الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق1 التفسير الفلسفي من جميع الجوانب والاتجاهات


ق1 التفسير الفلسفي من جميع الجوانب والاتجاهات
التفسير الفلسفي : الاتجاه الفلسفي فهو يندرج البحث عن الوجود ومباحثه في نطاق الفلسفة، وقد ذهب البعض مثل الفخر الرازي والغزالي إلى تعارض الأفكار الفلسفية مع الإسلام.
خاصة تلك التي ظهرت في عهد المنصور والمأمون العباسي من خلال ترجمة المؤلّفات اليونانيّة والهنديّة والفارسية[1].
ولكن ذهب آخرون مثل الفارابي وابن سينا وصدر المتألهين إلى الإيمان بالفلسفة، ووجدوها منسجمة مع آيات القرآن الكريم[2]، إن العناية بتفسير الآيات التي تتحدّث عن الكون والوجود وما شابهها من آيات القران من خصائصهم، مستفيداً من الأسلوب الاجتهادي والعقلي.
ويعتبر تفسير ابن سينا، والتفسير القرآني، واللغة الصوفيّة في فلسفة ابن سينا، تأليف: حسن العامي في شرح الأسس التفسيرية لابن سينا، من الكتب التفسيرية ذات المسلك الفلسفي المشائي، واما بالنسبة إلى المسلك الإشراقي ينبغي الرجوع إلى مؤلفات شيخ الإشراق[3].
وأما التفاسير المتأثرة بالحكمة المتعالية كما في تفسير القرآن الكريم وأسرار الآيات لصدر المتألهين، وتفسير تحفة الأبرار في تفسير القرآن، وتفسير الرضوان[4].
وأهم آيات القران المطروحة في هذا المسلك المذكور فهي عبارة عن: إثبات وجود الله وطرقه الاستدلالية المختلفة، وحقيقة وجود الله وصفاته، والتوحيد ومراتبه ومراحله، ومسألة النفس والعقل والعليّة، وما شاكل ذلك[5].
ومثلاً قوله تعالى من النور (الاية 35)، وكذلك قوله تعالى من الحديد (الاية3)، قد ذكرت في تفسير (راهنما) خمسة وعشرون فائدة على هامش الآية: (35) من سورة النور، تتحدّث عن ذات الله وصفاته وما إلى ذلك، ومن تلك الفوائد:
وجود الله تعالى ظاهرٌ وبيِّن جاء في تعريف النور: ظاهرٌ بنفسه، ومظهرٌ لغيره. إنّ الله تعالى هو مصدر وجود عالم الخليقة… بناءً على كون المراد من النور معناه الكنائي والمجازي، أي نور الوجود؛ إذ العالم لولا إفاضة الوجود عليه من قبل الله سيندثر في ظلمات العدم المحض.
إن نور الله ذاتيٌّ، وهو منزّهٌ عن جميع أنواع الشوائب… ويقوم هذا المعنى على أساس مسألتين في تشبيه نور الله:
كونه مصدر النور، من دون أن يكون دخل للعوامل الخارجيّة، فهو متوهّج بذاته ولو لم تمسسه نار، مما يثبت أن نور الله منه وليس من سبب خارج ذاته، الأمر الذي يثبت حقيقة أن نور الله منزّهٌ عن جميع الشوائب.
إن نور الله في غاية الإضاءة والإنارة، ومجرّد عن جميع أنواع الظلمة والحلكة. إن ذات الله حقيقة بعيدة المنال، ولا يمكن للبشر إدراك كنهها، وهذه الحقيقة تقوم على أساس هاتين النقطتين الموجودتين في تشبيه نور الله عز وجل.
وبدلاً من تشبيه ذات الله تعالى، تمّ تشبيه إحدى صفاته ـ وهي النور ـ فيما الآية الكريمة في معرض التعريف بالله عز وجل. ونور الله ـ الذي هو أمرٌ غير محسوس ـ تمّ تشبيهه بعدّة أمورٍ محسوسة يدركها الجميع.
وعليه فإنّ ذات الله لا ينالها الإدراك، ويمكن إدراك صفاته فقط. وهذا الإدراك إنما يتيسّر في حدود التعرّف على المحسوسات لا غير.
وإمكان التعرّف على صفات الله عن طريق التشبيه والتمثيل وما إلى ذلك. وعلم الله تعالى شامل لجميع ظواهر الكون. ومشيئة الله على هداية العالمين بنوره ناشئة من علمه الشمولي[6].
الف : المدخل الى التفسير الفلسفي : ان البحث في المعنى الفلسفي والاصطلاحي لهذه الكلمة, فقد بدأ في زمن العباسيين وبالخصوص في زمن المنصور والمأمون.
وذلك عندما انفتح المجتمع على باقي الدول فدخلت الحضارات الى امة الاسلام ومن ثم ترجمت آثار اليونانيين والهند وفارس إلى اللغة العربية وعندها تعرف المفكرين المسلمين على الكتب الفلسفية في إيران واليونان وغيرها.
وقد لعبت الترجمة دور فعال في كشف خبايا ما تعلق بالفلسفة ويعتبر ادخالها في ضمن التفسير يحتاج الى دقة وعمق ودراية عالية كما في تفسير المولى صدر المتالهين الشيرازي.
وكما قيل[7] ان التفسير الفلسفي للعدالة بمعنى هي الملكة النفسانية على ترك المعاصي أو أنها حالة نفسانية الّتي توجب الستر والعفاف على وجه الاقتضاء دون العلية.
وتقع طريقة التفسير الفلسفي[8] لبيان ما تقوم عليه الظاهرة القرآنية من مفاهيم فلسفية كالبحث عن الوجود والماهية وما يترتب عليهما من الأثر في جانب الوجود من الأصالة أو التبعية للماهية وكذا ما يترتب على الماهية من الأصالة أو تبعيّتها للوجود.
وهكذا في البحث عن وحدة الوجود وامتناعها والتعرض لطبيعة السنخية بين العلة والمعلول والقدم والحدوث وبحث الوحدة والكثرة وأقسامهما والذي يبدو من المفسرين على عدة أنواع.
وفي ظل الظروف والملابسات المتقدمة، ترجمت كتب الفلسفة والمنطق وغيرها من الفنون والعلوم، من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية.
وقرأ بعض المسلمين هذه الكتب الفلسفية فكان على رأس هؤلاء هو  الغزالي[9] والفخر الرازي[10] الذي تعرض في تفسيره لنظريات الفلاسفة التي تبدو في نظره متعارضة مع القرآن[11].
وبعدها اضطروا لركب السير من خلال اعتقادهم إلى الخوض في الفلسفة وفروعها ومجالاتها، فبذلوا كل ما يستطيعون من جهد وعلم ومعرفة الفلسفة بالدين بعدها نجح بعض فلاسفة المسلمين في تحقيق ذلك في بعض الجوانب والميادين، وبنسبة عالية.
فمثلاَ الشيخ العك وصف سعيهم لفهم صفات الله تعالى من الذنوب الكبيرة التي تخرجهم من دائرة الإسلام والإيمان.
وتجد هناك من استقبل هذه الأفكار وقام بنشرها واعتبارها منسجمة مع آيات القران كما فعل الفارابي والملا صدرا الشيرازي وأبي علي بن سينا وغيرهم.
وقالوا إن العقل لا يتعارض مع جاء به الدين وانه من الممكن الجمع فيما بين الحكمة والعقيدة, ولربما استخدموا طريقة التأويل لغرض الوصول إلى أهدافهم.
وقد دونت الكثير من التفاسير والكتب المتعددة من خلال أسلوب فلسفي. ولابد من الالتفات إلى إن التفسير الفلسفي مرتبط بشكل كبير في بعض فروعه وأنواعه مع التفسير الكلامي (العقائدي).
إي بمعنى إن بعض الفرق الكلامية مثل المعتزلة والشيعة تقترب كثيرا من المباحث الفلسفية والعقلية وتشترك مع الاتجاه الفلسفي في بعض المسائل في كل المجالات.
ولكن البعض من المسلمين لم يقبل بهذا كله واصابه الغضب كما في قولهم « لأنهم لم يصلوا في توفيقهم إلا إلى حلول وسطى، صوروا فيها التعاليم الدينية تصويراً يبعد كثيراً عن الصور الثابتة المأثورة.
ومثل هذه الحلول لا تصلح للتوفيق بين جانبين متقابلين وطرفين متنافرين، ولذلك لم يجد الغزالي، ومن لفّ لفه، صعوبة في الرد على هؤلاء الفلاسفة الموفقين، وإبطال محاولاتهم»[12]. فمن عناصر التوفيق بينهما كانت لهم محورين يسيرون عليها وهما:
المحور الأول : تأويل جميع النصوص بما هو متفق مع الآراء الفلسفية، ومعنى ذلك إخضاع النصوص والحقائق لهذه الآراء حتى تسايرها وتتماشى معها.
المحور الثاني : تطبيق كل ما جاء به الاسلام من شرح النصوص والحقائق الشرعية وعرضها على الآراء والنظريات الفلسفية.
وهذه الآثار الفلسفية في التفسير لم يكن الجميع موافق عليها او على موقف واحد بالنسبة للآراء الفلسفية، بل تجد منهم من وقف ازائها موقف الرفض وعدم القبول، ولكن تجد منهم من وقف موقف الدفاع عنها والقبول لها.
وكانت حجتهم هي حالة شرح القرآن الكريم بما يوافق هذه النظريات التي لا يراها متعارضة مع جاء به (الدين).
ولكن تلاحظ حالة أتهام  أخرى وهي انه لا يسير على ضوء النظريات الفلسفية التي وافقوا عليها في تفسيره، بل تراه يفسر النصوص على ضوء العقل من دون الرأي الفلسفي في شرح النص القرآني وبيان معناه وهذا ما اتهم تفسير الفخر الرازي لهم.
وأما الباقين المؤيدين للفلسفة، فهو وضع الآراء الفلسفية أمام عينيه، ثم نظر من خلال هذه الاراء الفلسفية إلى القرآن الكريم، فشرح نصوصه وفق ما تمليه عليه القواعد.
ولكن تلاحظ أمام شروح بعض آيات القرآن الكريم، هي في واقع الامر شرح لبعض النظريات الفلسفية، والقصد منها لغرض تدعيم الفلسفة على حساب القرآن الكريم، الذي هو الأصل.
فمما سبق حصلنا على نماذج من التفسير الفلسفي محورين أحدهما واجه الفلسفة والمحور الآخر تبنى الفلسفة ومثال المحور الاول تفسير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي، ومن ثم بعدها التفاسير التي نسجت على منواله كمافي (تفسير البيضاوي) وغيره.
ومن نماذج المحور الاخر في التفسير الفلسفي للقرآن كما في:-
( أ ) –  تفسير الفارابي : يمكنك أعتبار كتاب الفارابي (فصوص الحكم) من النماذج البارزة لهذا النوع من كتب التفسير، بالمعنى الذي سبق بيانه. فقد فسّر الفارابي، المتوفى سنة 339 للهجرة النبوية، بعض آيات القرآن تفسير فلسفي.
فمن ذلك فسر الأولية والآخرية الواردة بالاية الكريمة كما في قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ)[13]. فيقول إنه:
« الأول من جهة أنه منه ويصدر عنه كل موجود لغيره، وهو أول من جهة أنه بالوجود لغاية قربه منه، أول من جهة أن كل زماني ينسب إليه بكون، فقد وجد زمان لم يوجد معه ذلك الشيء، ووجد إذ وجد معه لا فيه».
وقد فسّر معنى كلمة (الآخرية) بقوله: « هو الآخر؛ لأن الأشياء إذا لوحظت ونسبت إليه أسبابها ومباديها وقف عنده المنسوب، فهو آخر لأنه الغاية الحقيقية في كل طلب.
فالغاية مثل السعادة في قولك: لم شربت الماء؟، فتقول: لتغيير المزاج، فيقال: ولم أردت أن يتغير المزاج؟ فتقول: للصحة، فيقال: لم طلبت الصحة؟ فتقول:
للسعادة والخير، ثم لا يورد عليه سؤال يجب أن يجاب عنه، لأن السعادة والخير تطلب لذاته لا لغيره... فهو المعشوق الأول.
فلذلك هو آخر كل غاية، أول في الفكرة آخر في الحصول، هو آخر من جهة أن كل زمان يتأخر عنه، ولا يوجد زمان متأخر عن الحق»[14].
وفي فصوص الحكم شرح لفظة (الظاهر) ولفظة (الباطن) كما في قوله تعالى: ( وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)[15] فيقول:
« لا وجود أكمل من وجوده، فلا خفاء به من نقص الوجود، فهو في ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن، وبه يظهر كل ظاهر، كالشمس تظهر كل خفي وتستبطن لا عن خفاء»[16].
وفي مكان اخر شرحها مرة فقال:  « هو باطن؛ لأنه شديد الظهور، غلب ظهوره على الإدراك فخفي، وهو ظاهر من حيث أن الآثار تنسب إلى صفاته، وتجب عن ذاته فتصدق بها»[17].
ولاحظ انه فسر لفظ (الوحي) كما في قوله:
« والوحي لوح من مراد الملك للروح الإنسانية بلا واسطة، وذلك هو الكلام الحقيقي، فإن الكلام إنما يراد به تصوير ما يتضمنه باطن المخاطب في باطن المخاطب ليصير مثله.
فإذا عجز المخاطب عن مسّ باطن المخاطب بباطنه، مسّ الخاتم الشمع فيجعله مثل نفسه، اتخذ فيما بين الباطنين سفيراً من الظاهرين، فتكلم بالصوت أو كتب أو أشار.
وإذا كان المخاطب لا حجاب بينه وبين الروح اطلع عليه اطلاع الشمس على الماء الصافي فانتقش منه، لكن المنتقش في الروح من شأنه أن يسبح إلى الحس الباطن إذا كان قوياً.
فينطبع في القوة المذكورة فيشاهد، فيكون الموحى إليه يتصل بالملك باطنه، ويتلقى وحيه الكلي بباطنه»[18].انتهى.
ولاحظ شرح لفظة (الملائكة) من أنها: « صورة علمية، جواهرها علوم إبداعية قائمة بذواتها، تلحظ الأمر الأعلى فينطبع في هويتها ما تلحظ، وهي مطلقة، لكن الروح القدسية تخاطبها في اليقظة، والروح البشرية تعاشرها في النوم»[19].
( ب ) - تفسير إخوان الصفا : وكذلك من نماذج هذا المحور في التفسير الفلسفي (اخوان الصفا) كما في كلامهم من ذلك لفظة (الجنة) ولفظة (النار) وحديثهم عن تجرد النفس واشتياقها كما ماهو نصه:
[ إن النفس إذا فارقت هذه الجنة، ولم يعقها شيء من سوء أفعالها، أو فساد آرائها، وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها.
فهي هناك في عالم الفلك في أقل من طرفة عين بلا زمان، لأن كونها حيث همتها أو محبوبها، كما تكون نفس العاشق حيث معشوقه.
فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد، ومعشوقها هو الملذات المحسوسة المموهة الجرمانية، وشهواتها هذه الزينات الجسمانية، فهي لا تبرح من ههن.
ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك، ولا تفتح لها أبواب السماء ولا تدخل الجنة مع زمرة الملائكة، بل تبقى تحت فلك القمر، سائحة في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة، تارة من الكون إلى الفساد، وتارة من الفساد إلى الكون:
( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)[20]. (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً) [21].
ما دامت السموات والأرض، لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذي هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة شراب الجنان المذكور في القرآن:
( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[22].
الظالمين لأنفسهم، ويروى عن رسول الله o أنه قال: «الجنة في السماء، والنار في الأرض»][23].انتهى.
ومن ذلك تفسير كلمة (الملائكة) كما في قولهم:
« إن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته...خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه»[24].
 ( ج ) - تفسير ابن سينا : يسمى الشيخ الرئيس وهو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، وأبوه من أهل بلخ، انتقل إلى بخارى، وولد له أبو علي بن سينا سنة 370هجري.
ثم بعدها انتقل مع أهله إلى بخارى، اشتغل بالعلوم، وحصّل على الكثير من فنون العلم، حفظ القرآن وله من العمر عشر سنين، وأتقن الأدب، وحفظ أشياء من أصول الدين والحساب والجبر وغيرها.
ثم بعدها تعلم المنطق على يد أبي عبد الله الناتلي، وفاقه، ثم اشتغل بالعلوم الطبيعية والإلهية، ثم رغب في علم الطب فقرأ الكتب المؤلفة فيه، حتى أصبح بارعاً فيه.
ثم لم تأت عليه سن الثامنة عشرة سنة إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم التي درسها، أما تصانيفه فهي كثيرة تقارب المائة مصنف، ومن أهمها:
كتاب الشفاء في الحكمة، والنجاة، والإشارات، والقانون، وغير ذلك من كتبه القيمة، التي انتفع بها الناس كثيراً الى يومنا هذا.
يعتبر الشيخ ابن سينا رائداً في الكتابة في تفسير القرآن على وفق المنهج الفلسفي , ويتجلى ذلك من خلال ما تلاحظه في:
1- تفسيره في آية الكرسي.
2- تفسير سورتي المعوذتين.
3- تفسير سورة التوحيد
وقد جمع الشيخ أبو علي ابن سينا إلى شهرته العلمية شهرة أخرى سياسية، إذ إنه كان يتقلد مع والده الأعمال للسلطان انذاك .
وحينما اضطربت أمور الدولة أخرج أبو علي من بخارى، وطوف به في بلاد كثيرة حتى وصل إلى همدان، وهناك تقلد الوزارة لشمس الدولة، ثم ثار الجند عليه، وأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع.
ثم بعدها أطلق سراحه فتوارى عن الانظار، ثم أعاده شمس الدولة وزيراً بعد ذلك، ولما مات شمس الدولة توجه إلى أصبهان، ثم أدركه مرض شديد مات على أثره، وكانت وفاته بهمذان سنة 428هـ ودفن بها[25].
فمن كلام الشيخ لهم هو كما قال: « إن المشترط على النبيo أن يكون كلامه رمزاً، وألفاظه إيماء، وكما يذكر أفلاطون في كتاب النواميس:
إن من لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي، وكذلك أجلة فلاسفة يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم الرمز والإشارات، التي حشوا فيها أسرارهم، كفيثاغورث وسقراط وأفلاطون...
وما كان يمكن للنبيo أن يوقف على العلم أعرابياً جافياً، ولاسيما البشر كلهم، إذ كان مبعوثاً إليهم كلهم»[26].
وتجد كذلك له كلام حول شرح الاية الكريمة من قوله تعالى: ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)[27] فقال الشيخ:
« وأما ما بلغ النبي o عن ربه عز وجل من قوله: ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) فنقول إن الكلام المستفيض في استواء الله تعالى على العرش من أوضاعه:
أن العرش نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، وتدعي المشبهة من المتشرعين أن الله تعالى على العرش لا على سبيل حلول، هذا.
وأما في كلام الفلسفي فإنهم جعلوا نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع الذي هو فلك الأفلاك.
ويذكرون أن الله تعالى هناك، وعليه لا على حلول، كما بين أرسطو في آخر كتاب سماع الكيان، والحكماء المتشرعون اجتمعوا على أن المعني بالعرش هو هذا الجرم.
هذا... وقد قالوا: إن الفلك يتحرك بالنفس، لأن الحركات إما ذاتية وإما غير ذاتية، والذاتية إما طبيعية، وإما نفسية، ثم بينوا أن نفسها هو الناطق الكامل الفعال.
ثم بينوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع في الشرعيات أن الملائكة أحياء قطعاً، لا يموتون كالإنسان الذي يموت، فإذا قيل:
إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحي الناطق الغير الميت يسمى ملكاً، فالأفلاك تسمى ملائكة، فإذا تقدم هذه المقدمات وضح أن العرش محمول على ثمانية، ووضع تفسير المفسرين أنها ثمانية أفلاك.
والحمل يقال على وجهين: حمل بشري، وهو أولى باسم الحمل كالحجر المحمول على ظهر الإنسان، وحمل طبيعي كقولنا:
الماء محمول على الأرض، والنار على الهواء والمعنى هنا الحمل الطبيعي لا الأول.
قوله يومئذ، والساعة، والقيامة، فالمراد بها ما ذكره الشارع:
أن من مات قامت قيامته، ولما كان تحقيق النفس الإنسانية عند المفارقة آكد، جعل الوعد والوعيد وأشباههما إلى ذلك الوقت»[28].
وثم من كذلك قال الشيخ : « اعلم أن العقل يحتاج في تصور أكثر الكليات إلى استقراء الجزئيات، فلا محالة أنها تحتاج إلى الحس الظاهر، فتعلم أنه يأخذ من الحس الظاهر إلى الخيال إلى الوهم.
وهذا هو من الجحيم طريق وصراط دقيق صعب حتى يبلغ ذاته العقل، فهو إذن يرى كيف الحد صراطاً وطريقاً في عالم الجحيم، فإن جاوزه بلغ عالم العقل.
فإن وقف فيه وتخيل الوهم عقلاً، وما يشير إليه حقاً، فقد وقف على الجحيم، وسكن في جهنم، وهلك وخسر خسراناً مبيناً».
ومن ثم في موضع اخر قال الشيخ : « وأما ما بلغ النبي محمداً o عن ربه عز وجل أن للنار سبعة أبواب، وللجنة ثمانية أبواب، فإذ قد علم أن الأشياء المدركة.
إما مدركة للجزئيات كالحواس الظاهرة، وهي خمسة، وإدراكها الصور مع المواد، أو مدركة متصورة بغير مواد كخزانة الحواس المسماة بالخيال، وقوة حاكمة عليها حكماً غير واجب، وهو الوهم، وقوة حاكمة واجباً، وهو العقل، فذلك ثمانية.
فإذا اجتمعت الثمانية جملة أدت إلى السعادة السرمدية، والدخول في الجنة، وإن حصل سبعة منها لا تتسم إلا بالثامن أدت إلى الشقاوة السرمدية. والمستعمل في اللغات أن الشيء المؤدي إلى الشيء يسمى باباً، فالسبعة المؤدية إلى النار سميت أبواباً لها، والثمانية المؤدية إلى الجنة سميت أبواباً لها»[29].انتهى.
ولاحظ تفسير ابن سينا للآية الكريمة «وأما قوله: ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً). فمن العادة في الشريعة تسمية القوى اللطيفة الغير محسوسة ملائكة»[30].
ولاحظ كذلك تفسير الرئيس ابن سينا للآية (35) من سورة النور كما في قوله تعالى:
( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[31] فيقول:
« النور اسم مشترك لمعنيين: ذاتي ومستعار، والذاتي هو كمال المشف من حيث هو مشف، كما ذكرها أرسطاطاليس، والمستعار على وجهين:
إما الخبر، وإما السبب الموصل إلى الخبر، والمعنى ههنا هو القسم المستعار بكلي في قسميه...أعني أن الله تعالى خير بذاته وهو سبب لكل خير، كذلك الحكم في الذاتي وغير الذاتي.
وقوله تعالى: (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) عبارة عن الكل. وقوله: (مشكاة) فهو عبارة عن العقل الهيولاني والنفس الناطقة، لأن المشكاة متقاربة الجدران جيدة التهيؤ للاستضاءة.
لأن كل ما يقارب الجدران كان الانعكاس فيه أشد، والضوء أكثر، وكما أن العقل بالفعل مشبه النور، كذلك قابله مشبه بقابله وهو المشف، وأفضل المشفات الهواء، وأفضل الأهوية هو المشكاة.
فالرموز بالمشكاة هو العقل الهيولاني الذي نسبته إلى العقل المستفاد بالفعل، لأن النور كما هو كمال للمشف كما حد به الفلاسفة ومخرج له من القوة إلى الفعل.
ونسبة العقل المستفاد إلى العقل الهيولاني كنسبة المصباح إلى المشكاة، وقوله: ( فِي زُجَاجَةٍ..) لما كان بين العقل الهيولاني والمستفاد مرتبة أخرى وموضع آخر نسبته.
كنسبة الذي بين المشف والمصباح، فهو الذي لا يصل في العيان المصباح إلى المشف إلا بتوسط وهو المسرجة، ويخرج من المسارج الزجاجة لأنها من المشفات القوابل للضوء.
ثم قال بعد ذلك: ( كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ).
ليجعلها الزجاج الصافي المشف، لا الزجاج الذي لا يستشف، فليس شيء من المتلونات يستشف.
واما قوله تعالى: ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ).
يعني به القوة الفكرية التي هي موضوعه ومادة للأفعال العقلية، كما أن الدهن موضوع ومادة للسراج»[32].
باء : منهاج التفسير الفلسفي والعقائدي : ان السياق التأريخي تلاحظه يتناول الفلسفة ضمن مبحث الوجود ومتعلقاته, وتجد اعتماد الفلاسفة على العقل والاستدلال في تحليل الوجود, وقد كان الاستدلال العقلي موجودا حتى في صدر الإسلام, واستخدمه القرآن فمن خصائص التفسير الفلسفي تجده أهتم بالمسائل التالية:-
1-                    الاهتمام بتفسير الآيات المتعلقة بوجود الله تعالى وصفاته.
2-                    الاهتمام الخاص بآيات القران المتشابهة.
3-                    تأويل ظواهر الكتاب ومن ثم التوفيق فيما بينهما وبين الآراء الفلسفية وآيات القران, واخذ الآيات كشاهد على الرأي الفلسفي.
وكذلك من خلال السياق التأريخي تلاحظ ان أنواع التفسير الفلسفي وماهية مصادره هي كالتالي:
1 – تلاحظ مسلك الفلسفة المشائية في التفسير ويطلق هذا الاصطلاح (الفلسفة المشائية) على النهج الفلسفي الذي يعود في جذوره إلى أفكار أرسطو ويعتبر الشيخ ابن سينا (ت428هـ) من ابرز فلاسفة هذا المسلك. وأهم مصادره هو كتاب تفسير ابن سينا.
2 – تلاحظ مسلك الفلسفة الاشراقية في التفسير وهو الاتجاه الفلسفي الذي يرجع في جذوره إلى الأفكار الأفلاطونية الجديدة وفلاسفة إيران القديمة, وأهم شخصياته الإسلامية التي اعتمدته هو شهاب الدين السهروردي (ت587هـ).
3 – تلاحظ مسلك الحكمة المتعالية في التفسير وهو منهج توفيقي فيما بين الفلسفة المشائية والفلسفة الاشراقية.
ويعتبر المفسر ملا صدرا الشيرازي (ت1050هـ) من رواد هذا المسلك, وكتابه (الأسفار) من الكتب المهمة في هذا الاختصاص او الجانب.
وتلاحظ انه من أهم البحوث والقضايا المتعلقة به التي تعتبر مورد للمناقشة في هذا الاتجاه للتفسير هي:
مثل ( إثبات وجود الله والأدلة المختلفة على ذلك - حقيقة وجود الله وصفاته – التوحيد - مسألة النفس - مسألة العقل - مسالة العلية - مسالة الإعجاز) وهكذا.


[1]- نقل الدكتور الذهبي في الجزء الثاني من كتابه: التفسير والمفسرون، عن بعض معاصريه ممّن يذهب إلى أن الاتجاه نوع من التأويل الخطير، وذهب بعض إلى كونه من الذنوب الكبيرة! أصول التفسير وقواعده: 234.
[2]- المصدر نفسه، نقلاً عن كتاب روشها وكرايشهاي تفسيري: 399.
[3]- راجع : قراءة في (تفسير راهنما) الاستاذ محمد عابدي ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي.
[4]- دائرة المعارف الشيعية 3: 183، 185، نقلاً عن روشها وكرايشهاي تفسيري: 401.
[5]-  المصدر نفسه: 402.
[6]- تفسير راهنما 12: 271 ـ 274.
[7]- راجع : موسوعة من اشعة الايمان الجزء الرابع محمد طاهر ال شبير الخاقاني K.
[8]- اقسام المناهج التفسيرية سلسلة بحوث اية الله العظمى ال شبير الخاقاني K.
[9]- هو : أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي، متصوف. ولد بطوس سنة450هـ، تعلم في نيسابور وأقام في بلاط نظام الملك السلجوقي، ودرس في نظامية بغداد، جُمعت مؤلفاته بعد وفاته وترجمت إلى اللاتينية. من أشهر كتبه: المستصفى من علم الأصول، إحياء علوم الدين، المنخول من تعليقات علم الأصول. توفي سنة 505هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 19/322ـ 346.
[10]- هو : أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن المعروف بالفخر الرازي: ولد عام 544هـ بالري، وعرف بـ«ابن خطيب» الري، استقر بمدينة هراة في خراسان أهم مؤلفاته: «مفاتيح الغيب» أو التفسير الكبير، «أساس التقديس» في علم الكلام، « شرح قسم الإلهيات من إشارات ابن سينا»، «المحصول من علم الأصول»، توفي في «هراة» سنة606هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 21/500ـ 501.
[11]- التفسير والمفسرون للذهبي جزء2/399.
[12]- كتاب التفسير والمفسرون للذهبي، 2/400.
[13]- سورة الحديد الاية 3.
[14]- فصوص الحكم الفارابي ص174ـ 175ضمن المجموع من مؤلفات أبي نصر الفارابي.
[15]- سورة الحديد الاية 3.
[16]- كتاب فصوص الحكم، ص170.
[17]- فصوص الحكم، ص172ـ 173.
[18]- كتاب فصوص الحكم  صفحة163.
[19]- فصوص الحكم ص146.
[20]- سورة النساء الاية 56 .
[21]- سورة النبأ  الاية 23.
[22]- سورة الاعراف الاية 50.
[23]- رسائل إخوان الصفا، المطبعة العربية، القاهرة، د.ط، 1928م، 1/91-92.
[24]- الجزء الاول رسائل إخوان الصفا 1/98.
[25]- راجع : وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ص271 ـ 275 . وكذلك راجع : شذرات الذهب، ابن العماد، 3/237.
[26]- رسائل ابن سينا، مطبعة هندية، سنة 1908، .ص124-125. وراجع: التفسير والمفسرون، الذهبي، 2/407 ـ 408.
[27]- سورة الحاقة الاية 17.
[28]- رسائل ابن سينا، ص128-129.
[29]- رسائل ابن سينا، ص132 في التفسير والمفسرون، الذهبي، 2/407 وما بعدها.
[30]- رسائل ابن سينا، ص131 ـ 132.
[31]- سورة النور الاية 35.
[32]- رسائل ابن سينا، ص125- 128.