الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق4 إعجاز البيان في سورة المدثِّر


ق4إعجاز البيان في سورة المدثِّر
( 16 ) : - الاية 31 من سورة المدثر: واما أصحاب النار فهم التسعة عشر من الملائكة. على أن المقصود بهم من تلك الملائكة هو النقباء، الذين إليهم جماع الامور وزبانيتها- كما سبق- وإلا فقد جاء في عبارة قوله: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
ولكن كان ظاهر الكلام مقتضاه أن يقال في عبارة : (وَمَا جَعَلْنَاهم) ولكنه وضع الاسم الظاهر موضع الضمير؛ وكأنه ذلك لما في هذا الاسم الظاهر من الإشارة إلى أنهم هم المدبرين لأمرها، القائمين بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير.
ويمكنك اعتبار ذلك هو إيذان من أن المراد بسقر هي: النار مطلقًا، لا اختصاص طبقة خاصة منها، وعلى هذا يحصل المعنى في عبارة: وما جعلناهم إلا ملائكة شداد غلاظ، لا يطاقون.
فهم من ذلك الخلق المغيَّب، الذي لا يعلم طبيعته، وقوته إلا الله تعالى وحده، وقد وصفوا في عبارة قول الله تعالى: (غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[1].
وبمعنى ان الله تعالى قال في عبارة : أنهم غلاظ شداد، يطيعون ما يأمرهم به الله، وأن لديهم القوة والقدرة على فعل ما يأمرهم؛ فهم- إذًا- مزودون بقوة ربانية، التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم به الله تعالى.
فإن كان قد كلفهم القيام على سقر، اذا هم مزودين من قبل الله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة، كما يعلمها الله، فلا تجد أي مجال لقهرهم، أو مغالبتهم من هؤلاء البشر؟ واما ما كان قول الكافرين عن مغالبتهم إلا هو وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله، وتدبيره للأمور.
وقد ذكر الشيخ الطوسيu فقال : قال الجبائي قوله: ( لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون) يعني - في دار الدنيا - لان الاخرة ليست دار تكليف. وإنما هي دار جزاء.
وإنما أمرهم الله بتعذيب اهل النار على وجه الثواب لهم من أن جعل سرورهم ولذاتهم في تعذيب أهل النار، كما جعل سرور المؤمنين ولذاتهم في الجنة.
ولكن قيل في عبارة : لم يجعلهم الله تعالى بشرًا؛ بل جعلهم (مَلَائِكَةً) وذلك لكي يخالفوا جنس المعذبين من الجن والإنس.
وجاء انه قال في الامثل : تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها، وذلك يظهر جانباً من جوانب العظمة في القرآن الكريم.
فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم من البشر بحق الله عز وجل، وبالغضب له تعالى، ولأنهم أشد الخلق بأسًا وأقواهم بطشًا.
وهو كما عن عمرو بن دينار قال : واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر.
وكما جاء عن النبي o أنه قال في وصفهم: كأن أعينهم البرق، وكأن أفواهم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم.
وقد ذكر الشيخ الفيض الكاشانيu في تفسيره قال: غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. في الكافي عن الصادق A قال:
لما نزلت هذه الاية جلس رجل من المسلمين يبكي وقال عجزت عن نفسي كلفت أهلي فقال رسول الله o حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك.
ومثله قد ذكره القمي عنه A قيل له هذه نفسي أقيها فكيف أقي أهلي قال تأمرهم بما أمرهم الله به وتنهاهم عما نهاهم الله عنه فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك.
ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن الحكمة التي جعل من أجلها عدتهم تسعة عشر، كما في عبارة قول الله سبحانه وهي:
( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)[2].
أي بمعنى : ما جعلنا عددهم تسعة عشر إلا هي فتنة للذين كفروا، ووسيلة إلى استيقان الذين أوتوا كتاب الله، وزيادة في إيمان الذين آمنوا.
وهو حِفظًا من ارتياب أهل الكتاب والمؤمنين، ويعتبر داعيًا إلى تقوُّل أهل الكفر والنفاق كما في عبارة: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا). فقد ذكرنا هذه الحكم من جعل عددهم تسعة عشر.
ولكن بقي السؤال الذي يطرح نفسه هنا وهو : كيف يكون هذا العدد المخصص في عبارة (تِسْعَةَ عَشَرَ) فتنة للذين كفروا، وبنفس الوقت هو وسيلة إلى استيقان الذين أوتوا الكتاب.
وكذلك ازدياد الذين آمنوا إيمانًا، وكذلك حفظًا من ارتياب أهل الكتاب والمؤمنين، وهو داعيًا إلى تقول أهل النفاق والكفر ما قالوا؟.
فأما من كون ان هذا العدد في عبارة (تِسْعَةَ عَشَرَ) يعتبر فتنة وابتلاء للذين كفروا فجوابه من جهتين وهي كما يلي:-
الجهة الاولى : هي أن الذين كفروا يستهزئون، ويقولون في عبارة: لمَاذا لمْ يكونوا عشرين، أو ثمانية عشر مثلاً.
والسبب في ذلك لأن حال هذا العدد وهو الناقص واحد من عقد العشرين أن يفتتن به من هو لا يؤمن بالله تعالى وحكمته، ويعترض ويستهزىء، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة.
وقد قيل في الامثل : لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.
والوجه الاخر: أنهم يقولون: كيف يكون هذا العدد القليل وافيًا بتعذيب أكثر الخلق من الجن والإنس، من أول خلق آدم إلى يوم القيامة؟.
أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم: لكل واحد منهم عشرةٌ منّا، لتكسر شوكتهم.
في حين أنّ ملائكة اللّه وصفوا في القرآن بأنّ نفراً منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوطA ويقلبون عليهم مدينتهم، مضافاً إلى ما اُشير إليه سابقاً حول اختيار عدد تسعة عشر لأصحاب النّار[3].
وأما من كونه وسيلة إلى استيقان الذين أوتوا الكتاب ذلك لأنه مطابق لما جاء عندهم في التوراة والإنجيل.
فإذا سمعوا به في ايات القرآن، استيقنوا أنه منزل من عند الله تعالى، ومصدق لما بين يديهم. وهذا بدوره مما يشهد لقومهم على صدق ما أتى به رسول اللهn وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم.
الكلام حول كونه وسيلة إلى ازدياد الذين آمنوا إيمانًا فتلاحظ إن المؤمنين كلما جاءهم أمر عن ربهم، صدقوه، حتى وإن لم يعلموا حقيقته، وذلك اكتفاءً من أنه هو عند الله تعالى؛ لأن قلوبهم مفتوحة موصولة فتتلقى الحقائق تلقيًا مباشرًا.
اذا : فكل حقيقة ترد إليها من عند الله تعالى تزيدها أنس بالخالق، وتزيد القلوب إيمان، فحينها تستشعر بحمكة الله تعالى في هذا العدد، وتقديره الدقيق في حكمة الخلق.
وحينما أثبت الله تعالى بذلك العدد الاستيقان لأهل الكتاب، مع زيادة الإيمان للمؤمنين، ومن ثم جعله حفظًا لهم من الوقوع في الريبة، فقد جمع لهم بذلك إثبات اليقين، ونفي الريب.
ولاحظ إنما فعل ذلك؛ لأنه آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس، وثلج الصدور؛ وكذلك لأن فيه تعريضًا بحال من عَداهم؛ كأنه قال كما في عبارة: (ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل الكفر والنفاق).
وتجد إنه لم ينظم المؤمنين في ضمن سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب؛ وذلك من حيث لم يقل ولا يرتابوا، وهو لغرض التنبيه على تباين النفيين حالاً؛ فان انتفاء الارتياب من أهل الكتاب هو مقارن لما ينافيه من الجحود، وتجد من المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان، ولا يخفى ما بينهما من الفرق.
وقد ذكر في ملاحم الفتن حيث قال من المعروف أن أهل الكتاب قبل البعثة كانوا يضعون أعينهم على مكة، لعلمهم من كتبهم أن النبيn سيبعث من هناك. وبعد نزول الوحي في مكة كان لصفات النبيn عند أهل الكتاب أثر كبير عند المسلمين.
وكذلك الإخبار بعدد ملائكة النار، وهذا الإخبار وإن كان زاد الذين آمنوا إيمانا. إلا أن حكمة الله البالغة كشفت من خلاله تيارا كان الارتياب مادته في مكة.
والتعبير عن المؤمنين باسم لفظة الفاعل (الْمُؤْمِنُونَ) بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث كما في عبارة (الَّذِينَ آَمَنُوا) للإيذان بأثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخه فيهم.
وأما كونه داعيًا إلى تقوُّل أهل النفاق والكفر كما في عبارة: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) فإن هذه السورة الكريمة هي مكية، ولم يكن يومها بمكة حيئذ نفاق؛ وإنما نجم النفاق بالمدينة.
كما أخبر الله تعالى أن النفاق سيحدث في قلوب هؤلاء في المدينة فيما بعد الهجرة المباركة. وعليه تصبح هذه الآية الكريمة معجزة؛ وذلك لأنها إخبار عن غيب من انه سيقع، وقد وقع على وفق الخبر، فكان معجزًا.
وجاء تعقيبًا على قولهم كما قال الزمخشري : فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان، وانتفاء الارتياب، وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان، وانتفاء الريب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضًا.
قلت : أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضًا؛ ألا ترى إلى قولك في عبارة: خرجت من البلد مخافة الشر؟ فقد جعلت المخافة علة لخروجك، وما هي بغرضك.
وقد أراد اللام التي في عبارة قوله تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ).
كما قال الألوسي : وفي الحواشي الشهابية: إنما أعيدت اللام فيه، للفرق بين العلتين؛ إذ مرجِّح الأولى الهداية المقصودة بالذات، ومرجِّح هذه الضلال المقصود بالعرض الناشيء من سوء صنيع الضالين.
واما قولهم في عبارة قوله: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) إنما سموه مثًلآ- على ما قال الزمخشري- لأنه استعارة من المثل المضروب؛ لأنه مما غرُب من الكلام وبدُع، استغرابًا منهم لهذا العدد، واستبعادًا له.
وقد قيل انه : لمَّا استبعدوه، حسبوه مثلاً مضروبًا؛ كما حسبه كذلك بعض الباحثين المعاصرين، ممن ألفوا في أمثال القرآن.
والمعنى في عبارة : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر، لا عشرين سواء؟.
ومرادهم هو : إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله، لما جاء بهذا العدد الناقص.
وتلاحظ انه هكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة. ولكن بينما الذين أوتوا الكتاب تراهم يستيقنون، والذين آمنوا تراهم يزيدون إيمانًا، إذا بقي ضعاف القلوب، والذين كفروا في حيرة يتساءلون كما في عبارة قوله تعالى: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا).
تجد انهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب العجيب، ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل الخلائق، ولا يطمئنون إلى صدق الخبر، وتلاحظ ان الخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وقد جاء انه قال في امثال القران تأمُّل في الآية فإنَّ التأمل في الاية يرشدنا إلى النتائج التالية وهي كما يلي:-
الاولى : انه اعتبر الهدف من الامثال هداية البشرية جمعاء.
الثانية : مسألة المثل ومحتواها تحظى من الأهمية تفوق اهمية المضمون الظاهري والموجودات المذكورة في نفس المثل.
الثالثة : جميع المخلوقات حتى لو كانت بعوضة تعتبر هي كاشفة عن عظمة الخالق المدبر المصور ذو الجلال والاكرام.
ومن هذا تراهم انهم أشاروا إليه بقولهم: في لفظة (هَذَا) استحقارًا للمشار إليه، واستبعادًا له؛ كما في عبارة قوله تعالى من قولهم: (أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)[4].
وتلاحظ هذا هو حال القلوب عند مجيء الحق المنزل عليها كما في العبارة وهي: (قلب يفتتن به كفرًا وجحودًا)، و(قلب يزداد به إيمانًا وتصديقًا).
وكذلك ذكر في امثال القران من ان الهداية والضلالة في نهاية الآية كما يجيب الله تعالى المنافقين كما في عبارة قوله الذين قالوا: (مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِه كَثِيرَاً).
من حيث جاء في عبارة قوله تعالى: (وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ) في هذه الاية وامثالها[5] فهي قد نسبت الضلالة إلى الله كما نسبت الهداية في آيات اخرى[6] اليه كذلك.
فإذا كانت الهداية والضلالة من الله تعالى ونحن مجبورين عليهما ولا إرادة لنا في أي شيء فلماذا الله يثيب المهتدين ويعاقب الضالين بالرغم امن نهم مجبورين على ذلك.
تلاحظ ان هناك آراء مختلفة في تفسير هذه الآية وأمثالها، فبعض قال: ان المراد من لفظة (يضل) هو كلمة (يمتحن) أي ان الله يريد امتحان الناس[7].
فهنا يجيئهم الجواب كما في صورة التهديد والتحذير بما وراء ما سمَّوْه في لفظة (مَثلاً) من تقدير وتدبير؛ وذلك في عبارة كلامه عز وجل: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[8].
ويعتبر هو إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية. أي بمعنى اخر: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهداية يضل به المنافقين والكافرين كل بحسب مشيئته، ويهدي المؤمنين كل بحسب مشيئته.
اذا فكل الأمور مرجعها في النهاية إلى مشيئة الله تعالى المطلقة، التي ينتهي إليها كل شيء. ومشيئته سبحانه تابعة لحكمته وحده لا شريك له.
ولكن قد ذكر في التبيان قال: أى مثل ما فضح الله هؤلاء الكفار وذمهم مثل ذلك يضل من يشاء من الكفار.
وهنا لفظة كلمة الاضلال هي اظهار فضيحة الكفار بما يوجب الذم، ومعنى ذلك هو الحكم عليهم بالضلال عن الحق، والاخبار من أنهم يستحقون اللعن من خلال تكذيبهم رسول اللهn وما انزل عليه.
ونقيض هذا الكلام هي الهداية أي بمعنى اخر ويحكم بهداية المؤمنين إلى الحق ومصيرهم إلى الطاعة، ومن ثم تصديقهم بهذا الحق عند نزوله وقبولهم له.
وهو كما قال ابن عباس وقتادة والضحاك : عدة الملائكة الموكلين بالنار في التوراة والانجيل تسعة عشر.
وتلاحظ انه قد جاء نفس هذا المعنى موضحًا في آيات أخرى؛ فمنها كما في عبارة قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[9].
أي بمعنى : يفعل ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وكذلك تأييدهم، ومن ثم عصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، من إضلال الظالمين وخذلانهم، وكذلك التخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم.
ففعل الله تعالى يعتبر كله حسن؛ وذلك لأنه مبني على الحكمة والصواب. فأما المؤمنين فتراهم يسلمون بحكمة الله تعالى، ويذعنون لمشيئته، وهو لاعتقادهم من أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وحكمة، فيزيدهم ذلك إيمانًا.
وأما الكافرين فينكرون أفعال الله سبحانه، وتراهم يشكون فيها؛ وذلك لأنهم لا يدركون حكمة الله تعالى فيها، فيزيدهم ذلك كفرًا وضلالاً.
وتلاحظ انه في وضع عبارة الفعلين (يُضِلُّ, ويَهْدي) هي موضع المصدر وإشعار من خلال الاستمرار التجددي.
وتلاحظ انه هنا المضارع يستعمل له كثيرًا؛ كما في التعبير لإشارة من أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان والمكان .
كما في الآيات الأُخرى، لهذا ليس هناك دليل واحد على نفي مكية الآية، وخصوصاً لما لها من توافق وإرتباط كامل من الآيات السابقة لها والتي اشارت بشكل واضح وصريح إلى مكيّتها.
ومن ثمّ بعد ذلك يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفّار الذين في قلوبهم مرض من كلام اللّه سبحانه كما في عبارة قول الله تعالى: (كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء).
فإنّ الجمل السابقة أشارت بشكل واضح من أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض واضلال البعض الأخر هو ليس اعتباطاً.
فتلاحظ إنّ المعاندين وكذلك الذين في قلوبهم مرض لا يستحقون إلاّ الضلال، والمؤمنون والمسلّمون لأمر اللّه هم المستحقون للهدى[10] وهو كما في عبارة قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[11].
 وذلك لأن علمه من الغيب. والمراد هو : علم حقيقتها، وصفاتها، ووظائفها، وأعدادها. ولكن الله تعالى يكشف عما يريد الكشف عنه من أمر جنوده، والفيصل هو قول الله في شأنهم.
فتجد انه لِماذا هذا العدد من أصحاب النّار؟ واللّه سبحانه وتعالى قد ذكر العدد كما في ايات القران السابقة خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفراً (أو مجموعة). وهذا العدد صار السبب للحديث بين المشركين والكفّار، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية.
وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على اُولئك ليس أمراً صعباً، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد[12].
وتلاحظ انه ليس لقائل بعد هذا من أن يجادل، أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله تعالى عنه؛ فلا سبيل لأي احد إلى معرفة ذلك، حتى ولو إجمالاً، هذا فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كم وكيف ونسبة وغيرها.
وتجد دقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شيء مما يرجع إلى صفاتهم وهو جاهل بها[13].
كما جاء انه روى أن النبي إبراهيم A لما خرج من النار، أحضره نمرود، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيم؟ أين جنود ربك الذي تزعم؟.
فقال له A: سيريك فعل أضعف جنوده. فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض، فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم؛ حتى كانت العظام تلوح بيضاء، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود، فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها، ثم هلك منها.
وذلك كما قال الألوسي : وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى، لا يعلم حقائقها وأحوالها إلا هو عز وجل.
 ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر، أو يصل إلى مركزها طائر الفكر وهو كما في عبارة قوله تعالى: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَر )[14].
فهي إما أن يعود على عبارة قوله : (جُنُود رَبِّكَ) أو يعود على عبارة قوله: (سَقَرَ وَمَنْ عَليْهَا من جنود ربك). أي بمعنى: وما جنود ربك، أو في عبارة: وما سقر، ومن عليها إلا ذكرى للبشر.
واما عبارة ذكراها للبشر؛ إنما هي جاءت، لغرض التنبيه والتحذير، لا لكي يكون موضوعًا للجدل. وتلاحظ ان القلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، أما القلوب الضالة فتتخذها جدلاً ومرمى.
وكما ذكر المجلسيu في بحار الانوار وقوله في عبارة: (وما هي إلا ذكرى للبشر) قال: يعني اليوم قبل خروج القائم A من شاء قبل الحق وتقدم إليه، ومن شاء تأخر عنه.
قالوا : الضمير إما راجع إلى سقر أو إلى عدة الخزنة أو إلى السورة فمع احتمال إرجاعه إلى السورة لا يبعد إرجاعه إلى صاحبتها، على أنه يحتمل أن يكون المراد به أن تلك التهديدات إنما هي لمن ظلمها وغصب حقها صلوات الله عليها[15].
ويمكن ان يكون فيما قالوا عند من اعتبره الإعجاز العددي في تفسير هذه الآية الكريمة ما يكشف عن حقيقة هذا العدد المذكور.
( 17 ) : - الاية 32 الى الاية 56  من سورة المدثر: وهي في عبارة قوله تعالى: ( كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كَلَّا ۖ بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).
تجد انه قيل معناه إذا ولى يقال[16]: دبر وادبر، وقد قرئ بهما. وقيل: إنما دبر الليل بان جاء بعده النهار وآخره.
واما لفظة كلمة «كلاّ»[17]: هي حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي، ويعني هنا نفي تصور المشركين والمنكرين بجهنّم وعذابها، والساخرين بخزنة جهنّم بقرينة الآيات السابقة.
وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لغرض تعيين الأيّام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.
ثمّ بعدها يضيف عبارة قوله تعالى : (والليل إذ أدبر)، وعبارة قوله تعالى: (والصبح إذا أسفر)[18].
تجد انه في الحقيقة من أنّ هذه الأقسام مرتبطة بعضها بالبعض الآخر ومكملة للآخر، وذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل، ويختفي نوره في ضمن النهار والسبب لتأثير الشمس عليه.
وهذا الليل إن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده اسرار عشاق الليل، فأصبح معلوماً من ان الليل المظلم يكون جميل عندما يدبر ويتجه العالم باتجاه الصبح المضيء وهو آخر السحر.
ومن ثم طلوع الصبح المنهي لليل المظلم يعتبر أصفى وأجمل من كل شيء من حيث يثير في الإنسان النشاط ويجعله غارق في النور والصفاء.
فهذه الأقسام تتناسب ضمنياً مع نور لفظة هداية (القرآن) واستدبار لفظة ظلمات (الشرك) ولفظة عبادة (الأصنام) ولفظة طلوع بياض الصباح وهو (التوحيد).
ثمّ بعدها ينتهي الكلام إلى تبيان ما أقسم من أجله في عبارة قول الله تعالى: (إنّها لاحدى الكبر)[19].
فإنّ الضمير في لفظة (إنّها) إمّا يرجع إلى لفظة كلمة «سقر»، وإمّا يرجع إلى لفظة (الجنود)، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة، وأيّاً كانت فإنّ عظمتها واضحة في غاية الوضوح.
ومن ثمّ بعدها يضيف في عبارة قول الله تعالى: (نذير للبشر)[20].
وهو لكي ينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق كما هو الحق عند بعض الناس في حديث رسول اللهn فهم يمثلون الحق.
وتلاحظ انه في النهاية يؤكّد مضيفاً من أنّ هذا العذاب لا يختص بجماعة من دون جماعة، بل كما في عبارة قوله: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر).
وقد احتمل بعضهم من كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه، وكما قيل هو تقدم النفس. ثمّ إنّه بعده الله سبحانه حلف في هذه الآيات الكريمة بأُمور ثلاثة[21] وهي كما يلي:-
1 – قسم بالقمر على وجه الاِطلاق.
2 – قسم في عبارة (الليل إذا أدبر) أي الليل عند انتهائه.
3 – اقسم بالصبح حينما اسفر وتتجلّى.
وتلاحظ ان المقسم عليه هو يشمل عن ما جاء في عبارة قوله تعالى: (إِنَّها لاِحدى الكِبَر * نَذيراً لِلْبَشَر * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقدَّم أَوْ يَتَأَخَّر).
وبقي اما الكلام حول اين مرجع الضمير في قوله بلفظة «إنّها»، فتجد فيه عنصرين وهما كما يلي:-
العنصر الاَوّل : هو أنّ الضمير يرجع إلى لفظة «سقر» الواردة في الآيات السابقة، أقصد كما في عبارة قوله تعالى: (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبقي وَلا تَذَر * لَواحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيها تِسْعَةُ عَشَر)[22].
أي بمعنى انّ سقر تعتبر هي إحدى الدواهي الكبرى، فهي نذيرة لجميع البشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة اللّه أو يتأخر عنها بمعصيته، واما لفظة «سقر» فهي تعتبر من الموَنثات السماعية.
وقد ورد ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها الموَنثات السماعية في أحدى وعشرون بيتاً من الشعر[23]، وقال العبارة:
وكذاك في كبد وفي كرش * وفي سقر ومنها الحرب والنعلان
العنصر الثاني : تلاحظ أنّ الضمير يرجع إلى الآيات كما في عبارة قول الله تعالى: (كَلاّ إِنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنيداً).
وعليه فان آيات القرآن هي اِحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع من دون المتأخر.
فمما سبق من حديث كان كلّه حول المقسم به، وأمّا المقسم عليه فهو في عبارة قوله تعالى: (إنّها لاِحدى الكبر).
وأمّا ما هي الصلة فيما بين المقسم به والمقسم عليه، فعلى كلام التفسير الثاني من الوضوح بمكانه، من حيث إنّ القمر في الليل الدامس هو يهدي السائرين، كما أنّ بداية الصبح وطروء النهار هي تبدّد الظلام فيظهر النور.
فمن المناسب أن يحلف الله سبحانه وتعالى بأسباب الهداية، ومعادن النور ومظاهره، لغرض الإثبات من أنّ القرآن هو احدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشرية جمعاء إلى سبيل الهداية والرشاد.
وأمّا بناءً على كلام التفسير الاَوّل، من رجوع الضمير إلى كلمة سقر فهنا المناسبة خفية، إلاّ بعد أن يقال من أنّ المقسم به أي كلمة (القمر) في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرى كما أنّ سقراً كذلك.
فلا يخفى عليك من انّ القسم بكلمة (القمر) هو جاء لغرض التأكيد على عظمته، فهو أقرب اَجرام السماء للاَرض وأقل حجماً منها، يدور حول الاَرض مرّة كلّ شهر، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي السبب في المد والجزر والله العالم.

[1]- سورة التحريم الاية 6.
[2]- سورة المدثر الاية 31.
[3]- تفسير الامثل ج19 ص 175.
[4]- سورة الفرقان الاية 41.
[5]- وهو مثل الآيات 88و143من سورة النساء وكذلك الآيات 187و186من سورة الاعراف وكذلك الآيات 23و36 من سورة الزمر والآية 46من سورة الشورى وغيرها.
[6]- وهو مثل الآيات 142و213و272 من سورة البقرة والآية 16 من سورة المائدة والآية 25و35 من سورة يونس وآيات اخرى.
[7]- تفسير مجمع البيان 1 / 68.
[8]- سورة المدثر الاية 31.
[9]- سورة ابراهيم الاية 27.
[10]- الامثل الشيخ مكارم الشيرازيK ج19 ص 178.
[11]- سورة المدثر الاية 31.
[12]- تفسير الامثل ج19 ص 175.
[13]- تفسير الميزان ج20 ص50.
[14]- سورة المدثر الاية 31.
[15]- موسوعة بحار الانوار ج24 ص326- 331.
[16]- تفسير التبيان للشيخ الطوسيu ج10 ص174.
[17]- الشيخ مكارم الشيرازيK تفسير الامثل ج19 ص180.
[18]- كلمة «أسفر» هي من مادة (سفر) على وزن (قفر) ومعناه انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولهذا يقال للنساء المتبرجات هن (سافرات) وهذا التعبير يشتمل تشبيهاً جميلاً وهو (طلوع الشمس).
[19]- كلمة «كبر»: جمع كبرى وهي كبيرة، ولكن قيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم، وهذا المعنى لا يتفق مع ما أشاروا إليه مما سبق وكذلك الكلام مع الآيات.
[20]- كلمة «نذيراً»: هي حال للضمير في لفظة «أنّها» الذي يرجع إلى سقر، ولكن قيل: هو تمييز، ويصح فيما لو كان النذير هو مصدراً ويأتي بمعنى لفظة (الإنذار)، وتلاحظ ان المعنى الأوّل يعتبر أوجه.
[21]- كتاب الأقسام في القرآن العلاّمة المحقّق جعفر السبحانيK ص115 الفصل6.
[22]- سورة المدثر الاية 27ـ30.
[23]-  روضات الجنات : 5 / 186.