الأربعاء، 12 أبريل 2017

الايجاز والإعجاز وتنوع البيان في قصة سورة يوسف بالقران الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم
الايجاز والإعجاز وتنوع البيان في قصة سورة يوسف
ايجاز البيان في قصة يوسف A: تجد ان الايجاز يشكل من خلال وصفه صورة من عوامل البيان في البلاغة القرآنية، في كتاب الله عز وجل فقد تميز نص القرآن عموماً بالتركيز والتكثيف، ومن ثم الوصول إلى جوهر المعنى من خلال القول الموجز والإشارة الدالة عليه.
وتُستثني من ذلك البعض من آيات القران التي اقتضى البيان الإلهي من أن تأتي على شكل مفصّل، لكن هذا التفصيل لا ِيُحَمِّلَ (بالكسر) التركيبَ فوق ما يحتمل المعنى أو يقتضيه. ففي ذلك بيان البلاغة التي استدعت الإطناب والتفصيل في مكان، والإيجاز والتكثيف في مكان آخر.
وقد تجلت عبر التاريخ ظاهرة الإيجاز في قصة نبي الله يوسفA في عاملين أساسيين وهما: أحدهما الإيجاز في اللفظ. والاخر الإيجاز بالحذف.
فتلاحظ انهما متداخلين، متشابكين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولهذا تجد إن الحديث عن الإيجاز في القصة أقتضى بالضرورة بحث هذين العاملين في ضمن سياق واحد.
ولكن وقوفك على مواطن الإيجاز في القصة ومن ثم الإشارة إلى ما تحمله من دلالات بيانية أمر متعذر، فكل عبارة جملة[1] تحتاج إلى وقفة مطولة، من دراسة وتحليل، على حد سواء فهماً او تدبراً ، إذا ما أردنا دراسة جانب من جوانب تركيبها البياني.
ولهذا اقتضى من أن نقف على بعض مواطن الإيجاز في القصة، وهو لعلنا نجد فيه مثالاً لما يذخر فيه نص القرآن من الإيجاز البياني الذي يمثل جانب من جوانب إعجاز القرآن، وهو مما لا يكون لبشر مهما أوتي من فصاحة القول وبلاغة بالمعنى.
ولابد من الاشارة في البداية إلى أن قصة النبي يوسفA جاءت في السورة عبر مجموعة من المشاهد، التي ترتبط فيما بينها ترابط عضوي، فالانتقال فيما بين المواقف إلى آخر القصة يتم في اغلب الاحيان من دون رابط سردي، ولكن الارتباط من خلال رابط السببية فيما بين المشاهد، يغني عن السرد المحذوف، ويقوم بدوره، ويخلق في الوقت نفسه حالة من حركة التعبير.
فمن هنا كان الإيجاز في القصة يقوم على التقاط بعض المشاهد منها، ومن بعدها بحثها ضمن دراسة تحليلية تبين دور الإيجاز في صياغة القصة صياغة فنية رفيعة وعالية.
عبارة قوله تعالى : ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ).
من خلال ذكر مسألة الرؤيا بدأت قصة نبينا يوسفA، وهي هكذا من دون تمهيد أو مقدمات فهذا غالباً ما تحفل بمثلهما قصص الأدب، في حذفهما هنا.
وهذا البدء من خلال ذكر قضية الرؤيا هي إشارة بليغة إلى أنها مسألة جوهرية ومحور رئيسي في البناء القصصي، فمن خلاله يكون البدء بذكرها قد أدعى إلى لفت النظر إليها، ومن ثم التركيز عليها، وهذا مما لا يكون لو أنّه ذكرها من دون سبق بتمهيد أو مقدمات.
وقولهA في عبارة (إني رأيت) ثم بعدها توكيده بـلفظة كلمة (رأيتهم) ليس فيه ما أشار إلى أن ما شاهده كان على وجه الحقيقة من تلك الرؤية وهو من قبيل المعجزة التي ليست غريبة على بيت النبوة، أو أنه في المنام من تلك الرؤيا وذلك لأن فعل لفظة كلمة (رأيت) يصلح في حالتي لفظة (الرؤية) ولفظة (الرؤيا).
ولكن هنا يأتي دور كلام نبي الله يعقوبA كما في عبارة قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) إذ لم يقل لفظة كلمة (رؤيتك) وذلك لكي يدلّنا من أن الرؤيا كانت هي في المنام.
فلو ذكر نبي الله يوسفA ذلك لكان في مخاطبة أبيه تكرار لما سبق ذكره، فتحصل حذف السابق وذلك لدلالة ما سيأتي عليه، وهذه سمة أسلوب البيان القصصي في سورة يوسفA كما سياتي ان شاء الله تعالى.
ولكن ربما قيل لك: لماذا لا يذكر ذلك الأمر في البداية ومن ثم يحذف تالياً فينتفي بذلك التكرار المدعى؟.
يقال لك : إن هذا سيفقد عنصر التشويق، ومن ثم يلغي إثارة التساؤل، وتحفيز الفكر، مع المخيلة، وتعتبر تلك عناصر مهمة ومؤثرة في بناء فن القصة، فكلما كان البناء الفني ممتاز كان أقدر واقوى على إيصال الفكرة، ومن ثم تحصيل الفائدة، وبه إدامة الأثر.
وفي عبارة قوله تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ).
فمن خلال هذا عقّب عميد الاسرة النبي يعقوبA على ذِكْرٍ ابنه رؤياه، وفي كلامه هذا مما قد يثير نفس النبي يوسفA حقداً على إخوته وكراهية لهم، فأراد النبي يعقوبA أن ينسب أسباب الكيد إلى عداوة الشيطان لجميع الإنسانية.
وهو لكي يؤكد لنبي الله يوسفA أن كيد إخوته له - لوحدث - فليس صادر من طبع فيهم وسجية يتمتعون بها، كلا: بل إنه من وساوس الشيطان، فدفع بذلك ما قد يثار في نفس النبي[2] يوسفA على إخوته.
وجاء ذلك في عبارة قوله تعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فورد في تلازم التحذير من إخوته ومن ثم ذكر عداوة الشيطان للإنسان ضمن سياق واحد وهو ما يغني عن طول الشرح وكثرة التفاصيل.
ولعلك تلحظ من أن تحذير النبي يعقوبA ابنه النبي يوسفA من إخوته جاء مقتضباً موجزاً، فلم يذكر الأسباب التي ستدفعهم –إخوته- إلى الكيد له مع إظهار العداوة، لكي يأتي ذكر ذلك كله فيما بعد على لسان إخوة النبي يوسفA في عبارة قوله تعالى:
( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ). وقد أجتمع إخوة يوسف لغرض التشاور في أمره، وإيجاد طريقة للتخلص منه، حينما طرحت الآراء في عبارة قوله تعالى:
( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ *قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ).
فتجد هنا ثلاثة آراء وهي أحدهما: اقتلوا يوسف والاخر: اطرحوه أرضاً واما الثالث: ألقوه في غيابة الجب. فلم تشر الآية، للطريقة التي أجمعوا عليها، وما هو القرار الذي توصلوا إليه، بل تلاحظ انتهى الأمر بهم في هذا المجلس بحسب ما تلي بالآية.
عندما حددوا وطرحوا الآراء والتشاور الذي لم يأتي من بعده أي اتفاق نهائي أو إجماع، كما هو بحسب آية القران وهذا الحذف يثير التساؤل حول ما ينوون فعله، وقد أضطربت آراءهم واختلفت، لنكتشف، بعدها، ان الذي اتخذوه أثناء مشاوراتهم وقبل تنفيذه ذلك في عبارة قوله تعالى:
( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) فلفظة كلمة (أجمعوا) في هذا المكان تدل على أن ذلك الأمر لم يكن مجمعاً عليه حتى ذلك الوقت، ولربما تجد بينهم من لم يكن راضياً عن هذا القرار، ولكنه استسلم لرأي الأكثرية فأصبح الأمر إجماعاً.
ومن أماكن الحذف ما سيتجلى في عدم ذكر العذر الذي سيرجع به إخوة النبي يوسفA إلى أبيهم من بعد التخلص من أخيهم، فلا يعقل أن الموضوع لم يكن موضع اهتمامهم ومدار نقاشهم.
وتجد ان الحذف جاء لإثارة الفكر، مع المحافظة على عنصر التشويق من باب، ومنعاً للتكرار من باب أخر، وذلك لأن ادعاءهم من أن الذئب أكل أخاهم سيذكر في موقف ثاني كما في عبارة (عند لقائهم أباهم) ورجعوا من دون أخيهم، وبلا شك من أن تأجيل قول ما اتفقوا عليه إلى هذا الموقف أكثر أهمية من ذكره في الموضع السابق.
ومن ثم حصل ان اتفقوا إخوة النبي يوسفA على التخلص منه، وقد بيّتوا عذراً لكي يحملونه لأبيهم من بعد أن يتم لهم ما خططوا له، ولم يبقى أمامهم إلا من خلال إقناع أبيهم بأخذ النبي يوسفA معهم في قوله تعالى: (َقالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ).
ولاحظ البيان الإلهي، وتأمل هذه البلاغة القرآنية فيما أنطوى عليه قولهم هذا من المعاني المتعددة التي أشارت في مجملها لطبيعة العلاقة فيما بين الأب وأبنائه بما تعلق بشأن أخيهم النبي (يوسفA)، لتجد أنها علاقة مبنية على فقد الثقة وعدم الاطمئنان.
ففي عبارة قولهم: (مالك لا تأمنّا) فهي - على قلة ألفاظها - مما يدل على أن إخوة النبي يوسفA قد حاولوا لأكثر من مرة الانفراد بأخيهم ولكن أبوهم يقف حائلاً بينهم وبين ما يريدون، وذلك لشعوره كأب ونبي معصوم من أن ابنه النبي (يوسفA) لم يكن بمأمن ما داموا تفردوا به.
وعبارة قولهم (مالك لا تأمنا)، دلت على حال دائمة، وقائمة، ومألوفة، وتدل كذلك - جاءت بألسنة إخوته – من أنهم يدركون بأنفسهم ليسوا موضع ثقة أبيهم لهذا تجدهم حين عودتهم من دون أخيهم يقولون في عبارة قوله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) هنا أكدوا إدراكهم غياب الثقة عن نفس أبيهم تجاههم.
فما كان ردّ نبي الله يعقوبA أمام ادّعاء أبنائه في عبارة قوله: إلا أن: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
فلاحظ في عبارة قوله تعالى، حكاية عن النبي يعقوبA: (سوّلت لكم أنفسكم) أي بمعنى زيّنت لكم، فإنكم إنما مكرتم بأخيكم ابتغاء منفعة تظنون، واهمين، من أنكم ستحققونها بفعلكم هذا. لكنّ أنفسكم خدعتكم وغرّتكم وأملت لكم الأمور بغير ما ستنتهي إليه.
وهو ما كان بالفعل حقيقة، فما فعلوه كان قصدهم تغييب النبي يوسفA لكي يخلو لهم وجه أبيهم، وينفردوا بمحبته إياهم، ولكن الأمر سار على عكس ما أرادوا.
إذ بقي أمر النبي يوسفA يشغل بال أبيه مدة غيابه عنه حتى ضجر منه ممَن هم حوله في عبارة قوله و: (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ). فلاحظ عبارة قوله: سولت لكم أنفسكم ، فكم استطاعت هذه العبارة من أن تعبر عن المعنى المراد بإيجاز شديد.
وعبار قوله تعالى: ( وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
فبهذه الآية الكريمة قد وصف الله تعالى إخراج النبي يوسفA من البئر، من خلال بعض المسافرين من التجار، وقد ورد ذكر إخراجه من البئر موجزاً، ومختصراً، ولكنه إيجاز رائع ومذهل يغنيك عن السرد الطويل والشرح المفصّل الممل.
تلاحظ تتالي الأفعال بالآية الكريمة تتالياً سريعاً، متصف بالرشاقة، بلفظة حرف (الفاء) العاطفة التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال وتعاقبها من دون فارق زمني، ومعنى ذلك أن المسافرين حينما اصبحوا على مقربة من البئر أسرعوا بإرسال من يجلب لهم الماء في عبارة قوله: (فأرسلوا واردهم).
فأسرع بدوره ملبياً حاجتهم لغرض إحضار الماء بسرعة في عبارة (فأدلى دلوه) وهنا أختفت لفظة (الفاء) كما في عبارة (قال يا بشرى) ولم يقل سبحانه عبارة قوله تعالى: (فقال يا بشرى).
وذلك لأن البشرى تقتضي المفاجأة، وهذا ما يتحقق بحذف لفظة حرف الفاء لتأتي العبارة مفاجئة، لغرض الدلالة على البشارة فتأمل كلام الوارد وهو مستبشراً كما في عبارة قوله تعالى: (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ).
وعبارة قوله تعالى عن المسافرين الذين وجدوا النبي يوسفA: كلمة (سيّارة) وهي صيغة مبالغة من اسم الفاعل، فتدل على أن من شأنيتهم كثرة السير، فهم تجار قد تعودوا السير في هذا الطريق، ومن خلال كثرة سيرهم بهذا الطريق يعرفون البئر.
ويدل عليه سرعة إرسالهم الوارد حال اقترابهم من ذلك البئر وقد (دلت عليه فاء العاطفة) من دون وجود ما يشير إلى أنهم وجدوا أي مشقة في اكتشاف هذا البئر.
ويمكن ان يوحي هذا غير ما ذهب له إلبعض من مفسّري الآية من أن إخوة النبي يوسفA ألقوه في بئر بعيدة جداً عن طريق المارة، وهؤلاء السيارة المذكورين قد ضلوا طريق سفرهم، فوجدوا هذا البئر بحكمته تعالى.
فتلاحظ ان عادتهم هي السير بهذا الطريق في عبارة قوله تعالى: (إذ هم سيّارة) يبعد من الذهن إمكانية من أن يضلوا طريقهم. وإسراعهم بإرسال الوارد لا يوحي من ان إيجادهم للبئر مصادفة، بل ربما دلّ على معرفتهم من وجود بئر بهذا المكان الذي وصلوا إليه.
ولنرجع إلى كلام إخوة النبي يوسفA عند تشاورهم في أمرهA في عبارة قوله تعالى: (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ)، والفعل لفظة كلمة (يلتقطه) هي جواب الطلب لفظة (ألقوه)، وجواب الطلب هي نتيجة له، فلو أنهم ألقوه في بئر بعيدة لتحصل التقاط بعض السيارة إياه أمر غير وارد، بل لربما هلك قبل أن يهتدي لمكان وجوده أي أحد.
وجاء الإيجاز في أجمل صوره، ومن أكثرها إيحاء، كما في عبارة قوله تعالى: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) فأما لفظة كلمة قوله تعالى: (أسرّوه) أي بمعنى تعاملوا مع الأمر بسرية، وهنا معناه أنهم خافوا من أمراً غير معلوم ولـ(ربما أدعى ملكيته أحد أو أي شيء ولا فائدة هنا من التحديد).
وأما لفظة كلمة قوله تعالى: (بضاعة) فهي تدلّ على أن هؤلاء تجّار، ومن المحتمل تجار رقيق، لان هذا النوع من الكسب كان رائج ومنتشر في،  حينها ولذلك استبشروا حينما عثروا على الغلام وذلك من كونه بضاعة لها قيمتها وأهميتها. فهل تأملت كم اختزلت هذه العبارة وهي: (وأسروه بضاعة) من كثرة المعاني والدلالات.
ومن ثم تأتي عبارة قوله تعالى: ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ).
وهي لكي تثير في النفوس تساؤلات مهمة من كيفية إيجاد الغلام ومن ثم التعامل معه من خلال وصفه بضاعة رابحة فهو أمراً يبعث البشرى في نفس الوارد ورفاقه، ثم باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين.
وهذا يثير التساؤل ولكن يعلله ما ذكر في الآية السابقة، كما في عبارة قوله تعالى: (وأسرّوه بضاعة) وهذه السّرّية كما ذكرنا مسبقاً تعني الخوف، وهو الذي دفعهم لبيعه بأي ثمن، فعملهم هذا خير لهم من أن يفقدوه من دون مقابل كان ثمن او غيره.
أو يبقى عبئاً عليهم وذلك لأن ملكيتهم له لم تكن مشروعة، لهذا استعجلوا بالخلاص منه، ومن يستعجل الخلاص من أي شيء وخصوصاً اذا كانت بضاعة يبيعها بأي ثمن (بخس)، ويكون زاهداً فيها.
وقد أشتراه رجل من مصر وهو (العزيز) وكما ذكر القران وصى زوجته من أن تكرم مثواه، ولكن امرأة العزيز تجاوزت حدود الزوجية -حينما كبر- إلى درجة العشق والتعلق، فهاجت عندها وسيطرت عليها (الرغبة) فرغبت به وراودته عن نفسه، ومن ثم غلقت الأبواب، فأبى وأصرت كما في قوله تعالى:
( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
وعبارة قوله تعالى: (واستبقا الباب) أي بمعنى استبقا إلى الباب وهنا لفظة كلمة (الباب) هي اسم منصوب بنزع الخافض, أي بمعنى  أراد كل منهما (الطرفين) أن يسبق الآخر إلى الباب هو لكي يفتحه واما هي غايتها منعه، ولكن رأى بعضهم أن في عبارة قوله تعالى: (واستبقا الباب) بالمعنى الذي ذكرناه هو إيجاز قرآني بياني بلاغي.
ولك أن تضيف إلى ذلك من أن الصيغة التي جاءت عليها لفظة كلمة (استبقا) فهي تدل على تكلّف الفعل مع بذل المشقة في سبيله، فهي تحمل دلالة البيان أعمق.
فتجد فيها أن امرأة العزيز أسرعت إلى الباب وقد بذلت جهد مقترن بعزيمة وإصرار على ارتكاب المعصية والفاحشة من دون أن يثنيها عن ذلك حتى ولو خاطرة عابرة في ذهنها ويشعرها بالتراجع عما أقدمت على فعله.
ونأتي الى المقابل وهو النبي يوسفA فانت تعلم انه قد بذل كل مشقة في سبيل الوصول إلى ذلك الباب, ويحتوي على دلالة قطعية من أن ثمة عزماً شديداً منهA على تجنب ارتكاب الفاحشة[3] من دون تراخي أو تهاون أو حتى مرور خاطر بالنزول عند رغبتها.
وعبارة قوله تعالى: ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ).
وهذا المشهد لنقف لحظة عنده وهي شهادة الشاهد، ولفظة كلمة (شاهد) جاءت من المشاهدة، وامرأة العزيز ونبي الله يوسفA لم يكن معهما أي أحد لكي يكون شاهداً على ما حدث.
ولعل هذا الشاهد رأى موقف امرأة العزيز والنبي يوسفA قد ألفيا سيدها لدى الباب، وذكروا ان الشاهد في مسألة (قدِّ القميص) لا تعني بالضرورة عدم رؤيته قميصهA وقد (قُدَّ من دبر)، وإلا فلا معنى لهذه الشهادة.
فتسأل نفسك كيف خطرت له قضية القميص, أَوَلم يكن من الممكن ألا يكون نبي الله يوسفA مرتدياً قميصاً في ذلك الموقف حينها.
فظاهر الكلام معناه أن امرأة العزيز ذكرت قميص يوسفA لكي تجعله كدليل على مقاومتها إياه ومنعه هو من فعل الفاحشة، ولم تُؤشر إلى الجهة التي قُدَّ منها ذلك القميص.
وكأن هذا الشاهد - خارج الباب برفقته- وقد سمع ما حدث من دون أن يراهA، فرأى أن يجعل ذلك القميص كدليل إدانة أو براءة، ولكن هنا تنبّه العزيز إلى هذه المسألة الخطيرة فعرف بها كيد زوجته، وتأكد من براءة النبي يوسفA مما اتهمته زوجته به.
ويعتبر هذا من عوامل حذف البيان البلاغي في هذه القصة، فلم تذكر الآية إلى أن امرأة العزيز اوردت مسألأة (قدّ القميص) كدلالة على براءتها.
ولاحظ ان مما ذكر في هذا الموقف بالتفصيل من قول الشاهد كما في عبارة قوله تعالى: (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) وعبارة قوله تعالى: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ).
فكان من الممكن بحسب بيان بلاغة القرآن اختزال هذا الكلام من الاكتفاء بالجزء الأول منه، فهو يتضمن في ظل وجود الشرط معنى لجزئه وعبارة قوله تعالى: ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ).
ولكن اورد جانب من دون الآخر، أو التفصيل في جانب والإيجاز في آخر - لو جاء بهذا النحو- لربما حمل دلالة على ميل الشاهد إلى الاحتمال الذي فصّل فيه، لهذا جاءت عبارة قوله في الاحتمالين متساوية من حيث عدد الكلمات، وذلك كحرص منه على أن يكون دقيق في قوله، ومنطقياً في رأيه، وحيادياً، وعادل، في سبيل الوصول للحقيقة.
فإن عبارة قوله تعالى: ( قال نسوة في المدينة ) تدل على تفشي وتسرّب الخبر من القصر ومن ثم انتشاره على نطاق ضيّق، فلم يصل الى حدّ الشيوع والعموم، وذلك لان لفظة كلمة (نسوةٌ) هي اسم جمع قلّة، وهذا ما مكن امرأة العزيز من دعوة هؤلاء النسوة إلى قصرها.
وعبارة قوله : و( نسوة في المدينة ) هي تقليل لشأن هؤلاء النسوة فقد ورد هنا ذكرهن منكراً، وهو على عكس ما ذكر في الآية نفسها في عبارة قولهم: (امرأة العزيز) وهذا دليل على أنهن دونها شأناً ومكانةً آنذاك.
وقد فصّلوا القول في هذه الآية، فرأوا أن نسبة زوجها العزيز يعتبر أدعى إلى استعظام الأمر، فهي من جانب متزوجة وهي من جانب آخر (ذات نفوذ وسلطة) فأمرها يعتبر أعظم سوءاً من سواها.
ولفظة كلمة (تراود) هي مضارع دلت على التجديد والاستمرار، أي بمعنى كان هذا ، وما يزال، دأبها وديدنها حتى لحظة قولهن، فهي في مقام تفعل ذلك من خلال الإصرار والاستمرار.
ولفظة كلمة ( فتاها ) أي بمعنى عبدها أو مملوكها، وآنذاك ينظر إليه أكثر تشنيعاً وتشهيراً لانها حملت أسم وهو كما في عبارة (امرأة العزيز) أي بمعنى ذات النفوذ والسلطان، وقد سمي من راودته عن نفسه بلفظة كلمة (فتاها)، وهو تذكيراً بتبعيته لها ومملوكيتها له.
وعبارة قوله : ( قد شغفها حباً ) أي بمعنى وصل حبه الى درجة وساحة سويداء قلبها وتمكّن من السيطرة تماماً.
وعبارة قوله : ( إنّا لنراها في ضلال مبين ) فقد جاء قولهن هذا تأكيداً بمؤكدين اثنين له واحداهما زيادة في استنكارهن فعلها، والاخر بعيد كل البعد عن الصواب والرأي السديد. فان تأملت اكثر لتبقى حسرة في قلبك فكم حملت هذه الكلمات القليلة الموجزة من معاني ودلالات.
وعبارة قوله تعالى:  ( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ).
تلاحظ ان عبارة قوله تعالى: (آتت كل واحدة منهن سكيناً)، تعتبر إشارة إلى أنها وضعت لهن أصناف من الفواكه وغيره، بشرط مما يحتاج أكله لاستخدام السكين لقطعه.
واما عبارة قوله تعالى : (سمعت بمكرهن) فهذا دل على أن ما قالته النسوة قد تناقلته ألسن الناس (كثرت أو قلّت) حتى تناهى الخبر إلى ان وصل الى سمعها. فتجد ان سماع الأمر غير عبارة السماع به.
فتلاحظ ان السماع بالأمر معناه أن هناك ثمة واسطة أو ناقل فيما بين القائل والسامع، وبين المرسل والمتلقي، وهذا مما يؤكد تناقل الخبر، حتى لو على نطاق محدود معين.
وتجده يفسّر في الوقت نفسه علّة سجن النبي يوسفA رغم رؤية الدلائل على براءته، فأخذ الخبر بالانتشار فيما بين الناس، حتى اعتبر سجنه أدعى إلى إلصاق التهمة به مع تجريمه، وتبين امام الناس ان ذلك يبدو الأمر محاولة اعتداء عبد على سيدته، وقد نال جزاءه وهو السجن.
ثم بعدها خرج نبي الله يوسفA من السجن بعد تأويل رؤيا رآها الملك وجهل تأويلها أصحابه ممن يحيطون به، ولما أن علم الملك بقصة النبي يوسفA مع النسوة، واطلع على براءته مما اتهم به.
ثم قال في عبارة قوله تعالى : ( قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) لاحظ عبارته في قول الله تعالى حكاية عن الملك وهي: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) فقد اشتملت لفظة كلمة (أستخلصه) على العديد من المعاني فمنها:-
لفظة كلمة (أستخلصه ) : أي بمعنى أنجيه من كربته أو مصيبته، وأختاره، وأصطفيه لنفسي، ولفظة أختصه: أي أجعله خالصاً لي.
لفظة كلمة ( أستخلصه ) : بمعنى المبالغة من ( أخلصه ) وهي تدل على شدة حرص الملك على اصطفائه لنبي الله يوسفA، واختياره إياه، لكي يكون من خاصته لملكه.
وعبارة قوله تعالى : ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ).
وتجد هنا ان في الكلام محذوف, أي بمعنى لما كلمه الملك أعجب بحسن منطقه، ورجاحة عقله، واتزانه، مما زاده إعجاباً وتعلقاً به، فارتقى بعلاقته بنبي الله يوسفA من العلاقات الخاصة، فجعله مقرباً إليه، إلى أن يجعل له المكانة المرموقة والرتبة العالية في ملكه.
وحينما علم النبي يوسفA علوّ منزلته لدى الملك، وتيقن من ثقته به، ومحبته إياه وهو يؤدي لعدم رفض أي طلب طلب منه في عبارة قوله تعالى: فـ(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
وعبارة قوله : ( إني حفيظ ) ، وردت رداً على قول الملك في عبارة (مكين أمين) أي إنني أهل للثقة، حافظ للأمانة.
ثم بعدها أضاف لذلك لفظة قوله ( عليم ) أي بمعنى عالم بإدارة الأمور المالية في الدولة، لما يضمن تحقيق العدل والمساواة فيما بين الرعية.
ومن خلال حوار الاية تعلم أن وزارة المالية انذاك لم تكن قادرة على إدارة شؤون الدولة الاقتصادية، فأراد نبي الله يوسفA أن يشغل هذا المنصب بأمر من الله ولدرايته، وعلمه به.
فلا تجد دليل مثل هذا ويعتبر أدل على ذلك هو قول نبي الله يوسفA عند تأويل رؤيا الملك في عبارة قوله تعالى:
( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
تلاحظ أنّ النبي يوسفA لم يكتفِي بتأويل الرؤيا بل ضمّن ذلك بإيجاد الحلول، فلو كان من يدير شؤون اقتصاد البلد انذاك قادراً على إيجاد الحلول، لوقف نبينا يوسفA عند حدّ تأويل الرؤيا فقط وترك أمر الحل لأصحاب الشأن.
ولعله من احد الاسباب ما طرحه النبي يوسفA كحل للمشكلة من قبل وقوعها كان هو السبب في جعل الملك أكثر إيماناً بأهليّة يوسف لهذا المنصب.
فلو صحّ ما ذهب إليه البعض وهو أن الرجل (أي العزيز) الذي اشتراه هو من كان يشغل منصب وزير المالية انذاك، ففي ظلمه للنبي يوسفA وسجنه إياه، رغم تأكده من براءته، يعتبر دليل كافي على أنه ليس أهلاً لهذا المنصب، فهو على هذه الحال ليس بعادل فيما بين الرعية.
ومرت اعوام وجاءو إخوته لكي يكتالوا في سنوات الجدب، ولكن النبي يوسفA أصر إلا أن يعودوا فيحضروا أخاهم بنيامين حتى ينال حصته بنفسهِ، فرجع إخوته وراودوا عنه أباه حتى جاؤوا به من بعد أن أعطوا أباهم ميثاقاً غليظاً.
من أن يحفظوا أخاهم بنيامين من كل سوء ما لم يغلبوا على أمرهم كما في عبارة قوله تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
ولاحظ في عبارة قوله تعالى : ( آوى إليه أخاه ) وكم فيها من إيجاز في الألفاظ، وغنىً بالمعاني والدلالات.
فمن يلحظ لفظة كلمة (آوى) في كتب المعاجم سيجد أنها تأتي بمعنى: أعاد، وضمّ، وأحاط، وأنزل عنده، وأشفق، ورحم، ورقّ. وتآوت الطير: أي بمعنى تجمعت بعضها إلى بعض. وتآوى الجرح: أي بمعنى تقارب للبرء.
هل لاحظت بيان بلاغة القرآن العظيم وكم لهذه الكلمة وحدها من المعاني التي تصوّر حال النبي يوسفA عند لقائه أخاه من بعد فراق طويل دام سنوات.
ثم بعدها تأتي عبارة قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
هنا الآية الكريمة أشارت إلى أمر مثير للاستغراب، فلاتجد ولا يعلم المتلقي أية داعي او حاجة تلك التي دفعت نبي الله يوسفA إلى إلصاق تهمة السرقة بأخيه.
إذاً هناك ثمة أمر كان يضمره النبي يوسفA بوضع الصواع في رحل أخيه كما في عبارة قوله تعالى: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ).
ولا تجد في نص الآية الكريمة ما يشير إلى أنهA كان قد اخبر أخاه بما ينوي فعله، لكي لا يفاجأ أو يفزع من وجود الصواع في رحله أمام مرأى من إخوته، والبعض من خاصة يوسفA.
فلقد أرادA بفعله هذا أن يستبقي أخاه بنيامين فاظمر لذلك ودبّر، لكن ما فعله النبي يوسفA لم يكن في حقيقته إلا وحياً من الله سبحانه كما في عبارة قوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ) ويمكن ان يأخذ من فعله هذا حكم شرعي.
فحاول إخوتهA العودة مع أخيهم بنيامين إلى أبيهم، وراحو يقنعون يوسف كل مذهب وحجج لكنهم يفلحوا كما في عبارة قوله تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا).
ولفظة كلمة (استيئسوا) : هي صيغة مبالغة من كلمة يئسوا، ومعنى ذلك أنهم بذلوا في سبيل إقناعه كل الجهد ولم يفلحوا، وحينما بلغوا غاية اليأس اعتزلوا الناس ومضوا بطريقهم، منفردين في جانب بعيد عنهم، لكي يقلّبوا وجوه الأمر فيما بينهم.
وتلاحظ ان استخدام صيغة مبالغة من يئسوا لفظة كلمة (استيئسوا) فيه التزام بما عاهدوا أباهم عليه حينما أعطوه ذلك الموثق من الله وأن يحفظوا أخاهم ما لم يغلبوا على أمرهم، ولهذا بذلوا في سبيل ذلك كل جهد، واتبعوا كل وسيلة.
وبقي التناجي والكلام فيما بينهم ففيه ما يدل على طرح أمر لا يريدون من غيرهم أن يطّلع عليه أي احد لهذا كانت نجواهم فيما بينهم متعلقة بهذين الأمرين كما في عبارة قوله تعالى: (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ).
ومضت الأحداث فأكتشف إخوته أن العزيز ما هو إلا ذلك الغلام الصغير الذي ألقوه سابقاً في غيابة الجب منذ سنوات بعيدة، فاعتذروا إليه، وحملوا قميصه، وعادوا به ليلقوه على وجه أبيهم، فيرتد إليه بصره من بعد أن فقده حزناً على فراق ولديه.
وأنتقل جميعهم إلى مصر فجمع الله تعالى نبيه يعقوبA بابنه يوسفA وذلك من بعد غياب طويل، كما في عبارة قوله تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ).
فها هي لفظة كلمة ( آوى ) ترجع من جديد، وقد تضمنت معاني التآلف، والتئام الجرح، وتحمل في ضمن طياتها معاني الرحمة بأبويه، والعطف عليهما، وقد أصبحا طاعنين في السن.
وتنتهي قصة نبي الله يوسفA بدعائه كما في عبارة قوله تعالى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
فهل نظرت الى تلك المعاني العظيمة التي اشتملت بالدعاء بإيجاز شديد كما جاءت بالآية الكريمة السابقة ففيها أمور منها:
منها أثنان نالهما النبي يوسفA من ربه في الدنيا وهما في عبارة قوله تعالى: (آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).
ومنها أثنان طلبهما النبي يوسفA من ربه لآخرته وهما في عبارة قوله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
ومنها أثنان متعلقان بصفات الله تعالى أحدهما : القدرة والخلق كما في عبارة قوله تعالى: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).
والثاني : الإلوهية والوحدانية كما في عبارة قوله تعالى: [أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا (بما وهبتني) وَالآخِرَةِ (بما أرجوه منك)].

فهل لاحظت آداب الدعاء في قولهA فقد بدأ دعاءه بالاعتراف بفضل الله تعالى عليه بالدنيا، بما وهبه من العلوم والملك. ثم بعدها أثنى عليه بما هو أهله.
واختار بدعائه من صفات الله تعالى القدرة، والخلق بعبارة قوله: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، فخالق السموات والأرض هو وحده القادر على إجابة الدعاء.
ثم بعدها أقر بعبوديته لله تعالى، وتوحيده إياه، والافتقار إليه، باستعطاف، واسترحام، وتذلل كما في عبارة قوله: (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ).
ثم بعدها طلب من الله تعالى أن يتوفاه على الإسلام ويلحقه بالصالحين السابقين الاولين.
ففي هذا البيان جمع نبي الله يوسفA في دعائه بين خيري الدنيا وهو: (العلم والملك) وخير الآخرة وهي: (الوفاة على الإسلام، والحشر مع الصالحين في الجنة) طالباً ذلك كله من خالق السموات والأرض ومن فيهما، ووارثهما ومن فيهما وهو الله تعالى.

[1]- ليس في القصة وحدها بل في جميع القرآن الكريم.
[2]- هذا الكلام بناءاً على من جوز على الانبياء اشياء كثيرة من ضمنها الوسواس واما الشيعة الامامية فكل ذلك لا يجري لان جميع الانبياء معصومين منذ لحظة الولادة الى يوم الوفاة.
[3]- لانه معصوم, وحتى مجرد خاطر تمر بالذهن على المعصية فهي منتفية لدى المعصوم.