ق4
التفسير الفقهي تفاصيله وعوامله ومصادره والمذاهب الفقهية
( و ) - تدوين الجوامع : من خلال البحث ظهر عددٌ من الكتب
الجيدة في مجال البحث الفقهي، مثلاً كتاب «آيات الأحكام»، لمحمد سعيدي اللاهيجي
(1403هـ)، الذي قال فيه عقيقي بخشايشي: إنه شامل لكل آيات وسور القرآن[1].
ومثلاً من الآثار التي تذكر في هذا
المجال كتاب «آيات الأحكام»، لأحمد ميرخاني (1414هـ). وهذا الكتاب يقع في خمس
مجلدات باللغة الفارسية.
والكاتب من تلامذة آيات السيد
البروجردي والميرزا مهدي الإصفهاني، والسيد هاشم القزويني، والسيد صدر الإصفهاني،
والشيخ حجت الكوه كمري. ونتيجة حب المؤلف لهذين العلمين (الفقه والتفسير) إلى
كتابة هذا الكتاب.
ومثلاً نخص بالذكر كتاب «بدايع
الأحكام في تفسير آيات الأحكام»، لمحمد باقر ملكي الميانجي (1420هـ)، وقد ألف هذا
الكتاب سنة 1388هـ ش، وطبع في بيروت عام 1400هـ.
والدكتور محمد الخزائلي، (من مواليد
1292هـ) كتب كتاب «أحكام القرآن» أو «بهين فرمان»، وهو ما يعني بالعربية (الحكم
الأفضل).
والمصنف موزّع على أقسام أربعة:
الأحوال الشخصية، المعاملات، العبادات، والأحكام الاجتماعية، وقد طبعته مؤسسة دار
نشر «جاويدان» للمرة الرابعة.
وهناك غير أحكام القرآن، منها: كتاب
«أعلام القرآن»، وكتاب «فرهنگ قرآن» (ثقافة القرآن)، وكتاب «أصول القرآن»، وكتاب
«روش تعليم قرآن» (أسلوب تعليم القرآن).
ومثلاً هنالك كتاب «فقه القرآن»،
لمحمد يزدي، وهو منظّم بأسلوب مغاير لسائر كتب آيات الأحكام، التي تعتمد على ترتيب
الأبواب الفقهية، وقسم لأربعة أقسام:
العبادات، الحكوميات، العقود
والإيقاعات، والاجتماعيات؛ وعلى الرغم من أن الشروع في تأليف هذا الكتاب كان سنة
1395هـ، فقد طبع للمرة الأولى سنة 1374هـ[2].
ومثلاً من الكتب التي نشرت في هذا
المجال كتاب تفسير جامع آيات الأحكام لزين العابدين قرباني اللاهيجي، ويقع في
ثمانية عشر مجلداً.
ومثلاً كتاب «أحكام القرآن»، للسيد
أبو الفضل برقعي، الذي طبعته دار عطايي. وكتاب «الشيعة وتأسيس التشريع»، لعبد
الحسين شهيدي، وهو شامل لخمسماية وعشرين آية، بدءاً بالطهارة وانتهاءً بالديات[3].
8 - مميزات الفقه القرآني
الشيعي : ان
مميزات فقه القران الشيعي كثيرة جداً فمثلاً لو بحثنا عن الآيات ذات الارتباط
بالمباحث الاُصولية في القرآن الكريم كما في قوله تعالى:
أ ـ قول
الله تعالى : (
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ)[4].
لقد دلّت هذه الجملة المعترضة بقوله
تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) عـلى نفي أي نقص عن الكتاب
وكذلك أنّه لم يهمل شيئاً، فالكتاب تامّ وكامل.
وهنا المراد بالكتاب يشمل العديد من
الاحتمالات وهي:-
الاحتمال الأوّل : المراد بالكتاب هو
كتاب التكوين أو اللوح المحفوظ، فيحصل المعنى حينها أن كلّ مخلوقات اللّه تعالى
مشمولة بعنايته التي لم تترك شيئاً سدى بل أخضعت كل شيء للنظام من حيث ينال كل
مخلوق ما يستحقه من كمال.
الاحتمال الثاني : أن يراد بالكتاب هو
القرآن الكريم، أي إنّ ايات القرآن لم تترك شيئاً له علاقة بهداية الناس إلاّ وقد
بينته .
الاحتمال الثالث : أن يراد مطلق
الكتاب الشامل لكلا المعنيان السابقين، أي بمعنى أنّ اللّه تعالى لا يفرّط فيما
يكتب من شيء، وكما في كتاب التكوين فانّه يقضي ويقدّر لكل نوع من الاشياء ما
يستحقه من كمال، وأمّا في كتابه الذى أوحاه إلى جميع الناس بين كل ما يقتضيه أمر
هدايتهم.
فمن الواضح بناء على الاحتمالين
السابقين (الثاني والثالث) تكون الآية الكريمة دالّة على مرجعية القرآن وأنّه
يحتوي على كل ما يحتاج إليه الناس في طريق الهداية.
وهذه الافتراضات الثلاثة وإن كانت في
نفسها كلها صحيحة ولكنّه يمكن ترجيح الثاني منها أو الثالث منها حتى ولو بمعونة
القرائن المنفصلة، منها ما جاء في الاحاديث من تفسير الآية بهما ولا سيما
الاحتمال الثاني.
ثمّ إنّ شمولية الكتاب للأحكام لا
تعني ذكر كل الأحـكام بـخصوصياتها، فيمكن ان يذكر الحكم أحياناً بشكل مفصّل
واُخـرى بـصورة كـلية عامة وثالثة يمكن ان يذكر طرف منه ويرجع في الباقي إلى
الرسول الهاديJ الذي تكون هدايته جزءاً من الهداية
القرآنية وفي طولها.
من حيث أنّ القرآن هـو الذي نصب
الرسولJ هادياً وأمر المسلمين باتباعه وطاعته، وهذه
من جملة الاُمور اللازمة لهداية الناس بنظر القرآن نفسه، فمن يطع الرسولJ فقد أطاع اللّه, وهكذا الرجوع إلى أهل
الذِّكر وهم الائمة المعصومين من اهل البيتD والسؤال منهم؛ فإنّ الرجـوع اليهم هو رجوع
للقرآن بلا شك.
ب ـ قول
الله تعالى : (وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ
شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[5].
دلّت عبارة المقطع الأخير من الآية
على أنّ القرآن هـو تبيان لكلّ شيءٍ تعلّق بأمر هداية الانسان ممّا يحتاجونه في
اهتدائهم من المعارف المتعلّقة بالمبدأ والمعاد والشرائع والأخلاق، فيصبح بذلك
مصدر يرجَع إليه لغرض أخذ الأحكام.
كما تكفّل القرآن ببيانها وتـوضيحها،
فالقرآن من حيث هو هو لا غموض فيه ولا إيهام بحيث يفهمه كل من له فهم بالمقدار
المتعارف؛ فمرادات الكتاب ومداليل آيـاته جلية وواضحة.
فهذه الآية ركزت على مرجعية القرآن
وشموله لكافّة الأحكام، وكذلك أكدت على بيانية القرآن. فهذا الوصف مطلق، فبلا فرق
بين ما يكون مستفاداً من نصّ الآية وبين ما يكون مستفاداً من ظهور الآية.
ومضافاً لذلك أنّ آيات الأحكام
والتشريعات لها خـصوصية، وذلك باعتبار من أنّها إنشاءات أوامر ونواهٍ، وليست هي
إخبارات عن مغيبات أو عن اُمور اُخرى قد يقتضي الحال إبهامها.
وأما ملاحظة الدقة والعمق في الملاكات
وعدم والضوح وايضا كون فهمها مستعصياً علينا فهو موضوع لا ربط له بالأحكام
والتشريعات نفسها.
وقد بحث بعض المحققين في هذه الآية
من أنّ البيان مرة يراد به البيان المعهود من الكلام وهو إظهار المقاصد والمعاني
من طريق الدلالة اللفظية. وثانية يراد به البيان الأعـم ممّا يكون من طريق
الدلالة اللفظية وغـيرها، فـلعلّه توجد إشارات غـير لفظية كاشفة عن أسرار وخبايا
لا سبيل للفهم المتعارف إليها. فلا داعي لحصر بيانها في المعنى الأوّل.
وجوابه إن أريد من هـذا القول نفي
البيان عن الكتاب كلاًّ أو بعضاً من جهة الدلالة اللفظية؛ والسبب لاحتمال وجود
القرائن غير اللفظية الصارفة للمداليل اللفظية فهذا واضح البطلان؛ لما ذكرنا إنّ
الكتاب من حيث إنّه مجموعة ألفاظ.
فعندما يوصف من أنّه بيان يفهم منه
أنّ ذلك يكون عن طريق الدلالة اللفظية ولا مسلك آخر غيره، وبذلك افـترق بـيان
القرآن عن البيان النبوي؛ إذ أنّ النبىJ قد يبين الحكم عن طريق اللفظ أو عـن طريق
الفعل أو عن طريق التقرير.
يمكن إن اُريد من ذلك أنّ رسول اللهJ قد يلتفت إلى حقائق مـرتبطة بوظيفته كنبي لا
يستطيع غيره ادراكها من خلال بعض الرموز والاشارات اللفظية أو غير اللفظية والتي
لا تـعتبر دلالة لفـظية وضعية.
فهذا على تقدير اشارة الدليل عـليه لا
يـنفى كـون القرآن واضح وبـين بالنسبة للجميع بالمقدار الذى يرتبط بهم كمكلّفين،
فيصبح هذا البيان القرآني حجة تنجيزاً وتعذيراً على كلّ مكلّف فردا فردا.
وكأنّه تـوجد عندنا مرتبتين من البيان
الإولى متناسبة مع المكلّفين، والثانية أرقى منها متناسبة مع النبيJ أو الوليA. ولكن ذلك لا يستفاد من هذه الآية ابدا.
فما هو الداعي لإثارة الشبه
والاحتمالات المستبعدة في مقابال هذه الآية وغيرها من الآيات الواضحة الدلالة على
المطلوب غاية الوضـوح، فهل تجد تعبير أدلّ من مثل هذه الآية على مرجعية القرآن
وحجيته وبيانه.
ولو اعطينا فرصة للتشكيك في بيانية
الكتاب ومرجعيته، وهو الأساس فهل يبقى بعد ذلك اي اعتبار للسنّة الشريفة التي
اكـتسبت شـرعيتها من الكتاب نفسه، وهل يبقى شيء من ديننا بعدها.
ج ـ قول
الله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[6].
الآية الكريمة واردة في خطاب قوم بنى
إسرائيل وذمّهم على تجزئتهم للدين، أخذوا بحكم الفدية فتراهم يمتثلون هذا الحكم
في تخليص الأسرى من الأسر، وفي حـين اخر تركوا حكم القتل والإخراج من الديار
فارتكبوا بذلك مع علمهم من أنّه حرام عليهم، وهنا اعترض القرآن عليهم، إذ أي فرق
بين الحكمين.
فما لكم تطيعون الله في بعض وتعصونه في
البعض الآخـر مع انّ كلا الحكمين واردين في الكتاب. فكأنّكم تؤمنون ببعض الكتاب
وتكفرون بالبعض الاخر.
فمن الواضح أنّ أحكامه تعالى لا تقبل
التبعيض، فترك الأحكام كلاًّ أو بعضاً يعتبر معصية وسلوك غير منطقي وغير عقلائي؛
فطاعة اللّه تعالى واجبة في كلّ حكم، ومعصية اللّه قبيحة مطلقاً.
ويمكن الاستفادة من هذه الكبرى هي
لزوم الأخذ بالكتاب كلّه، وهذه الاستفادة تعتبر تامّة وصحيحة سواء قلنا إنّ
القاعدة المذكورة هي قاعدة تأسيسية أو هي إمضاء لأمر عـقلائي وعـرفي أو إنّها
إرشادية، فعلى جميع التقادير تكون هذه القاعدة مقبولة ومرضية بنظر القرآن.
واللازم الأخذ بالقرآن كلّه من دون
تقطيع سواء كان من أجل فهم ومعرفة مراداته أو عند أخذ الأحكام منه، فالأخـذ
بالعام وتـرك المخصّص والأخذ بالمطلق وترك المقيد، وكذا الأخذ بالمتشابهات وترك
المحكمات أو العكس فكلّ هذا معناه تجزئة وتبعيض القرآن.
وهذه المخصصات والمقيدات حتى ولو جاءت
في السنة فعليك الأخذ بها؛ لأنّ الأخذ بها هو أخذ بالقرآن الذى أعطى للرسولJ دورا في هداية الناس إلى اللّه لا على نحو
الشركة بل على نحو الطولية والرتبية.
د ـ قول الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[7].
قد فسّروا هذه الآية الكريمة بتفسيرين
وهما:
التفسير الأوّل : أنّها تبين كيفية فهم الكتاب وطريقة
التعامل مع آياته. من حيث بينت مسلكين وأنّ المسلك الثانية هو الصحيح دون الاُول.
أمّا المسلك الاُول فهو الأخذ بنوع
خاص من الآيات وترك ما سواها، وهو الأخذ بالمتشابه بدون الرجوع للمحكم. وهي
طريقة المنحرفين والسطحيين ومن في قلوبهم زيغ الذين يريدون فتنة الناس عن
دينهم.
وأمّا المسلك الثاني وهو الأخذ بكلّ
آيات القرآن بدون تبعيض، وهو النهج المنطقى الذى يتّبعه الراسخون في العلم
الذين يؤمنون بالكتاب كلّه. وهذا تفسير الآية هو الصحيح .
التفسير الثانى : لاحظ الآية تنهى عن اتباع الآيات
المتشابهة، وهذا النهى شامل للظواهر كذلك؛ فالمحكم ما يكون نـصّ في معنى واحد لا
غبار عليه، على خلاف المتشابه وهو ما يكون له العديد من المعاني يشبه بعضها
البعض فتحتار معها، وليس من الصحيح حمل اللفظ على معنى دون الآخر ما دام ثمة معان
اُخرى ربما تكون مقصودة من اللفـظ.
فالمـتشابه لوحظ فيه وجود معنيان
متشابهين كل منهما له صلاحية من أن يكون مراداً للقرآن وإن كان أحدهما أقرب
وأشدّ علقة باللفظ من الآخر.
وبناء عليه ادّعى البعض من انّه
استفاد من هـذه الآيـة عدم حجّية ظواهر آيات القرآن لأنّها من المتشابه المنهى
عنه في الآية. ونسب ذلك إلى الأخباريين في مقابل الاُصوليين القـائلين بحجية
الظواهر مطلقاً كتاباً كانت أو سنّة .
وقد ذكر المحققين على هذا الاستدلال
مناقشات كثيرة، منها انه ليس المراد بالتشابه هو التشابه المفهومي وعدم تعين
المعنى، بل المراد هو التشابه بلحاظ عالم المصاديق والتـطبيق.
أي بمعنى أنّ هناك اُناس منحرفين في
قلوبهم زيغ فيتبعون الآيات التي لا تخلو مـصاديقها من غموض وإبهام، مثل
استواء (الرحمن) على العرش فهو ليس لفظ متشابه للمعنى.
بل تلاحظ الابهام فيه يـنشأ في مقام
التصور والمصداق المناسب له تعالى وما يؤول إليه المعنى من المـصداق المـتحقق
في الخـارج. فهؤلاء المنحرفين يتعمدون إلى هذا الصنف من الآيات لتشويش الأذهان
ابتغاء الفتنة. ويتركون الآيات المحكمة التي من الـسهل تصوّر مصاديقها وتطبيقها
خارجاً.
إنّ هذا التشابه لا يشمل الظاهر،
وذلك لأنّ مجرّد قابلية هذا اللفظ من أن يـستعمل في كلا المعنيين لا يجعله
متشابها إذا كان واضح وبين في أحدهما، بل التـشابه متحقق عـندما تكون نسبة كل
من المعنيين إلى اللفظ متساوية أو متقاربة، وهذا لا يحدث إلاّ في المجمل ولا
يشمل الظـاهر.
فالآية لم تردع عن اتباع المتشابهات
ولم ترد بعبارة «لا تتبع المتشابهات»، بل نهت عن الاقـتصار عـلى العـمل
بالمتشابهات فقط وقطع صلتها في المحكمات بالرغم من انها اُمّ الكتاب.
ويؤيده ما قالوا من أنّ الآية نزلت
في نصارى نجران الذين كانوا يـثيرون الشـبهات حول النبي عيسىA ويتمسكون بالآيات المتشابهة فقط ويتركون
المحكمات.
فمن الواضح عدم الجواز من أخذ
المتشابهات مـن دون مـراجعة النصوص المحكمة، وكذلك عدم جواز تبعيض القرآن والعمل
ببعض الآيات دون البعض الاخر.
فقد تبين أنّ الصحيح عدم دلالة الآية
على النهي عن العمل بحجية ظواهر الآيات، وإلاّ فالتسليم بتلك الشـبهة سـيؤدي
إلى تعطيل المصدر الأوّل للشريعة، وهو ما يتنافى مع ضرورة الدين القطعي.
كما وردت أحـاديث كثيرة تضمّنت
الاستدلال بظواهر الكتاب عـلى بـعض الأحـكام الشرعية حتى تحوّل ذلك إلى سيرة
مستحكمة في المجتمع الاسـلامي من حيث بات ذلك من المسلّمات عندهم. وتلحظ ان للفقه
القرآني الشيعي تميزٌ واضح من نواحي عديدة على ما عند باقي فرق الإسلام، نشير إلى
بعضها كما يأتي:
( أ ) - التمسك بنهج أهل
البيت D : من المميزات الهامة التي اتصف بها فقه
القرآن عند الشيعة هو أنه تمسك بالاحاديث المأثورة عن أهل البيت Dفي المجالات العديدة كما في:
شرح مجملات آيات الأحكام، وتبيين
المبهمات منها، وبيان الأحكام الجزئية، وتقييد المطلقات، وتخصيص العمومات في
القرآن، فلم يكن هذا إلا تمسّكاً لما جاء عن رسول اللهo قال:
« إني تارك فيكم أمرين، إن أخذتم بهما
لن تضلوا: كتاب الله عز وجل؛ وأهل بيتي عترتي.
أيها الناس اسمعوا، وقد بلغت، إنكم
ستردون عليّ الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان:
والحقيقة أن الشيعة الامامية هم
الوحيدين الذين اتبعوا النبيo واتبعوا من بعده عترته الطاهرة، أي الأئمة
المعصومينD في بيان وتفسير آيات الأحكام وغيرها.
وقد ذكر الشهيد السيد حسن الشيرازيH في كلمة الامام المهديA انه قال: ان التاريخ يكشف أن جميع أئمة أهل
البيتD وأكثر قادة الشيعة وكثير من أفراد الشيعة
قتلوا، وأن التشيع كان ولا يزل محارباً لسببين:
الأول: إنه يمثل عنفوان الحق، والحق
مر لأنه لا يحابي ولا يساوم.
والثاني: أنه يجسد قمة الإسلام في
أصالة الفكر وشمول الثقافة. وكل قمة محسودة.
فأمّن التشيع الثروة العاطفية
للإسلام، كما أمّن القرآن والسنة الثروة الفكرية للإسلام. ولذلك وجدت عقدة الانتقام
لدى الشيعة.
من جملة تضحيات أهل البيتD في سبيل الإسلام، أنهم لم يندفعوا نحو
الانتقام ولم يدفعوا شيعتهم إلى الانتقام، ليبقى الإسلام غنياً بالعاطفة كما هو
غني بالفكر، لأن هذا البشر الهائج المائع لا يأخذ كله بالفكر، فلا بد من أخذ بعضه
بالفكر وأخذ بعضه بالعاطفة.
فإذا جاءت دولة الحق وتكاملت عقول
الناس على يد الإمام المهديA بحيث أصبحت الرقابة الفكرية كافية لشد
الجماهير بمصالحها الحقيقية التي تتمثل في الالتزام بالقيم. استغنى الإسلام عن
العاطفة بالفكر، وحكم الإمام المهديA السكين في المفصل.
فأئمة أهل البيتD كانوا يركزون على أن
الإمام المهديA ينتقم من أعداء الله، لينفسوا عقدة الانتقام
المستفحلة في نفوس الشيعة[9].
( ب ) - الأسلوب
المقارن مع المذاهب الاخرى: ويعتبر
هذا أيضاً من نقاط الامتياز للفقه القرآني عند الشيعة الامامية عن ما عند غيرهم من
باقي المسلمين.
حيث إن علماء اهل السنة حاولوا بشكل
عام التعرض لآراء من يوافقهم في الفكر الأصولي، واجتنبوا ذكر رأي الشيعة في
دراستهم المقارنة.
ولكن الشيعة الامامية قد ذكروا آراء
أهل السنة، مستهدفين بذلك الاطّلاع على آرائهم، وأحياناً الإجابة على بعض الشبهات
والمسائل.
ومن باب المثال ناتي بنموذج على هذا
ونعطر افواهنا بذكر الفاضل المقداد الذي ذكر في تفسير آية قوله تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ)[10] قال:
(إن المراد من الصلاة عند الشيعة
المسجد (أي مكان الصلاة)، ويوافقهم في هذا المذهب الشافعي، ويخالفهم أبو حنيفة)[11].
ومثال اخر في تفسير آية (لا يَمَسُّهُ
إِلا المُطَهَّرُونَ)[12] يقول الفاضل المقداد: إن المقصود من
«المطهّرون» المطهّرون من الحدث والخبث، كما هو مروي عن الامام الباقر A ويوافقنا في ذلك المذهب الشافعي والمالكي
والحنفي[13].
وهذه الميزة، التي يتميز فيها فقهاء
الشيعة اعزهم الله وإن كانت موجودة في الكثير من الكتب، إلا أنها مشهودة في البعض
أكثر من الآخر، فمنها:
كما في كتاب «كنز العرفان في تفسير
القرآن»، كما قد أشرنا سابقاً، فالمؤلّف تعرض للأحكام الفقهية في الآيات على
المذاهب الأربعة، ثم حاول إثبات حقانية المذهب الجعفري، وذلك بعد مباحث التفسير
والقراءة.
وناتي هنا من الكتب الجديرة بالذكر
«تفسير آيات الأحكام وفق المذهب الجعفري والمذاهب الأربعة»، للسيد حسين الطباطبائي
اليزدي.
( ج ) - الأسلوب
الفقهي : ومن
مميزات فقه القرآن عند الشيعة هي أنهم التفتوا إلى الأسلوب والترتيب المطلوب؛ وذلك
رعاية لهوية مادة تفسير آيات الأحكام الثنائية الأبعاد، فهي مادة فقهية، وفي نفس
الوقت مادة تفسيرية.
ثم إن فقه القرآن يعتبر نوع من
التفسير الموضوعي، بناءً على أن موضوعه مشخص ومحدد خارج إطار القرآن، وهو علم
الفقه الرائج.
ولكنه بينما حافظ اهل السنّة على
الترتيب الموجود في القرآن، وكان أسلوبهم عبارة عن بحث كل آية بحسب ترتيب ورودها
في ايات القرآن.
فمن المعلوم عندك أنه لا بد من بحث
المواضيع الفقهية، كلية كانت أو جزئية، على نحو يعطي المركزية للموضوع، وإلا فلن
تتمكن من الوصول إلى ما يريده القرآن بشكل نهائي في أي موضوع فمثلاً:
إذا بحثنا الحج من خلال أسلوب موضوعي
فمن الطبيعي نبتدأ بشرط الاستطاعة، مروراً بالإحرام والمحرمات، ومن ثم بعدها باقي
مناسك الحج، على حسب ما هو موجود من ترتيب في هذه الأعمال.
ولا يمكنك أن تبدأ بالحديث عن السعي
بين الصفا والمروة، ومن بعدها تتصدى لغرض بيان محرمات الإحرام، ومن ثم تتحدث عن
فريضة الحج كموضوع كلي، وفي النهاية تذكر المناسك الأخرى.
ويستلزم هذا الأسلوب أن تبحث بعض
المواضيع تكراراً، كلما تكررت الآيات واحدة واحدة.
( د ) ـ النزعة العقلية : لاحظ تميز فقه القرآن عند الشيعة
بصبغة عقلية، وذلك تبعاً للأصول المعتمدة في علمي الفقه والتفسير عندهم.
وهذا معناه عندما لا يتوفر عندنا دليل
نقلي في مجال تفسير آيات الأحكام فإننا نتمسك بالدليل العقلي, كما يتم الاستعانة
به في حالات تأييد أو رد بعض المطالب.
كما قال المقدس الأردبيلي في تفسير
آية: (..وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم
مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)[14] قال:
إن الآية ظاهرة في نكاح المتعة، ولم
يأتِ أي دليل عقلي أو نقلي من الكتاب أو السنة بما ينسخ هذا الحكم، فمن جهة يثبت
هذا النكاح بالكتاب والسنة والإجماع، وهذا ما لا يُنقض إلا بدليل يقيني آخر، عقلي
أو نقلي، وهو غير محصل[15].
وكما قال القطب الراوندي في تفسير
آية: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ
السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[16] قال:
إن وجه تقدم الوصية على الدين في هذه
الآية هو أن رد الدّين واجب عقلي؛ لذا قدم الوصية، ليقول لنا: إن الوصية أيضاً
واجبة[17].
ثامناً : الخلاصة او
النتيجة : في
نهاية المطاف يظهر لنا بوضوح أن النشاط العلمي في ميدان تفسير آيات الأحكام خلال
فترة الربع الأول من القرن الخامس عشر يعادل كل ما بذل في القرن الرابع عشر
بأكمله.
ومن جهة ثانية إن ما أنجز خلال هاتين
الفترتين (125سنة) يعادل الإنجازات كلها منذ نشوء علم فقه القرآن، وهو عدد يقرب من
المائة بين تأليف وتعليقة وحاشية على متون بعض الكتب.
وإذا ما قارنّا (بحسب الإحصاء) الشيعة
الامامية بغيرهم من الفرق الإسلامية الاخرى تجد أن الشيعة ينفردون بنصف كل
المؤلفات في مجال البحث الفقهي القرآني.
وبناءً على هذا الإحصاء نجري مقارنة
بين الشيعة وكل فرقة على جهة سيكون ما أنجزه الشيعة متراوح بين عشرة إلى عشرين
ضعف، مقارنة مع المذاهب الأربعة، والشيعة الزيدية، والظاهرية، والأباضية، وغيرهم
ممن ألـّف بهذا المجال.
وبالطبع هذا مع صرف النظر عن التفسير
الباحث لآية واحدة أو عدة آيات، أو تفسير موضوعي تحت عنوان فقهي معين، وكذلك
المقالات ورسائل التخرج، التي كتبت ضمن مجال تفسير آيات الأحكام.
ومن خلال علاقة ايات الاحكام بالإنسان
والسنن الاجتماعية فيعتقد علماء الاجتماع الوضعي (الرأسمالي والماركسي وغيره) أن
السنن الاجتماعية لها صفة الإلزام على نحو الإطلاق على الإنسان من حيث يتحول
المخلوق أمامها إلى مجرد آلة لا حول لها ولا قوة.
ويرجع هذا التوهم الى عدم التمييز بين
أشكالات السنن الاجتماعية، بالإضافة إلى عدم ادراك الصفة الثالثة من صفات السنن
الاجتماعية، وهي الإنسانية.
وناتج عدم التمييز أن المشتغلين في
علم الاجتماع الوضعي تصوروا أن السنن الاجتماعية كلها من السنن الصارمة المتحققة
الوجود، ولم يلتفتوا إلى (السنن الشرطية) ولا إلى (الاتجاه الموضوعية).
وهذا ما أوقعهم في تناقض فإما أن
يسلبوا من الإنسان حريته وإرادته واختياره مقابل السنن الاجتماعية، وإما أن ينفوا
وجود هذه السنن فيرجعوا الى علم الاجتماع عندهم وهي نقطة الصفر.
فاختاروا الخيار الأول، فاصبح اليوم
الإنسان بلا دور فاعل في مجتمعه بسبب تصورهم الخاطئ للسنن الاجتماعية.
ولكن المذهب الاجتماعي القرآني استطاع
أن يحل هذا الإشكال بكل بساطة، حينما ميز فيما بين أشكال سنن المجتمع، وبالتالي
اصبح سهولة التمييز فيما بين الصيغ الممكنة للعلاقة بين إرادة الإنسان والسنن
الاجتماعية.
فعلى صعيد السنن الصارمة، تلاحظ أن
إرادة الإنسان لا أثر لها هنا. فهو لا يستطيع أن يقف امام تحققها أو يغير من
اتجاهاتها، أو حتى لو أن يتحداها. فهي كـ(القدر المكتوب) على المجتمعات البشرية
التي لا تملك خيار رفض أو قبول مثل هذا النمط من السنن الاجتماعية. فـ(الحرية معدومة).
ولكن الموضوع هنا يختلف على صعيد
السنن الاجتماعية الشرطية. فهذه السنن مشروطة دائماً من خلال اختيار الإنسان
وإرادته وفعله، حيث أن أجزاءها لا يتحقق ما لم يحقق الإنسان شرطها.
فمثلاً : تغيير البنية العليا لاي
مجتمع لا يمكن أن تتم ما لم تتغير البنى التحتية لهذا المجتمع. وهذه البنية
التحتية هي تحمل المحتوى الداخلي والفكري والنفسي لجميع المجتمع.
فإذا قام الناس بتغيير محتواهم
الداخلي (وهذا اختيار إنساني ومحض وحر) أمكن تغيير البنى العلوية للمجتمع كما في
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ)[18].
ومن هنا اتضح أن السنن الاجتماعية
الشرطية لم توضع على حساب الإنسان ولا تصادر إرادته وفعله، بل إن إبداع الفرد
واختياره يتجلى من خلال هذه السنن، فهي إحدى قنوات التأثير الإنساني داخل حركة
التاريخ والمجتمع.
إن السنن الاجتماعية الشرطية هي تؤكد
اختيار الإنسان بنفسه وتضع القرار بيده وبالتالي تعرفه بنتائج عمله مسبقاً، لكي
يبقى اختياره قائماً على أساس معرفة العواقب والنتائج.
وبذلك يكون اختيار الانسان مسؤولاً،
ومدركاً وواعياً وهذا هو المعنى الحقيقي للسنن الاجتماعية ذات طابع الإنساني، تحت
مظلة طابعها الموضوعي الرباني, من حيث أن هذه السنن (صيغتها الشرطية) تتعلق
بالإنسان وبإرادته.
وأما السنن الاجتماعية التي تشكل
إتجاهات عامة، فتلاحظ ان الإنسان يمتلك هامشاً أضيق للحركة والفعل والتأثير،
ويتجلى هذا الهامش بوضوح في إمكانية تحدي السنن ولكن لفترة وجيزة وهذا التحدي
يعتبر نوع من المرونة أو نطلق عليها الحرية في مقابل السنن الاجتماعية.
ولكن مما سبق يعتبر هذا الهامش ليس في
مصلحة الفرد لأن تحدي الإتجاهات الموضوعية العامة مثل السباحة عكس التيار الجاري
يستهلك طاقات الإنسان ولا يحقق أي إنجاز.
وهكذا اتضح مفهوم القرآن في علاقة
الفرد بالسنن الاجتماعية فالإنسان يتمتع بحرية في مقابلها، ولكن هي ليست حرية
مطلقة، بل حرية نسبية، من خلال لحاظ شكل السنة الاجتماعية التي يتم قياس الحرية
بها.
فلا يقوم البناء الاجتماعي على فراغ
ابداً، بل لا بد له قاعدة تحتية يرتكز عليها, وهذه القاعدة الأساسية تعتبر شيء
جوهري وضروري لكل كيان يريد لمجتمعه التماسك والبقاء ويهدف الى الرفاه والسعادة
والعزة.
ذلك لأن القاعدة الأساسية هي محرك
الصميم الذي يمد المجتمع بالحيوية والنشاط، وتحفظ للمجتمع وحدته وتماسكه، وتكون
نقطة البداية لكل الأعمال فيه, وهي – بعد كل هذا ـ العنصر الذي يحتل مركز الحارس
للمجتمع عن الانحراف والتردي والخروج عن الأهداف والخطوط التي يرسمها ويعمل لاجلها[19].
حاول علم الاجتماع الوضعي، وبالخصوص
علم الاجتماع الماركسي, المنبثق عن المادية التاريخية، من أن يفرض الوضع الاقتصادي
لكل مجتمع هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية وما اليها
من جميع ظواهر الوجود الاجتماعي.
وهذا الوضع الاقتصادي يتألف من عنصرين
هما : قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج. وهذه هي القوة الكبرى التي تصنع تاريخ الناس
وحياتهم وتطورهم[20] فمن خلاله نقرا كتابات أئمة
الماركسية وهي مثل:-
نقل انه ذكر كارل ماركس قال: ( ومجموع
علاقات الإنتاج هذه تشكل البناء الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الواقعي الذي يقوم
عليه بناء علوي حقوقي وسياسي، وتطابقه كذلك أشكال معينة من الوعي الاجتماعي
والسياسي والفكري بصورة عامة، فليس وعي الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل على العكس
من ذلك،معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد وعيهم).
وثم يقول أنجلز: ( أن التطور السياسي
والحقوقي والفلسفي والديني والأدبي والفني... إلخ يستند إلى التطور الاقتصادي).
ومن بعدهِ قول ستالين: (فالناس...
يتغير ويتطورون بتغير أدوات الإنتاج).
وكذلك قول بليخانوف: (أن الوضع
الاقتصادي لشعب ما هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب يحدد
بدوره وضعه السياسي والديني) ثم يقول: (أن علاقات الإنتاج تحدد جميع العلاقات
الأخرى التي توحد بين الناس في حياتهم الاجتماعية، وأما علاقات الإنتاج فيحددها
وضع القوى المنتجة).
فمن الطبيعي أن تقول أن النظرية
الاجتماعية في القرآن ترفض هذا القول لسبب جوهري وهو أنها تتجاهل الدور الفاعل
للفرد الذي نعتبره القوة الأساسية لحركة التاريخ والمجتمع, في ضمن دائرة تركيبية
وصيغة متكاملة بحتة.
وبمعنى اخر إن حقائق الحياة المشاهدة
والملموسة تكشف عن عوامل أخرى لا تقل أهمية عن عوامل الاقتصاد, لقد كان لها الأثر
المؤثر في بناء المجتمعات ومجريات أحداث التاريخ.
بالإضافة إلى أن هناك كم هائل من هذه
الاحداث والظواهر حدثت من دون أن يكون للعامل الاقتصادي فيها أي دور يذكر. وتصدى
مفكري الإسلام لنقد هذه النظريات وإثبات عدم واقعيتها، فلا نرى حاجة لإعادة لما
قيل وقال.
إذاً المذهب الاجتماعي القرآني يرفض
هذا الربط المقلوب فيما بين الوضع الاقتصادي للمجتمع وبين نظامه في النبية العليا,
فالإسلام يرى أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس في بناء الحياة الاجتماعية.
ويمكن ان يتضح لك هذا المفهوم من خلال
ملاحظة الآيات القرآنية التالية كما في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم)[21].
وكما في قوله تعالى: ( ذلك بأن الله
لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن الله سميع عليم)[22].
وكما في قوله تعالى: ( ولو أن أهل
القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما
كانوا يكسبون)[23].
تلاحظ آية سورة الاعراف أن القران
الكريم ربط فيما بين عبارة (بركات السماء والأرض)، وهي تعبير عن ازدهار الوضع
الاقتصادي للمجتمع، من جهة، وبين عبارة (إيمان القوم وتقواهم) من جهة اخرى.
وقد جعل من هذا الإيمان بمثابة البناء
التحتي أو قاعدة الأساس للمجتمع، وفي نفس الوقت حينما اعتبر الازدهار الاقتصادي
نتيجة لتلك القاعدة وثمرة لها.
واما الآية في سورة الانفال فتلاحظ أن
القرآن الكريم ربط بين تغيير النعمة الإلهية (تعبير عن تدهور وضع الاقتصاد
بالمجتمع) من جهة، وبين تغيير الناس ما بأنفسهم من جهة أخرى، وقد جعل ذلك التدهور
الاقتصادي نتيجة انحراف المحتوى في داخل نفوس الناس (أو المجتمع).
ونصل إلى آية سورة الرعد تلاحظ
النظرية القرآنية في أحكم تعبير لها حيث تنص على أن (تغييرما بالقوم) وهذا تعبير
واضح عن تغيير النظام الاجتماعي بكافة فروعه العليا وهو من باب النتيجة الحتمية
لتغيير (مابأنفسهم) وهو المحتوى الداخلي الفكري والنفسي لجميع المجتمع الواحد.
النتيجة : ان المحتوى الداخلي للإنسان
هو الأساس في البناء العلوي للمجتمع بكل ما يحتوي من علاقات وأنظمة وأفكار
وتفاصيل. ويتمثل هذا المحتوى الداخلي للفكر والإدارة.
من حيث يقوم الفكر بتزويد وإعطاء
الإنسان تصوراته العامة عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع والنظام الاجتماعي
الصالح بنظرته هو.
في نفس الحين تمنح الإرادة الإنسان
الطاقة الروحية التي تدفعه إلى إقامة البناء الاجتماعي على أساس تلك الفكرة
والتصورات التي اخذها من الفكر.
فالمجتمع ليس ظاهرة مادية فقط، بل هو
ظاهرة معنوية، لأنه الصيغة المنظورة لعقيدة ما توجه وترسم طريق حياة طائفة من
الناس وتطبعها بطابعها, فلعله من المدركات الطبيعية أن الإنسان كائن ذو عقيدة يسير
او يمشي عليها في حياته الدنيا.
ولم يحدث في الماضي ولن يحدث في
المستقبل أن يوجد مجتمع يمارس حياته بغير عقيدة تنظم له هذه الحياة. فالخلاصة ما
دام لا عقيدة ولا نظام اذا فلا مجتمع يوجد على الإطلاق في الواقع.
فعقيدة الفرد هي النافذة التي يطل
منها على العالم, وهي التي تحدد له أسلوب تعامله مع محيطه المادي والاجتماعي
اللذين يعيش فيهما.
فالحركة ولا بد أن تكون هي التعبير
الحي المتجدد المعبر عن العقيدة الحافزة والمنظمة للنشاط الإنساني وعليه, فإن
تاريخ أي مجتمع إنساني هو في الواقع تاريخ حركته في نطاق العقيدة الموجهة له وهو
في الوقت نفسه تاريخ العقيدة التي فرضت على المجتمع صياغة حياته بهذا الأسلوب
المعين بكمية تجاوب المجتمع مع عقيدته وتفاعله معها.
ومعناه أن المذهب الاجتماعي القرآني
قد قلب كلمات كارل ماركس رأسا على عقب، حيث حصل الاتي: (أن وعي الافراد هو الذي
يحدد معيشتهم) . وهذا الوعي هو ما أطلقنا مسبقا عليه اسم المحتوى الداخلي.
فكيف نؤسس بناء المحتوى الداخلي
للانسانية وما هي المحاور الذي تستقطب المحتوى الداخلي لهم وكيف يتشكل الوعي.
إن أساس بناء المحتوى الداخلي هو
(المثل الأعلى) الذي يعتبر نقطة البداية في بناء الجماعة البشرية، ولكل مجتمع (مثل
أعلى) يحدد الغايات التفصيلية لها، ومرتبط بوجهة نظر عامة للكون والحياة والمجتمع،
ويتحدد من قبل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامة هذه.
فمن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب
مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها تتحقق إرادة الجماعة للسير باتجاه ذلك المثل.
اذاً (المثل الأعلى) يتجسد من خلال رؤية فكرية محددة، وطاقة روحية تدفع بالمجتمع
بالسير نحو خطى ذلك المثل الأعلى.
وتعتمد نسبة ذلك التطور والتنظيم
الاجتماعي وشموليته وعدالته مع درجة استيعابه لحاجات الفرد ومساحة استيعابه
لملابسات الحياة الاجتماعية ومتطلبات المجتمع المقصود.
وكل ذلك يعتمد على مقدار ما يستطيع
(المثل الأعلى) تقديمه من تصورات وحلول ووسائل ومناهج لتنظيم الحياة الاجتماعية
وبناء المجتمع وغيرها.
حينما تعمل استقراء للمجتمعات البشرية
القائمة والسابقة تلاحظ أن هذه المجتمعات تختلف اختلاف كبير في اختيار مثلها
الأعلى, فالمجتمع النازي جعل العنصر الآري هو (مثله الأعلى).
ووضع كل أهدافه السياسية وخططه
العسكرية وتنظيماته الاجتماعية على أساس خدمة (المثلى الأعلى) له وضمان الرقي والتطور والمصالح.
ولكن استقراء المجتمعات الرأسمالية
تجد بصورة عامة أنها تجعل (الفرد) وحريته الخاصة (مثل أعلى) لها، بينما تجعل
المجتمعات الشيوعية الطبقة العاملة (مثل أعلى) لها.
واما الأمم المستعمرة فهي تعتبر تحقيق
الاستقلال السياسي هدفها الأعلى، وتلاحظ ان الأمم التي تعاني من التقسيم او
التجزأة تعتبر تحقيق وحدتها هو هدفها ومثلها الأعلى. وتلاحظ أيضا أن الشعوب
المطرودة من أوطانها تعتبر استعادة الوطن والعودة إليه هي (المثل الأعلى) لها.
وتلاحظ في المجتمعات الفرعونية
القديمة والحديثة يكون الزعيم او الفرد هو (المثل الأعلى)، كما في قول فرعون
لقومه، كما في قوله تعالى: (أنا ربكم الأعلى)[24].
وتجد إن بعض الناس (في حالة نكسته)
يتخذون من هوى أنفسهم (المثل الأعلى)، كما في قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ الهه
هواه)[25].
وهذه حالة يتصاعد فيها هوى النفس تصاعد
مصطنع حتى يصل الى انه هو المثل الأعلى والغاية القصوى لهذا الإنسان أو ذاك.
وتجد أن القران الكريم أطلق على المثل
الأعلى لفظة (الإله) باعتبار أن (المثل الأعلى) هو القائد الآمر الموجه المطاع.
وهذا هو المعنى لكلمة (آله). فالـ(مثل العليا) باختلاف أسمائها وأشكالها هي (آله)
لأنها مطاعة ومعبودة.
ومن خلال الاستقراء السابق للمثل
العليا ظهر على أنها ثلاثة أنواع وهي كالتالي: أحدهما المثل الأعلى المنخفض
(أوالتكراري) والاخر المثل الأعلى المحدود, والثالث والأخير هو المثل الأعلى
المطلق, والله العالم.
[1]- طبقات مفسران شيعه: 1192.
[2]- نقلت من المصدر هكذا مثل ما
موجود. نحن نحتمل خطأ بالترجمة.
[3]- طبقات مفسران شيعه: 1192.
[4]- سورة الانعام الاية 38 .
[5]- سورة النحل الاية 89 .
[6]- سورة البقرة الاية 85 .
[7]- سورة ال عمران الاية 7 .
[9]- اصول الكافي 1: 293.
[10]- سورة المائدة الآية 43
[11]- عبد الله بن عبد الله، الفاضل
المقداد، كنز العرفان، تحقيق: عبد الرحيم عقيقي بخشايشي، الطبعة الثانية، طهران،
نويد إسلام.
[12]- سورة الواقعة الاية 79
[13]- الفاضل المقداد، كنز العرفان،
تحقيق: عبد الرحيم عقيقي بخشايشي، الطبعة الثانية، طهران، نويد إسلام.
[14]- سورة النساء الاية 24.
[15]- أحمد الأردبيلي، زبدة البيان في
أحكام القرآن: 654، تحقيق: رضا أستادي وعلي أكبر زماني نجاد، الطبعة الثانية، قم،
مؤمنين، 1378هـ ش.
[16]- سورة النساء الاية 11.
[17]- هبة الله الراوندي، فقه القرآن
1: 385.
[18]- سورة الرعد الاية 11.
[19]- جماعة العلماء، ص126.
[20]- اقتصادنا ص 21 .
[21]- سورة الرعد الاية 11 .
[22]- سورة الانفال الاية 54 .
[23]- سورة الاعراف الاية 95.
[24]- سورة النازعات الاية 24.
[25]- سورة الفرقان الاية 43 .