المفسرين والاتجاه الاخباري
في البداية ان اهل العلم من علماء
الأصول الأحكام قمسموها إلى: إمضائية؛ وتأسيسية. فالاولى وهي الإمضائية وهي تلك
الأحكام التي توصَّل إليها العقلاء، ووجدوا حسنها وقبحها، بدون أن يستندوا في
إدراكهم لها إلى الشرع، مثل حسن أداء الأمانة، وقبح الخيانة، فجاء الشارع وأقرَّهم
عليها وأمضاها لهم.
وأما الاخرى وهي الأحكام التأسيسية
فهي الأحكام التي لم يتوصل العقل إلى حسنها أو قبحها إلا من خلال الشرع، مثل
الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وغيرها.
فتجري نفس القوانين في معرفة القرآن,
والآيات المجملات عهد الى رسول اللهJ تفصيلها وتفسيرها للناس كما في قوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) آية مجملة، وتفصيلها على عهدة النبيJ.
فهو الذي يبيِّن قولاً وفعلاً ما هو
شكل إقامة الصلاة، وزمانها، وليس من حق أي أحد من أن يأتي بتفصيل للمجملات مهما
كانت معاني ألفاظ الآية ظاهرة وفصيحة.
ولكن ليس كل ما في القرآن مجملاً,
وإذا قام رسول اللهJ بتفسير بعض الآيات غير المجملة فتفسيره
يعتبر من باب إرشاد الأفهام إلى نحو ادراك معانيها وبيان ألفاظها، وإلا فما غرضهم
من قول الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)[1].
فإدراك عدم تواجد التعارض والتناقض في
الكتاب فرع فهمه وإدراك معانيه، فالمطلوب في البداية التدبر في جميع القرآن حتى
يقطع بعدم وجود أي اختلاف أو تناقض.
وثم بعد ذلك تستطيع أن تفهم كل القرآن
من دون الرجوع إلى الأحاديث، وما قام به رسول اللهJ والأئمة من اهل البيتD من تفسير لبعض الآيات الخارجة عن دائرة المجملات
يعتبر من باب التفسير الإرشادي.
فالعقل السليم يستطيع التوصل لنفس
المعنى، فلو كان غير هذا لما طلبوا منا ومن كل مسلم عاقل من أن يعرض الأحاديث على
القرآن، فما وافق الكتاب أخذوا به، وما اختلف معه أعرضوا ونأوا عنه.
وفي نفس السياق نذكر كلامهم حيث
قالوا: «إنه طبقاً لتفسير النبي الأكرم‘J، وخلافاً لما فهمه أوائل الأصحاب، فإن
المراد بلفظ الظلم الذي جاء في الآية من سورة الأنعام[2] ليس
كل مصاديق الظلم، فالظلم في الآية ليس يراد به العموم، ولكن تم تخصيصه بحيث عرف
بأنه ظلم خاص، وهو الشرك»[3].
وجوابه أن الآية من خلال السياق بينت
من أن المراد بالظلم هو الشرك، فلا يحتاج إدراك هذا المعنى إلى تخصيص, فالآية كانت
من ضمن محاججة النبي إبراهيمA لقومه، ولهذا كما تقرأ في تفسير الطبري «أن
سلمان الفارسيE قال في معنى الآية: هو الشرك بالله تعالى».
ونفس المعنى جاء عن الخليفة الاول، فقد فسر
«بظلم» من أنه بشرك؛ «وكذا قال حذيفة، وابن عباس، وأبيّ بن كعب»[4]، من
دون أن ينقل أي واحد من هؤلاء ذاك المعنى عن النبيJ، أو ينسبوه إليه.
فإن كان رسول الله قد فسر معنى الظلم
في الآية لبعض أصحابه الذين لم يدقِّقوا في معناه، وأرشدهم من أنه الشرك، فهذا ليس
معناه أن الآية غير واضحة، ولا يمكن فهم أن كلمة الشرك هو المراد بالظلم هنا،
فتفسيرهJ هو تفسير إرشادي (إمضائي).
ولابد من الإشارة من أن تفسير رسول
اللهJ للظلم من انه شرك إنما هو إرشاد منه‘J إلى تفسير القرآن بالقرآن، كما جاء في آية
أخرى وهي قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[5]،
ولعله الإرشاد الذي غاب عنهم ولم يتوصلوا إليه.
وحريٌّ بنا هنا من الاشارة إلى ما
أورده العلامة الطباطبائيH في مقدمة تفسير الميزان قال: «قال عليA يصف القرآن، على ما في النهج: (ينطق بعضه
ببعض، ويشهد بعضه على بعض). هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الذي سلكه
معلِّمو القرآن وهداته»[6].
فبحسب كلام العلامة ان أهل البيتD هم الآخرين الذين أرشدونا إلى تفسير القرآن
بالقرآن وفهمه من خلاله، فقد قالوا من عرض الأحاديث على القرآن.
كما حسب كلام الشيخ وحيد البهبهانيH قال: «القرآن كلام الشارع القطعي سنداً
ومتناً، بخلاف مفهوم كلام لا يعلم أنه متن كلام الشارع؛ لاحتمال كونه كلام الراوي،
وأنه ليس من المعصوم أصلاً»[7].
إن الاختلاف الحاصل فيما بيننا هو في
الوعي التام لحجم معنى الألفاظ، فهم يرون أن الأحاديث النبوية في حكم واحد، ولم
يفرقوا بين تفسير المجملات وبين تفسير ما سواها، بينما نحن نعتبرها (استثناء
الأحاديث التي فسَّر فيها الرسولJ مجملات الآيات) من باب التفسير الإرشادي،
وكلُّ من يحمل ذي لُبٍّ قادرٌ على الوصول لنفس المعنى.
مدخل الى الرأي الاخباري: اتّجه اغلب المفسرين الشيعة إلى
مقابلة الرأي الأخباري، والرد على عليه وكان جلّ المفسرين الشيعة ينقدون هذه
الآراء، أحياناً بتسامح وأخرى العكس، حتى تجد انحساراً لهذه الآراء، وفيما يلي
نماذج من هذه المناقشات والردود وهي:
1 ـ جاء انه ذكر الشيخ الطوسيH ـ في تفسيره التبيان ـ في باب الرد على مَن
لم يجز تفسير القرآن إلا بالمأثور قال:
ثم قال موبخاً لهم (أفلا يتدبرون
القرآن أم على قلوب أقفالها) معناه أفلا يتدبرون القرآن بأن يتفكروا فيه ويعتبروا
به، أم على قلوبهم قفل يمنعهم من ذلك تنبيهاً لهم على أن الأمر بخلافه وليس عليها
ما يمنع من التدبر والتفكر والنظر في موجب الأمر وعاقبته.
وعلى هذا دعاهم إلى تدبر القرآن. وفي
ذلك حجة على بطلان قول مَن يقول: لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع[8].
2 ـ جاء انه الشيخ الطبرسي فإنه بعدما
أورد الخبر في أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح، ناقش ذلك فقال:
...والقول في ذلك أن الله سبحانه ندب
إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواماً عليه فقال : (لعلمه الذين يستنبطونه
منهم)[9].
وذمّ آخرين على ترك تدبره والإضراب عن
التفكر فيه، فقال: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[10].
وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب فقال: (إنا جعلناه قرآناً عربياً)[11].
وقال النبي o: ( إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب
الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط).
فبيّن أن الكتاب حجة ومعروض عليه،
وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى، فهذا وأمثاله يدل على أن الحديث (في
النهي عن التفسير بالرأي) متروك الظاهر، فيكون معناه ـ إن صحّ ـ أن مَن حمل القرآن
على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل.
3 ـ جاء انه في مجال التعامل مع الحديث
ودراسة المتن، أكد الشيخ الطوسيH على ضرورة التدبر والتفكر فيه فقال:
وفيه تنبيه على بطلان قول الجهّال من
أصحاب الحديث أنه ينبغي أن يُروى الحديث على ما جاء وإن كان مختلاً في المعنى، لأن
الله دعا إلى التدبر والتفقه وذلك منافٍ للتجاهل والتعامي.
4 ـ جاء ان العلامة الطباطبائي اعتبر
أن المنهج الأخباري في قبول الروايات من دون نقد وتمحيص يؤدي إلى نسبة الباطل إلى
النبيo ـ من خلال قبول الموضوعات ـ وإلى تزعزع
الموازين الشرعية، كما يقول:
وبعض الناس.. أخذوا بطرح جميع ما
تضمنته سنة رسول اللهo. فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه
بعض الأخباريين وأصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الإفراط والأخذ بكل رواية
منقولة كيف كانت.
وكما إن القبول المطلق تكذيب للموازين
المنصوبة في الدين لتمييز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبيo كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال
للكتاب العزيز.
5 ـ جاء انه تصدى جمع من الشيعة
كالوحيد البهبهاني والسيد الأعرجي وغيرهما لنقد المقولة القائلة بصحة جميع روايات
الكتب الأربعة، فضلاً عما سواها.
واستمر المحققين من علماء الشيعة في
ردودهم، كما قال الامام ابوالقاسم الخوئيH، بعد أن أثبت عدم صحة تلك المقولة بخصوص الكتب
الأربعة تفصيلاً:
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أنه لم
تثبت صحة جميع روايات الكتب الأربعة، فلابد من النظر في سند كل رواية منها، فإن
توفرت فيها شروط الحجية أُخذ بها، وإلا فلا.
ومنهم من قسم الكلام كما جاء انه قد
فصّل المحسني القول في نقل وجهة نظر الأخباريين، حينما فقال:
نقل عن جمع من المحدثين أن روايات
الكتب الأربعة بأجمعها قطعية الصدور، وقيل لا نقطع بصدورها ولكن نثق بها ونطمئن
بها، وممن اختار قول هذه الجماعة وأطال في تحكيمه وإبرامه ودافع عنه بكل قوي وضعيف
هو المحدث الحر في آخر كتاب وسائل الشيعة واستدل عليه بإثنين وعشرين وجهاً.
ونسب الرأي الثاني من الثقة بروايات
الكتب الأربعة إلى المحدث النوري في مستدركه، ثم أورد حججهم واحدة بعد أخرى
وناقشها مفصلاً، ثم قال تحت عنوان (شواهدنا على ردّ الأخباريين):
قد ثبت لحد الآن عدم قطعية الروايات
الموجودة في الكتب المتداولة وأن الأدلة التي ذكروها غير لائقة لإفادة اليقين وإن
كان القاطعون بها منها في عذر، لأن طريقية القطع ذاتية ووجوده وجداني وحجيته لا
تقبل الإنكار: وعلى كل حال لم يثبت دليل على حجية جميع تلك الأخبار.
6 ـ ما تعلق بالتحريف، تصدى علماء
الشيعة الامامية لدفع أية شبهة عن سلامة القرآن الكريم من كل نقص أو زيادة أو
تحريف، وذلك استمراراً لخط أئمة أهل البيتA.
وابتداءً من القريبين بالتاريخ لهم
مثل الشيخ الصدوقH (ت381هـ) والشيخ المفيدH (ت413هـ) والشريف المرتضىH (ت436هـ) ثم أعلام مفسريهم، وفي مقدمتهم
الشيخ الطوسيH إذ قال في مقدمة تفسيره التبيان:
وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما
لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن، لأن الزيادة فيه مجمع على
بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه.
وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو
الذي نصره المرتضىH وهو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت
روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من
موضع إلى موضع، طريقها الآحاد لا توجب علماً ولا عملاً، والأَولى الإعراض عنها
وترك التشاغل بها لأنه يمكن تأويلها.
وعلى نفس النهج سار الشيخ الطبرسيH الذي قال: والكلام في زيادة القرآن ونقصانه
مما لا يليق بالتفسير، أما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه فقد
روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييراً ونقصاناً،
والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية
الاستيفاء.
وتلاحظ أحد كبار فقهاء الإمامية ـ وهو
الشيخ كاشف الغطاء ـ نصاً يشير بكل وضوح إلى أن هذه الآراء صادرة من مسلك
الأخباريين، إذ قال مستنكراً:
وصدرت منهم أحكام غريبة واقوال منكرة
عجيبة منها قولهم بنقص القرآن مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها وطرحها.
وفي بعضها:
نقص ثلث القرآن أو ربعه ونقص أربعين
اسماً في سورة (تبّت) منها أسماء جماعة من المنافقين. وفي ذلك منافاة لبديهة
العقل.
وقال مشيراً إلى تناقض قولهم هذا مع
تمسكهم بالأخبار وتأكيدهم على صحتها:
يا للعجب من قوم يزعمون سلامة
الأحاديث وبقاءها محفوظة وهي دائرة على الألسن ومنقولة في الكتب، في مدة ألف
ومائتي سنة، وأنها لو حدث فيها نقص لظهر واستبان وشاع، لكنهم يحكمون بنقص القرآن
وخفي ذلك في جميع الأزمان.
وقد أرجع المحقق التبريزي القول
بالتحريف إلى مصادره وسماها فقال ما نصه: القول بالتحريف هو مذهب الأخباريين
والحشوية خلافاً لأصحاب الأصول الذين رفضوا احتمال التحريف في القرآن رفضاً
قاطعاً.
واستمراراً لمواقف علماء الشيعة
الإمامية تلاحظ المعاصرين منهم مثل الإمام الخمينيH والإمام الخوئيH أشد نكيراً على القائلين بالتحريف.
ولاحظ ما قرّظه الإمام الخمينيH إشارة إلى وجود خطين في المنهج العلمي،
فالقول بالتحريف جاء ممن سلك طريق إيراد روايات أعرض عنها الأصحاب واختلاط ضعافٍ
بين الروايات.
وممن يقوم بجمع الضعاف والغرائب
والعجائب وما لا يقبلها العقل السليم والرأي المستقيم في مقابل القول بمنع التحريف
الذي هو مذهب المحققين من علماء الإسلام والمعتبرين من الفريقين.
وتجد زعيم الطائفة أغنى المقال في
تفنيد شبهة التحريف الإمام الخوئيH في كتابه (البيان)، مشيراً إلى شذوذ البعض
بهذا القول من دون أن يكون لهم أثر في إجماع الأمة حينما قال:
المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف
في القرآن، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم o وقد صرّح بذلك كثير من الأعلام، منهم شيخ
المحدثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية،
ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي.
وتعلم بقول عدم التحريف كل من كتب في
الإمامة من علماء الشيعة اعزهم الله وذكر به المثالب ولم يتعرض للتحريف وجملة
القول:
أن المشهور فيما بين علماء الشيعة
الامامية ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم تحريف كتاب الله.
يمكن انه ذهب جماعة من المحدثين من
الشيعة الامامية، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف، كما قال الرافعي:
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا
بضاعة لهم إلا الظن والتأويل واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى
جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه.
ولاحظ انه قد نسب الشيخ الطبرسيH ـ في مجمع البيان ـ هذا القول إلى الحشوية
من العامة. وستعرف بعد هذا من أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف.
كما وصل السيد الخوئيH في نهاية بحثه إلى أن حديث تحريف القرآن
حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق
التأمل.
أو تجد من ألجأه إليه محبّ القول به،
والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه خرافته. وبقيت هنا
ملاحظات وهي كما يلي:-
ملاحظة ( 1 ) ـ الخط
العام والرأي المتشتت: تلاحظ
الكثير من الباحثين، وبالخصوص المعاصرين منهم قد خلطوا بين الخط العام للفكر
الشيعي الامامي وبين آراء متفرقة وشاذة عنه، حاله حال جميع الأفكار والمذاهب في
العالم.
فكثيراً ما حملوا الشيعة الامامية
الآراء النادرة المتفرقة والمخالفة لإجماعهم، لهذا يقتضي التمييز فيما بين هذه
الآراء المختلفة مع بيان أوجه الاشتراك والافتراق، وتوجيه النقد العلمي للرأي
المختلف لا صاحبه، والذي لربما كان صالح ومتتبع، ولكنه توهم فأخطأ بخصوص اتهامه
للشيعة.
وجدل الأخباريين والأصوليين حول فهم
القرآن فهو منذ القديم برز العلماء في اتجاهين مختلفين بلحاظ المباني والاتجاهات التفسيرية
وهو كالتالي:
اتجاه «الأخباريين»، والذين اشتهروا
في مدرسة اهل السنة بـ«الحشوية» وقد كان لهم حضور واسع لدى السنة، كما كان لهم في
وسط الشيعة، ولازال لهم صيت في بعض البلدان.
واتجاه «الأصوليين»، الذي برز بينهم
علماء الأمة وعظماء فقهائها ومفكِّريها والتاريخ ابسط شاهد.
وأهم ما عرف به الأخباريون اعتمادهم
على الأحاديث من دون غيرها، حتى اعتبر الحديث الأصل الأول في معرفة الإسلام وأمور
الدين, أما فهم القرآن فإنه لا يكون إلا من خلال الأحاديث.
وخص العلامة الحر العاملي، أحد أكبر
علماء الأخباريين، فصلاً في كتابه «الفوائد الطوسية» عنونه بعنوان طويل عريض «فصل
في الاستدلال على عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن…»[12].
ويرى الشيخ العاملي في هذا الفصل أن
ظاهر القرآن لا يمكن أن يستدل به في ما يخص الأحكام النظرية؛ وذلك لأن فهم القرآن
غير ممكن ما لم ينظر للأحاديث التي فسرت آيات القرآن، فالطريق مسدود أمام من أراد
الاكتفاء بالقرآن لفهم القرآن، والأحاديث هي السبيل لذلك.
وتلاحظ الشيخ يوسف البحراني، الذي له
باع عريض بين أصحاب الاتجاه الأخباري. ففي كتابه «الحدائق الناضرة» كتب يقول:
«فمنهم من منع فهم شيء منه (أي من القرآن) مطلقاً، حتى مثل قوله: (قُلْ هُوَ اللهُ
أحَد)، إلا بتفسير من أصحاب العصمة»[13].
واستغرب الشيخ وحيد البهبهاني، وهو
أكبر من رفع علم الأصوليين في حوزة النجف الأشرف، قول الأخباريين ذاك، واعتبره
حامل للكثير من التناقض لميزان تعاملهم مع الأحاديث.
وعبر عن التناقض في كتابه «الفوائد
الحائرية»، وذلك في تعرُّضه لمبحث حجية القرآن، حيث قال: «هم صرّحوا مكرراً كثيراً
أنه ما لم يكن حديثهم موافقاً للقرآن فاضربوه على الحائط؟ وإنه زخرف، وإنا لا نقول
خلاف القرآن أبداً، وإنه ما لم تجدوا للحديث شاهداً من القرآن فلا تعملوا به»[14].
فالعلامة البهبهاني خلص لنتيجة منطقية
وهي إذا كان الأئمةD لا يرون فهم القرآن ممكناً إلا بالرجوع إلى
الأحاديث فكيف يوصون الناس وطلبة العلم بعرض الأحاديث على القرآن لكي يعلموا
صحيحها من سقيمها.
وكيف يطلبون من الناس الإتيان بالشاهد
على الأحاديث من القرآن، فأي حديث فقد الشاهد على صحته من القرآن فهو سقيم، وليضرب
به عرض الحائط، وأي حديث خالف القرآن فهو سقيم، ولا يجوز العمل به.
ان ستدلالات العلامة البهبهاني هي
التي اجتثت قلاع الأخباريين وتسلطهم على حوزة النجف. وقد تابع طريقه ونهجه العديد
من العلماء الأعلام الذين ناقشوا آراء الأخباريين وردوا عليها بشكل قاطع.
وتجد بينهم الشيخ جعفر النجفي، الملقب
بـ«كاشف الغطاء»، كتب رسالة واضحة في نقد ورد آراء الأخباريين عنونها بـ«الحق
المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين»، حيث حكم فيها عليهم بالسطحيين.
لقد بحث بشكل موسع قابلية القرآن
للفهم، وأن ظاهر القرآن يعتبر حجة، كما رد على شبهات الأخباريين[15].
ومن بين النقاط التي أوردها في الاستدلال على قابلية القرآن للفهم دون الحاجة إلى
الحديث هي:
1 ـ
ذكر القرآن أن نفراً من الجن استمع إلى النبي الأكرمJ وهو يتلو القرآن، فاستوعب ذاك النفر من الجن
معاني الآيات وما يدعو إليه القرآن من مفاهيم التوحيد, فحمل ما فهمه إلى قومه لكي
يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن وبالنبي الجديد.
فتسائل الشيخ كاشف الغطاء: كيف اصبح
القرآن قابلاً للفهم بالنسبة إلى الجن، من دون أن تكون هناك حاجة للحديث، بينما
تجد الإنسان لا يمكنه فهم القرآن وقد أنزل القرآن بلسانه: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وفوق كل ذلك بعث القرآن لهداية الإنسانية.
2 ـ
فلا يقف استدلال كاشف الغطاء عند هذه النقطة، بل تسائل: إذا كان القرآن دخل
في حوار مع اليهود والنصارى، وحاججهم، ودعاهم للإسلام، والاعتقاد بكل ما جاء به
القرآن، فكيف لأي أحد منا يأتي ويقول: إن القرآن غير قابل للفهم. فإذا كان كذلك
فدعواه مناقضة لهذا الغرض، فلا يصح منه الاحتجاج عليهم.
3 ـ
إعجاز القرآن يكمن في بلاغته وفصاحته، وكلاهما مرتبط بمعانيه، فسلاسة ألفاظه
وجمالها وحسن نظم عباراته بحيث يصبح معناه واضح جداً، فالألفاظ تخدم المعاني. وإن
كانت المعاني بدون أن تنضم إليها الأخبار غير قابلة لفهم البشر فالقول بإعجاز
القرآن يصبح لغو وباطل.
4 ـ
تجد في حديث « أن النبيJ كان يتلو ما ينزل عليه من القرآن على رؤوس
المنابر وعلى عامة الناس من دون أن يفسِّر لهم»[16].
5 ـ
وقال الشيخ كاشف الغطاء: « ولا ثمرة لنزول القرآن في بيان الأحكام؛ لأن
الحاجة إلى الإمامA في تفسير كل آية منه تقتضي أخذ الحكم من
الإمامA، ولو كان الحال كذلك لكان من أعظم ما يعيبه
أرباب الملل على المسلمين، ويشنعون به غاية التشنيع، وأن قرآنهم لا يفهم ولا ينتفع
به، وأنه مخالف لجميع كتب الله»[17].
فاستدلالات كاشف الغطاء وباقي علماء
الأصول الإمامية أضعفت جهة الأخباريين، وحكمت عليها بالتراجع من دائرة النفوذ في
أوساط الشيعة الإمامية، ولكننا لا نستطيع القول:
إن جذور الأخباريين قد اجتثت بشكل
نهائي، حيث إننا لازلنا حتى الوقت الحاضر نجد تأثيراً لفكر الأخباريين على بعض
الأفراد من الشيعة، وإن كانوا لا يصرِّحون باتباع الأخباريين.
لكن اعتقاداتهم بأن القرآن في غياب
المعصوم غير قابل للفهم، وأن لا أحد يحق له تفسير القرآن، دليل على توجههم
الأخباري، وانتهاجهم لدعوات أسلافهم[18].
ملاحظة ( 2 ) ـ التعصب
والتشدد : لاحظ
عادة ما تنطلق الآراء المتشددة من تعصب ديني أو مذهبي، سواء ما تلاحظه في آراء
الحشوية وامتداداتهم المعاصرة عند أهل السنة، أو عند البعض من الأخباريين للشيعة
والذين ربما كانوا يعتقدون أن:
الاتجاه الأخباري كان هو المميز
السائد فيما بين فقهاء الإمامية ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في نهاية القرن الرابع
وبعده حينما بدأ جماعة من علماء الشيعة الإمامية ينحرفون عن الخط الأخباري
ويعتمدون على العقل في استنباطهم ويربطون البحث الفقهي بعلم الأصول تأثراً
بالطريقة السائدة في الاستنباط! ثم أخذ هذا الانحراف بالتوسع والانتشار.
ولربما بلغ ذلك بهم مبلغ عظيم حتى أن
بعضهم احتمال (توهم ..أن شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين
على الضلالة مبدعين بدعاً كثيرة.. ومتابعين للعامة مخالفين لطريقة الأئمة ومغيرين
لطريقة الخاصة..) كما جاء هذا في نص للوحيد البهبهاني مصوراً صور الصراع آنذاك
بوقتها مع الحركة الأخبارية.
وصور الشهيد المطهريH تأثير هذه المقولات على حركة عامة الناس
وتحريكها لعواطفهم المذهبية فقال: (إن ما يبعث على انتشار طراز التفكير الأخباري
بين العامة هو إرضاء ما يميل إليه العامة..).
وقد يكون الدافع البارز لهذا التوجه
احتمال الحب والولاء المفرط، كما تجده في مؤلف كتاب (فصل الخطاب) الذي يقول في
معرض إثبات مدعاه في تحريف النصوص قال:
( كيف يحتمل المنصف أن يهمل الله
تعالى ذكر أسامي أوصياء خاتم النبيينD وابنته الصديقةB في كتابه المهيمن على جميع كتب السالفين،
ولا يعرفهم للأمة التي هي أشرف الأمم وهو أهم من سائر الواجبات التي تكرر ذكرها في
القرآن).
إلا أن الامام الخوئيH رفض هذا الشكل من الحب والولاء وكذلك الإمام
الخمينيu وصف هذا الحب والولاء بهذا الشكل من أنه (لا
يفيد علماً ولا عملاً) وأنه أوقع ما وقع (ما بكت عليه السماوات وكادت تتدكدك على
الأرض).
وبالجملة: ( ففساد هذا القول الفظيع
والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلا أن هذا الفساد قد شاع على رغم
علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيد الأنام).
نماذج من عقائد الاخباريين: لقد ورد في القرآن آيات عديدة، تؤيد
مدعى الرأي الاخباري من الشيعة، وفسرها علماء الفريقين وفقا لما ذهبت إليه
الاخبارية جمعاء كـ(آية الولاية).
كما جاء في قوله تعالى: ( إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[19].
فقد اتفق جميع أهل البيتD وعلماء التفسير والحديث من الشيعة الامامية
بقضهم وقضيضهم[20]
وكذلك الكثير من مفسري اهل السنة، بل جميعهم، على أن هذه الآية الكريمة.
قد نزلت في أمير المؤمنين الامام عليA عندما تصدق بخاتمه على المسكين، وهو يصلي في
مسجد رسول اللهo حتى اعتبر ذلك من المسلمات عند الأصحاب في
عهد النبي o والتابعين والشعراء السابقين، ونظموه في
أشعارهم, والله العالم.
[1] -
سورة النساء الاية 82.
[2] -
سورة الانعام الاية 82 .
[3] -
رفع الاشتباه ودفع الافتراء: 3 ـ 4.
[4] -
تحليل المباني 2: 6.
[5] -
سورة لقمان الاية 13.
[6] -
تحليل المباني 2: 9.
[7] -
تحليل المباني 1: 12.
[8] -
راجع : إحسان الأمين - موقف المفسرين الشيعة من الاتجاه الأخباري.
[15] -
دراسة تفنيد مزعمة حاجة التفسير القرآني إلى الحديث تاليف السيد مصطفى الحسيني
الطباطبائي ترجمة: السيدة نظيرة غلاب.
[16] -
ان العديد من الأحاديث التي أشار لها الشيخ الوحيد البهبهاني موجودة في تفاسير
وجوامع أحاديث الإمامية، نذكر منها: قال النبيJ:
إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا
به عرض الحائط. (الطبرسي، تفسير مجمع البيان: 27، ط لبنان).
قال الإمام الصادقA:
ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (الأصول من الكافي 1: 69، ط طهران). قال
الإمام الباقرA:
إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا
فقفوا عنده (وسائل الشيعة 18: 80، الطبعة الجديدة).