المنافقين مع رسول الله n من جهة
إعجاز البيان في القران
أمثال المنافقين من جهة
إعجاز البيان في القران: جاء
انه ذكر في ايات كتابه الكريم من سورة البقرة في عبارة قوله تعالى:-
( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ
كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدير)[1].
حينما أخبر الله تعالى في أوائل سورة
البقرة عن أحوال المنافقين مع رسول اللهn والكتاب الكريم، ومن ثم بيَّن حقيقة مواقفهم
منهما، وكشف عن مكنون صدورهم، وفضح نفاقهم.
ويدخل في عمومه هؤلاء المنافقين؛
فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق، من خلال استبطان الكفر وإظهاره حين
خلَوا إلى شياطينهم.
وكانوا غالبًا هم من أحبار اليهود،
الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لغرض تمزيق الصف الإسلامي وتفتيته؛ كما
أن هؤلاء كانوا يجدون فيهم سندًا لهم وملاذًا[2].
وتلاحظ المنافقين الذين ضُرِب لهم
هذان المثلين هما شيء واحد خلافًا لمن ذهبوا إليه من أنهم فرعين، وأن النموذج الأول
منهما مضروب للفرع الأول، وهم الذين آمنوا، ثم كفروا.
وأن النموذج الثاني مضروب للفرع
الثاني، وهم الذين لا يزالون على نفاقهم، مترددين فيما بين الإيمان والكفر.
وهذا خلافًا لمن ذهب إلى أن النموذج
الأول يختصُّ بطائفة الكافرين، الذين قال الله سبحانه بحقهم في عبارة قوله تعالى:
(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وّلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[3].
وأن النموذج الثاني يختصُّ بطائفة
المنافقين، الذين قال الله سبحانه في حقهم في عبارة قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ)[4].
وذلك لأن المنافقين، وإن كانواعلى ما قالوا
فرعين وهم: (أئمة، وسادة) مردوا على النفاق، وأتباع لهم مثل البهائم والأنعام،
فالأوصاف، التي ذكرت في آيات القران السابقة من سورة البقرة هي أوصاف رؤوس النفاق.
وليس أوصاف أتباعهم، حتى وإن كانت
تشملهم جميعهم؛ وهم المشار إليهم في عبارة قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِين)[5].
النموذج الأول : المنافقين
مع رسول الله n: وهو كما جاء في عبارة قال تعالى : (
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)[6].
وهذا النموذج يصور حقيقة المنافقين مع
رسول اللهn ومواقفهم منه واكثر المفسرين على القول من إن مثل
المنافقين، مثل الذي استوقد نارًا معناه في عبارة: صفتهم العجيبة كصفته.
كما قال الشيخ الطبرسي[7] u معنى « مثلهم » أي مثل هؤلاء المنافقين لما
أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر «كمثل الذي استوقد» أي أوقد نارا أو كمثل الذي طلب
الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها.
واستدفأ ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر
ويخاف وأمن فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا كذلك المنافقون
لما أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها واعتزوا بعزها.
فناكحوا المسلمين ووارثوهم وأمنوا على
أموالهم وأولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب وذلك معنى
قوله «فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم».
وهذا هو المروي عن ابن عباس وقتادة
والضحاك والسدي وكان يجب في حق النظم من أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ
الله ناره لكي يشاكل جواب لما معنى هذه القضية.
ولكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا
لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء وحذف جواب لما إيجازا واختصارا لدلالة
الكلام عليه كما أنشد أبو ذؤيب قال:
دعاني إليها القلب إني لأمره * مطيع
فما أدري أرشد طلابها
وتقديره أرشد أم في طلابها فحذف
للإيجاز ومعنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع
المؤمنين في الآخرة.
ولكن ذهب الزمخشري إلى أن المعنى :
حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارًا. وهذا القول يرجع إلى القول الأول.
وقد ذهب ابن عطية إلى أن المعنى: أن
الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر
المستوقد.
ولكن الظاهر من اللفظ النموذج يقتضي
أن يكون للمنافقين كمَثَلٌ مطابق لهم في تمام أحوالهم، وأن يكون للذي استوقد نارًا
مَثَلٌ مطابق له في تمام أحواله.
وكلاهما معنى معلوم موجود في الذهن،
الأول معقول، والثاني محسوس. وما بينهما وجه شبه، دلت عليه كاف التشبيه؛ وكأنه
قيل: هذا المثل كهذا المثل. أي بمعنى هذا المثل يشبه هذا المثل في بعض أحواله
وصفاته.
فلو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان
بين المثلين تماثلٌ، أو تطابق في تمام الأحوال والصفات؛ لأنه التقدير- حينئذ-
يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا.
ولكن وجود حرف الكاف حصَّن هذا المعنى
من التأويل، الذي ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين، حينما حكموا على هذه الكاف
بالزيادة.
تجد في النموذج الأول (المشبه) من أن
المنافقين كانوا في زمرة الكافرين، ثم بعدها أعلنوا إيمانهم لرسول اللهn واتخذوا هذا الإيمان، جُنَّة لكي يتَّقون
بها يد المؤمنين حينما تعلى على الكافرين.
وتجد في النموذج الثاني (المشبه به)
أن الذي استوقد نارًا كان واحدًا في جماعة، مثل الليل شديد الظلمة، ثم استوقد
نارًا.
أي بمعنى طلب أن توقد له وحينما أوقدت
النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على على هذا الضوء، الذي بدَّد بنوره ظلام
الليل الحالك، ذهب الله بنور طائفة مختصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم من قومهم ، فلم
يعرفوا مسلك الطريق الذي يسلكون.
فركبتهم الحَيْرة، وقيَّدهم العمى
والضلال مثل هذا النوذج حال المنافقين مع رسول اللهn كما قال ابن كثير تلميذ بن تيمية: وفي هذا
المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا؛ كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع.
وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال:
والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم
بإيمانهم اكتسبوا أولاً نورًا، ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة
عظيمة؛ فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
ثم أضاف ابن كثير قائلاً: زعم ابن
جرير الطبري أن المضروب لهم المثل- ههنا- لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله
تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)[8].
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال
نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه، وطبع على
قلوبهم.
ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية- ههنا-
وهي قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)[9].
فلهذا وجَّه هذا المثل بأنهم استضاءوا
بما أظهروه من كلمة الإيمان. أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
وكما قال الشيخ مكارم الشيرازي K لا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق
الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام
الأعاصير، إلاّ بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة
التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟.
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا
أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن
ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة.
كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء
وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة
ويوصلهم إلى مآربهم[10].
وهو كما الاية الكريمة كما في عبارة
قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
تجد ان فيه لمحة من إعجاز البيان،
وتلاحظها في هذا التخالف فيما بين أجزاء الصورة، في المشبه به؛ من حيث كان الظاهر
أن يقال في عبارة: (مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. فلما أضاءت ما حولهم، ذهب
الله بنورهم).
أو يقال في عبارة : ( مثلهم كمثل الذي
استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنوره). ومن خلال ذلك يتم التطابق
فيما بين أجزاء الصورة.
ولكن جاء الاعجاز في الآية الكريمة
خلاف هذا الظاهر. وتلاحظ ان للنحاة والمفسرين، في تفسيره وتعليله، عدة أقوالٌ فمن
أشهرُها في عبارة: أن الَّذِي (هنا) مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع.
ولهذا جاء انه قال في عبارة قوله
تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فحمِل أول الكلام على الواحد، وحمل آخره على
الجمع. واما التقدير فهو في عبارة : (مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت
ما حولهم، ذهب الله بنورهم).
ولكن قيل: إنما وُحِّد بلفظة
(الَّذِي) وما بعده؛ لأن المستوقد كان واحدًا من بقية الجماعة، وقد تولّى الإيقاد
لهم، فلما ذهب الضوءُ، رجع عليهم جميعًا.
وقد ذهب البعض منهم إلى القول من أن
جواب لفظة كلمة (فلَمَّا) محذوف للإيجاز، وتقديره هو: خمدت، أو طفئت. وأن عبارة
قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) يعتبر كلام مستأنف، وراجع إلى بيان حال
الممثل.
ولكن هذا الكلام ممَّا يفسد المعنى؛
من حيث يَقضي من خلال هذا الحكم على مستوقد النار، فبذلك يذهب بنوره، الذي رفعه
لغرض هداية الناس؛ وذلك من حيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى
عنده.
ولكن الصورة، التي رسمتها الآية
الكريمة، تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم من الإستفادة من هذا النور، الذي
ملأ الوجود من حولهم، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من أي هدى.
وهو كما جاء في حاشية الكشاف عن جواب
لفظة (فَلَمَّا) قول ابن المنير: فالظاهر أن يجعل عبارة قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ) جواب لفظة (فَلَمَّا) إلا أن فيه مانعًا لفظيًّا: وهو توحيد الضمير
في لفظة (اسْتَوْقَدَ) ولفظة (حَوْلَهُ) وجمعه في لفظة (بِنُورِهِمْ).
واما معنويَّا : وهو أن المستوقد لم
يفعل ما يستحق به إذهاب النور، بخلاف المنافق؛ فجَعْلُهُ جوابًا يحتاج إلى تأويل.
ولكن تأويله ليس على ما تقدم من
الأقوال؛ بل تأويله على ما ذكرنا أن في عبارة هذا (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) هو
كان واحدًا في جماعة معه، وقد استدعى إيقاد النار.
أي بمعنى : طلبه، وسعى في تحصيله،
فلما أوقِدت له النار وأضاءت ما حوله واجتمع القوم على ضوئها، ذهب الله بنور طائفة
مخصوصة منهم.
هو كذلك كان شأن المنافقين وحالهم، مع
رسول اللهn المبعوث هدًى ورحمة للعالمين، كذبٌ ونفاق
وخداعٌ وإفساد واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم، التي اشتروها بالهدى، وتخبطوا
في مستنقع الحيرة، التي أدهشتهم وحيرتهم.
وتلاحظ لهذا كذبهم الله تعالى
بادعائهم الإيمان، وذمَّهم من أنهم دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه في عبارة قوله
الله تعالى:
( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ
قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)[11].
ومن ذلك يكون الغرض من هذا التمثيل
بالنموذج هو: تشبيه مثل المنافقين مع رسول اللهn بمثل القوم مع الذي استوقد نارًا، وهو ما
حصل لهم من إذهاب نورهم؛ لأنهم آثروا وتمسكوا بالظلمة على النور.
وقد جاء في تفسير الامثل عن الإمام
محمّد بن علي الباقرA قال: «أَضَاءَتِ الأَرْضُ بِنُورِ محمّدn كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، فَضَرَبَ اللهُ
مَثَلَ محمّدn الشَّمْسَ وَمَثَلَ الْوَصِيِّ A الْقَمَرَ»[12].
واما تقدير الكلام هو : مثل المنافقين
مع رسول اللهn كمثل قوم اجتمعوا مع غيرهم على ضوء نار،
استوقدها رجل منهم. وحينما أضاءت ما حوله وحصل لهم نور من ضوء هذه النار، ذهب الله
بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في
المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه.
وقد طوي ذكر كل منهما اعتمادًا على أن
الأفهام الصحيحة، تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى
أصله على أيسر وجه وأتمه. وهذا من ألطف أنواع البديع وأبدعها.
وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون
عبارة قوله تعالى: (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) مثلاً لرسول اللهn ويكون عبارة قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ) مثلاً للمنافقين.
ويدل على ذلك ما جاء عن الشيخان في
الصحيحين عن رسول اللهn من قوله: إنما مَثلي ومَثل أمتي؛ كمَثل رجل
استوقد نارًا. فجعلت الدوابُّ، وهذه الفراش، يقعْن فيها. فأنا آخذٌ بحِجْزكم،
وأنتم تُقحَمون فيها.
وفي رواية أخرى : إنما مَثلي ومَثل
الناس؛ كمَثل رجل استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب،
التي تقع في النار، يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها.. فأنا آخذ
بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها.
فمثَّل n نفسه برجل استوقد نارًا، ومثل الناس، الذين
لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ، التي تقع في النار[13].
وقد قال الشيخ الطبرسي u في مجمع البيان : مثلهم مبتدأ وكمثل الذي
خبره والكاف زائدة تقديره مثلهم مثل الذي استوقد نارا ونحوه قوله «ليس كمثله» أي
ليس مثله شيء.
واستوقد نارا وما اتصل به من صلة الذي
والعائد إلى المضمر الذي في استوقد ولما يدل على وقوع الشيء لوقوع غيره وهو بمعنى
الظرف والعامل فيه جوابه وتقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي طفئت حين أضاءت.
واما في قوله « ما حوله » اسم موصول
منصوب بوقوع الإضاءة عليه وحوله نصب على الظرف وهو صلة ما يقال هم حوله وحوليه
وحوالة وحواليه.
وفي عبارة قوله « ذهب الله بنورهم » أي
أذهب الله نورهم والفعل الذي لا يتعدى يتعدى إلى المفعول بحرف الجر وبهمزة النقل
والباء في لفظة قوله «بنورهم » يتعلق بذهب وعبارة «في ظلمات» يتعلق بتركهم.
واما عبارة قوله « لا يبصرون » في
موضع نصب على الحال والعامل فيه تركهم أي تركهم غير مبصرين.
فليس بعد هذا البيان لمدَّع أن يدَّعي
أن الذي استوقد نارًا مثلٌ للمنافق، وأن ناره، التي استوقدها خمدت. وكيف يكون
منافقًا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم بعدها يُؤخَذ بجرم المنافقين؟
وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها
لهداية الناس بالخمود والانطفاء. هذه النار، التي أوقدها الله تعالى؛ لكي يهتدي
بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟.
وانت قرأ عبارةتقوله تعالى: (ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فنجد لمحة أخرى، من لمحات إعجاز البيان؛ من حيث كان الظاهر
في العبارة أن يقال: (أذهب الله نورَهم) وكذا قرأ اليمانيُّ. أو يقال في عبارة :
(ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم).
ولكنَّ الله تعالى، لم يقل هذا، ولا
ذاك؛ بل ذكر في عبارة قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فأسند الذهاب إليه تعالى
حقيقة، لا مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.
وأما إسناد الذهاب إليه سبحانه فهي
لغرض الدِّلالة على المبالغة؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، من دون الهمزة، لما
فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك وبيانه وهو:
أنه إذا قيل عبارة: ذهب الشيءُ، فمعنى
ذلك : مضى إلى رجعة، أو غير رجعة؛ كما في عبارة قوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[14] وعبارة قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ
لُوطٍ)[15].
وإذا قيل في عبارة : أذهبَ فلانٌ
الشيءَ، فمعنى ذلك: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبًا؛ ومنه عبارة قوله تعالى: (إِن
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)[16].
فإذا قيل في عبارة : ذهبَ فلانٌ
بالشيء، يُفهَمُ من ذلك: أنه قد استصحبه معه، مع امساكه عن الرجوع إلى حالته
الأولى، التي كان عليها؛ وكأنه التصق به التصاقًا.
وهو ليس كذلك: أذهبه؛ ومنه في يوسف A بعبارة قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ
بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ)[17].
فثبت بذلك : عبارة أنَّ ( ذهب بالشيءِ
) هي أبلغ من عبارة (أذهب الشيءَ) وأصلهما جميعًا: لفظة الذهاب، الذي هو
المُضِيُّ.
وتلاحظ كلاهما متعدٍّ إلى المفعول :
فالأول متعدٍّ بنفسه، واما الثاني متعدٍّ بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول
بزيادة هذه الباء، وأن المعنى معها، ومن دونها سواء.
وأما اختيار النور على النار وضوئها
فلأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، وكذلك كونه الأنسب بحال
المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع والإضاءة.
وهو بما جاء من عند الله، ممَّا
سمَّاه الله نورًا في عبارة قوله: (قدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُّبِينٌ)[18] فكأنَّ الله تعالى أمسك عنهم النور،
وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه سبحانه ضوءًا، أو نارًا؛ لتتأتَّى هذه الإشارة.
وانت تعلم من ان النار جَوهرٌ، لطيفٌ،
نيِّرٌ، واشتقاقها من نار ينور، إذا نفر؛ وذلك لأن فيها حركة واضطراب، وتنكيرها
للتفخيم.
فتجد من أخصِّ أوصافها : هي الإحراقُ
والإضاءةُ. ولفظ الإضاءة هو: فرط الإنارة. كما يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها
غيرُها، وما انتشر منها يسمى: ضوءًا.
وتلاحظ الفرق بينه، وبين النور ذلك
لأن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ مثل الشمس.
واما النور ما يكون من غيره؛ مثل
القمر. ومصداق ذلك في عبارة قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء
وَالْقَمَرَ نُوراً)[19].
هذا وقد اشتهر في الاعراف من أن
الضوء، ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة؛ ولهذا في العبارة قال
تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
فتجد انه قد أضاف النور إلى
المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين.
واما لو قيل بعبارة : ذهب الله
بضوئهم، أفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوء خاص بهم؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا.
وهذا الكلام باطل. فهم بمعنى لفظة (مستضيئون)، لا بمعنى لفظة (مضيئون).
وما انعكس عليهم من ضوء النار، هو
نتيجة استضاءتهم به هو نورهم، الذي أمسكه الله تعالى عنهم، وحرمهم من الانتفاع به
لنفاقهم.
واما لو قيل بعبارة : ذهب الله
بنارهم، لفُهِم منه من أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا الكلام
خلاف المراد.
واما اية عبارة قوله تعالى:
(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) فهي عطفٌ على عبارة قوله تعالى:
(ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
وهو يُستفاد منه التأكيد والتقرير،
وذلك لانتفاء النور عنهم بالكليَّة، وهذا يحصل تِبْعًا لما فيه من ذكر الظلمة
المنافية للنور، ثم بعدها إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يترآى فيها شبحان.
وتجد ان القصد من هذا التأكيد وهو
التقرير مع زيادة إيضاح الحالة، التي صاروت إليها حالهم.
وأما عبارة قوله تعالى:
(وَتَرَكَهُمْ) فهي إشارة إلى تحقيرهم وعدم المبالاة بهم، لما فيه من معاني الطرح
المتروك. ولفظة كلمة (ظُلُمَاتٍ) فهي جمع: ظلمة. والظلمة هي عدم النور.
وقد قيل بعبارة : هي عرض ينافي النور.
واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي بمعنى ما منعك وشغلك؛ لأنها تسدّ
البصر وتمنع الرؤية.
وقد قرأ الحسن : لفظة (ظُلْمَاتٍ)
بسكون اللام. وجمعها وتنكيرها، وهو لقصد بيان شدتها؛ مثل قول النبيn: (الظلم ظلمات يوم القيامة) فإن الكثرة،
حينما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن ثمَّة تعدد،
ولا كثرة.
ومن بدائع الكتاب أن لفظة كلمة
(الظلمة) حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة، وأن لفظة كلمة (النور) حيثما وقع،
تجده وقع مفردًا. ولعله السبب هي أن الظلمة، حتى وإن قلَّت، تستكثر. وتجد أن
النور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ.
وتلاحظ كثيرًا ما يشار فيهما إلى
الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌ، فلا ينبغي
الركونُ للقليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.
وفي ذلك يعتبر تأكيد من أن الظلمات
المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة؛ ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة.
والدليل على ذلك قراءة اليماني: في عبارة (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَة) على التوحيد.
ومفعول قوله في عبارة: (لَا
يُبْصِرُونَ) هو محذوف وذلك لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم،
ولا يقدَّر له أي مفعول؛ كأنه قيل في عبارة: لا إحساس بصر لهم.
وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله:
والمفعول الساقط من عبارة قوله: (لاَّ يُبْصِرُونَ) من قبيل المتروك المُطرَح،
الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير
متعدٍّ أصلاً؛ نحو (يَعْمَهُونَ) في عبارة قوله تعالى: (وَيَذَرُهُمْ فِيْ
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
واما في نفي الفعل بلفظة (لا) هي
دلالة على طول النفي وامتداده، مع استحالة وقوع المنفي بها أبدًا.
واما في إطلاق فعل الإبصار، من دون
تقييده بمفعول محدد دلالة على أنهم في عمًى تام، أي بمعنى لا يبصرون شيئًا؛ ولهذا
أتبِع بعبارة قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ).
وتجد عبارة قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ) فقيل: هو مرفوع على الاستئناف، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف، وهو ضمير
المنافقين. أو هو أخبار، وقد تؤول إلى عدم قبولهم الحق. أي بمعنى: هم صم بكم عمي.
فإذا كان ظاهر ذلك اللفظ يوحي من أنهم
متصفين بالصمم، والبكم، والعمى، فالله تعالى بيّن في موضع ثاني من أن معنى صممهم،
وبكمهم، وعماهم هو لعدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم، فقال في عبارة قوله
تعالى:
( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ
وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ِبآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[20].
فهذا دل على أنهم، حتى وإن كانوا
سمعاء الآذان، وفصحاء الألسن، مع بصراء الأعين، ولكنهم لمَّا لم يصيخوا للحق، فأبت
أن تنطق بسائره ألسنتهم، ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة بالآفاق والأنفس، ووصفوا
بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى؛ كقول الشاعر حينما انشد قال:
صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ
بِه * وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وقد قيل : ان الآية هي تتمَّة لنماذج
التمثيل، وتكميل له من أن ما أصابهم ليس هومجرد ذهاب نورهم، وبقائهم في ظلمات
كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها مبصرة.
بل تراهم قد اختلت مشاعرهم جميعًا،
واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه، أو على الحقيقة؛ فلا يبعد- كما قالوا- ان
فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة؛ وربما يؤدي إلى الموت.
ومما يؤيد من كونها تتمة لنماذج
التمثيل، وتكميلاً له هي قراءة ابن مسعود، والسيدة حفصة زوج الرسولn: (صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ) بالنصب.
وقد نصبُه من وجهين : أحدهما :على
معنى : تركهم صمّاً بكمًا عميًا. واما الثاني: فهو على معنى الذم، لكي يكون كلام
مستأنف.
وتلاحظ ان العرب تنصب بالذمِّ والمدح؛
لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم في عبارة: (وَيْلاً له، وثَوَابًا له, وبُعْدًا
وسَقْيًا ورَعْيًا).
وجاء كذلك مثله على القرائتين عبارة
قوله تعالى: (إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) إلى عبارة قوله تعالى: (وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[21].
ثم بعدها ذكر في عبارة قوله تعالى:
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ..) بالرفع كما في قراءة جمهور العامة،
واما فى قراءة عبد الله بن مسعود كما في عبارة قوله تعالى: (التَّائِبُينَ
الْعَابِدُينَ الْحامِدُينَ..)[22].
لقد كان ظاهر الكلام يقتضي من أن يكون
ترتيب هذه الصفات هكذا الفاظ هي: (عميٌ – بكمٌ - صمٌّ) كما في عبارة قوله تعالى:
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً
وَصُمّاً)[23].
ولكن ورد ترتيبها، على وفق حال
المُمَثَّل له، وهو خلافًا للظاهر في عبارة قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لأنه في
البداية يسمع دعوة الحقِّ، ثم بعدها يجيب ويعترف، ومن ثم بعدها يتأمَّل ويتبصَّر.
ولكن قيل : قدِّم الصَّمَم؛ لأنه إذا
كان خَلقيًا يستلزم البَكَم، وأخِّر العمَى؛ وذلك لأنه- كما قالوا- هو شامل لعمى
القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة.
ولذلك هو بهذا المعنى متأخر؛ وذلك
لأنه معقول صِرْف، فلو توسَّط، حلَّ فيما بين العصا ولحائها. واما لو قدِّم،
لأوهِم تعلقه بعبارة قوله: (لا يُبْصِرُونَ).
وأما عبارة قوله تعالى: (فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ) فقد قيل: ان المراد به: هو أنهم لا يرجعون إلى الهدى من بعد أن
باعوه، أو عن الضلالة من بعد أن اشتروها.
وتلاحظ كلاهما مبنيٌّ على أن وجه
التشبيه في التمثيل مستنبط من عبارة قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)[24].
واما الصواب- على ماقالوا- من أن
المراد به: هو أنهم لا يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ما داموا على هذه الحال، هذا
على تقدير أن يكون كما في عبارة قوله: من (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ).
وأما لفظة (الفاء) في عبارة قوله
تعالى: (فَهُمْ) فهي للدلالة على أن اتصافهم بما تقدم هو سبب لتحيرهم واحتباسهم،
كيفما كانوا.
فهذا هو مثل المنافقين، الذين لم
يصحبهم نور الإيمان في الدنيا؛ بل خرجوا منه وفارقوه بايديهم، من بعد أن استضاؤوا
به، وهم يحملون أوزارهم.
وتجد من أظهر الأدلة على أن المراد من
هذا المثل هم المنافقين وذلك لأن الله تعالى قال هنا في حقهم في عبارة قوله:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)[25].
فقد سلب الرجوع عنهم؛ وذلك لأنهم
آمنوا ثم كفروا، وفارقوا الإسلام من بعد أن تلبسوا به، واستناروا بنوره، فهم لا
يرجعون إليه، ما داموا على هذه الحال.
وقال بحق الكافرين في عبارة قوله
تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)[26] لاحظ هنا سلب العقل عن الكافرين؛
وذلك لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان.
وتجد انه قد قال عنهم في آية أخرى كما
في عبارة قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ
الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)[27].
[1]- سورة البقرة الاية 17 – 20.
[2]- راجع : من أسرار البيان في أمثال القرآن تاليف : محمد إسماعيل
عتوك.
[3]- سورة البقرة الاية 7.
[4]- سورة البقرة الاية 8.
[5]- سورة البقرة الاية 14.
[6]- سورة البقرة الاية 17 و 18.
[7]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيu ج1 ص107.
[8]- سورة البقرة الاية 8.
[9]- سورة المنافقون الاية 3.
[10]- تفسير الامثل الشيخ مكارم الشيرازي K ج1 ص106.
[11]- سورة المنافقون الاية 1 – 3.
[12]- تفسير نور الثقلين ج1 ص36.
[13]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي u ج1 ص107.
[14]- سورة الصافات الاية 99.
[15]- سورة هود الاية 74.
[16]- سورة ابراهيم الاية 19.
[17]- سورة يوسف الاية 15.
[18]- سورة المائدة الاية 15.
[19]- سورة يونس الاية 5.
[20]- سورة الاحقاف الاية 26.
[21]- سورة التوبة الاية 111.
[22]- سورة التوبة الاية 112.
[23]- سورة الاسراء الاية 97.
[24]- سورة البقرة الاية 16.
[25]- سورة البقرة الاية 18.
[26]- سورة البقرة الاية 171.
[27]- سورة الانفال الاية 22.