قال: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في
الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
إلا وإن لكل ملك حمى الأ وإن حمى الله محارمه ،الأ وإن في الجسد مضغة إذ
صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب[24].
وقيل العقل عقلان عقل في الرأس وعقل في الصدر. وقيل بل الذي في الصدر هو
البصيرة وقوله تعالى: (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا َوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[25] أي ليس العمى عمى البصر
وإنما العمى عمى البصيرة.
وهذا الخلاف قديم، ولا يحتمل الإطالة ولكن يمكننا إيراد قول واحد للجمع
بين مفهومي القلب والعقل في القرآن الكريم وهو أن معناه الكني عنده تعالى. وأما ما
جاء في معنى الآية فقد فسرت كما جاء في اللغة العربية بأنها مقدمة أعلى الشيء في
الإنسان ،وهو الجزء الأمامي للمخ وهو المسئول عن اتخاذ القرار عند الإنسان[26].
( ج ) - اهمية القرآن بالعقل
ينظر القرآن الكريم للعقل البشري
بالنظرة الواقعية، دون افراط أو تفريط .
فالقرآن الكريم يشير بوضوح إلى أن الله جل وعلى قد جعل للإنسان عقل وجبله
على التفكر والتدبر والموازنة بين الخير والشر واختيار الطريق الصحيح والتأثر بما
يمكن أن يصل إليه من نتائج.
كما أن القرآن الكريم قد قدر العقل واعتبره مناط المسئولية وركز على
أهميته في بناء عقيدة المسلم وتصحيح مفهوم التوحيد والعبودية والتفكر في آيات الله.
حث القرآن على استخدام العقل ودعاه للتأمل في ملكوت الكون وتدبر آيات
الله للتعرف على قدرته المعجزة، وتدبر أحكام التشريع الإسلامي وحكمته للاقتناع. واشتراط
العقل في كثير من الأمور كالأمانة والقضاء ، وإقامة الحد والشهادة واعتبار العقل
مناط المسئولية والتكليف.
رتب القرآن الكريم العمليات التي يمارسها العقل الإنساني للتوصل إلى
حقيقة الأشياء ودعاه إليها في مواضع كثيرة من الآيات القرآنية.
وهي عمليات التفكير ، التدبر ،
التذكر ، وهي عمليات تقود إلى تطوير العقل وبناء العقل المسلم المرتب المنظم
الممنهج عمليا بطريقة صحيحة ، والقادر على بلوغ درجات النظر والتدبر والاجتهاد
وبلوغ أعلى درجات الفكر الإنساني[27].
( د ) : منهاج القرآن وتربية العقل
سار القرآن الكريم على طريق واضح في تربية العقل، وبنى طريقه على خطوات
عملية تكفل تحقيق المقصود من وجود العقل في الإنسان، واستطاع بمنهجه الواضح.
أن يضع العقل البشري في مساره الصحيح ، ونحن نحتاج إلى منهج القرآن
الكريم لضبط مكانة العقل بين الإفراط والتفريط ويمكننا اقتباس عدة مقتطفات تربوية
من المنهج القرآني وهي:
منها : التربية القرآنية للعقل بالتحرير
ربى القرآن الكريم العقل
الإنساني بتحريره من جميع المعوقات التي تحول بينه وبين القيام بعمله التفكري
والتدبري ولاقتناعي، وهو تحرر شامل من كل القيود التي أوجدها الإنسان بنفسه.
فقامت بطمس الفطرة وأحدثت انتكاس جرف العقول إلى سلوك الطريق البعيد عن
الخالق العظيم ومن هذه القيود ،الخرافة والتبعية ، والجمود.
التحرر من الخرافة : سعى القرآن الكريم من الوهلة الأولى عند بداية نزوله
بمكة ، لتحرير العقول من جميع أنواع الخرافات والمعتقدات التي لا تتناسب مع
التكريم الذي خص به الإنسان ، وقدم الإجابات الواضحة اليه عن الكون ومفرداته
وفلسفته، وحقيقة خلقه، وكيف تتم إدارته وحركة القوة فيه.
· حقيقة
خلق الإنسان ومآله فيما بعد الموت.
· آلية
صناعة الأرزاق وكيفية توزيعها.
· فلسفة
خلق الإنسان ورسالته في الأرض.
· تصحيح
الخرافات والتشوهات والتحريف الذي تعرضت له الكتب السابقة[28].
التحرر من التبعية : حث القرآن على أتباع التقليد بجميع أنواعه
مع مقياس كل مسألة بمعيار العقل، بما يوافق معتقداتك لا باعتبار ما اعتقده
الآخرون.
ولا بد للإنسان المفرد
من الاستعانة بالعقل من خلال الدليل والفكر في تحديد موقفه من القضايا المختلفة لا
ما قاله أو فعله أو اعتقده غيره من الناس.
قال تعالى: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[[29].
وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على
رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا
أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد .
قال الله تعالى منكرا عليهم ] آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [ أي الذين يقتدون
بهم ويقتفون أثرهم ] لَا يَعْقِلُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[ أي ليس لهم فهم
ولا هداية.
التحرر من الجمود : الجمود مرض مميت لجميع أنواع القلوب ومدمر
للعقول، وعلاجه يكمن في المعرفة ،والتعلم.
ويؤكد القرآن الكريم على أهمية إعمال العقل في التأمل والبحث والتفكر للحصول على المعرفة
والحقائق ،وهذا التأكيد جعل المسلمين يتفوقون في كثير من المجالات العلمية ويبرعون
في غير فن من الفنون المعرفية.
بل هم من وضع الأساس لغالب العلوم التي يتفاخر بها الغربيون
اليوم ، ولو أردنا مثال على منهج الإسلام في ترك الجمود وإعمال العقل والمقارنة
بين الدلالات للوصول إلى نتائج مثمرة لكان ميدان الفقه الإسلامي أفضل مثال.
التحرر من اتباع الهوى: يدعو القرآن إلى التحرر من عبادة غير
الله تعالى فكل الخلق في ميزان العبودية سواء فإذا تمكنت عبوديته لله من قلبه،
وتحرر من عبودية غير الله.
كان أهلاً لأن يأمنه الناس على كل شيء، لأنه لا يستجيب لرغبة،
ولا يخضع لرهبة، ولا يقوده إغراء ولا شهوة، ولا يتبع هوى، وإنما يستجيب لأمر الله،
وأمر الله لا يوجد فيه إلا عمل الخير الذي فيه غاية الأمن لكل البشر[30].
منها : تربية القرآن تحفظ
وتحمي العقل
عقل الإنسان جزء من بدنه ،والقرآن الكريم قد حرم على الإنسان إتلاف نفسه
لأنها مملوكة لله لا للإنسان.
ومن أساسيات الإسلام حفظ الضرورات الخمس وهي الدين ،والنفس ،والعرض
،والمال ،والعقل.
وقد بنى القرآن الكريم تربية العقل على ضرورة ترك كل ما يمكن ان يتلفه أو
يضره فحرم الخمر وجميع المذهبات للعقل قال تعالى :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[[31].
منها : التربية العقلية بالدلالات وبالبرهان والحجة
القرآن الكريم يبني تربيته للعقل البشري على الاحترام لا لإجبار والإكراه
،وهو يدعوا إلى الحوار والإقناع، ويورد الأدلة بمختلف أنواعها ، ويناقش الآراء المختلفة.
ليتوصل الإنسان بنفسه إلى الحقيقة وإلا فإنه يعلنها صراحة ،قال تعالى ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ[[32].
فإذا كان الدين لا إكراه فيه ،فلا إكراه فيما سواه وهي دعوة صريحة في
غالب آيات القرآن الكريم تدعوا إلى التفكر والتأمل في كل ما يعرض،وعدم الاغترار
بالظواهر ،فالحقيقة أهم من المظهر وعليها المعول، والحساب.
2 - التربية الإيمانية
الحاجة إلى الإيمان فطرة للإنسان : لو ترك الإنسان لفطرته لعاد من غير
استثناء إلى العبودية المطلقة لله تعالى وحده ، فالإنسان بفطرته يحتاج
إلى الالتجاء والاعتصام بعظيمز
كما
يحتاج في أزمنة الاضطرابات والمخاوف وعدم الاطمئنان إلى الملجأ، ويحتاج في غربته
وضياعه وتيهانه أن يشعر بأن هناك من يحبه ويرحمه.
فقد روي عن رسول الله J قال: ما من مولود إلا ويولد
على الفطرة فأبواه يهودانه، و ينصرانه، ويُمجسانه، كم تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل
تحس فيها من جدعاء.
بقوله تعالى ]فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. [[33].
وهذه الحاجة تُولد بالإتباع الصحيح والصريح
للرسل D والإيمان بالله تبارك
وتعالى.
فالإيمان نور يتغلغل إلى داخل المسلم، ويتسلل
إلى خلاياه حتى يكون جزء من تكوينه يستمد
منه القوة فلا يخاف إلا الله ولا تأخذه في الله لومة لائم وصدق الشاعر[34]:
ولست أبالى حين أقتل مسلما * على أي الجنبين
يكون في الله مصرعي
وعن طريق الإيمان بالله تعالى تتحقق الطمأنينة في النفوس ،فلا اطمئنان
بعيد عن الإيمان.
والإيمان بالله شرط للهداية التي تفتح للنفس البشرية آفاقًا واسعة للخير،
والسعادة والسعي في مصالح الناس وحاجاتهم[35]. والإيمان سد منيع ،يحمي
صاحبه من الانزلاق وراء الشهوات والغرق في مستنقع الرذيلة. كما أن الإيمان يحقق
للمؤمن تصورات واضحة عن الحياة، وعن الوجود، وعن نفسه، فالحياة محنة وابتلاء
واختبارات[36].
قال تعالى: ]إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً
لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[[37].
نحن نحتاج إلى الإيمان حتى نجابه أمراض العصر من القلق، والخوف من الفشل،
والشعور بالضياع، وعدم الانتماء وغيرها.
لأن الإيمان هو الذي يعيد التوازن للنفوس ، والإيمان هو المعيار الثابت
في وجه جميع المتغيرات قال تعالى: ]الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[[38].
ومفهوم التربية الإيمانية هو عملية متدرجة ومقصودة، وغاية لكل فرد من
المجتمع لتوجيه الإنسان نحو خالقه من خلال مجموعة من المباديء، والقيم المستمدة من
الكتاب والسنة. والتي تعمل على النمو السليم المتوازن بالروح والعقل والنفس والجسم
وتحدث التكيف الاجتماعي[39].