الأربعاء، 12 أبريل 2017

صور تمثيل الاعمال بالسراب من اعجاز البيان


صور تمثيل الاعمال بالسراب من اعجاز البيان
صور التمثيل في اعجاز البيان: جاء انه ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم عبارة قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)[1].
تجد في هاتين الآيتين الكريمتين قد مثَّل الله تعالى أعمال الذين كفروا بتمثيلين، شبه أعمالهم في المثل الأول في عبارة: بسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، وشبهها في الثاني بظلمات في بحر لجيٍّ.
واما مناسبة الايتين لمَا قبلهما فأنه تعالى قد ذكر-مما سبق- حال المؤمنين الذين نوَّر قلوبهم وعقولهم بنوره، والذي تجلَّى في السموات والأرض، لتجده قد تبلور في بيوته، التي أذن أن ترفع, ويذكر فيها اسمه.
فعبدوا ربهم مخلصين له الدين، وعمَروا بيوته من خلال الذكر والتسبيح، فلا يشغلهم عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة اي شاغل، ولا يصرفهم عن ذلك اي صارف.
وذلك لانهم يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، فلا تثبت على شيء من ذلك الهول والكرب والاضطراب العظيم، فيعلقون رجائهم بثواب الله، الذي وعدهم.
فيحقق الله تعالى وعده، لكي يجزيهم ثواب أعمالهم مضاعفًا، ويزيدهم من فضله ما لم يكن يخطر لهم في بال احد؛ ومن ذلك عبارة قوله تعالى:
( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَا)[2].
وهو كما عن جابر عن ابي جعفر A في قوله (في بيوت أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه) قال هي بيوت الانبياء وبيت علي A منها[3].
ولكن في مقابل ذلك ذكر الله تعالى حال الكافرين، الذين أعرضوا عن نور الله سبحانه، وأغلقوا دونه بصائرهم وأبصارهم، وقد آثروا الظلمة على النور، والضلال على الهدى فمثَّل لهم ولأعمالهم بهذهِ التماثيل الحافلة بالحياة والحركة.
وتجد انه يقتضي الأول منهما أن أعمالهم، التي يحسبونها نافعة لهم في آخرتهم؛ إنما هي أعمال باطلة مخيبة لهم في العاقبة، ومهلكة لهم، ولا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب[4].
وقد أقتضى الاخر منهما حالها في الدنيا من أنها في غاية الضلال والغمة، التي مآلها ما جاء من تناهي الظلمات في عبارة قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ).
واما الثالث فان اعمالهم كيف تجسدت على شكل نور في الدنيا والاخرة ولكن جزاء الاخرة اعظم واكبر فأما صورة الاقتضاء فهي كالتالي:-
صور تمثيل الاعمال بالسراب : فهو عبارة قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[5].
وهي تصوِّر أعمال الذين كفروا في بطلانها، وعدم انتفاع أصحابها بها، وذلك حينما يكونون في أشد حاجة النفع، على شكل سراب بقيع، يحسبه الظمآن ماء، فيتعلق به قلبه، ويسعى إليه حثيثًا لاهثًا.
فكلما بلغ فيه سعيه مرحلة، تراه تحرك أمامه، ويفلت من بين يديه فهكذا إلى أن تتقطع أنفاسه، وتخور قواه.
ومن بعد هذا الجهد المتواصل، والمعاناة الشاقة تصل إلى حيث كان يخيل إليك من أنه ماء، فلا يجده أي شيئ؛ فتتضاعف لهذا حسرته، ويشتد يأسه وقنوطه، وتغلي مراجل الغيظ والظمأ.
فليس فقط هذا بل يجد نفسه فجأة أمام هول رهيب، قد مسك بتلابيبه، ومن ثم يقوده إلى حتفه وهلاكه. فكذلك الكافر اعتقد أن أعماله في دنياه نافعةً له في آخرته، فإذا جاء يوم القيامة، وقدم امام ربه، فلا يجد لها أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب.
واما عبارة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ) ظاهره بالعموم، فيندرج تحته عبدة الأصنام من السابقين واللاحقين الذين اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله تعالى وغيرهم.
ويعتبر هو جملة استئنافية، والموصول وصلته مبتدأ، اما خبره الجملة في عبارة قوله: (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب) من المشبه والمشبه به.
وتلاحظ انه كان الكلام يقتضي من أن يقال عبارة: (وَأَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا أ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ) فلو قيل ذلك، لكان بليغًا، وذلك لما فيه من الإيجاز.
ولكن تعبير ايات الكتاب أبلغ؛ وذلك لأن الحكم على هذه الأعمال من أنها باطلة وفاسدة، وهو ليس من كونها كذلك في ذاتها؛ ولكن لكونها أعمال أولئك الذين كفروا.
فلا تجد شيء مبطل للعمل، ويجعله فاسدًا عديم النفع مثل الكفر (استجير بالله منه)، ولا شيء يبقي عليه، ويجعله مثمر ونافع مثل الإيمان، وهو ما قد اشارت العبارة اليه كما في قوله تعالى:
( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)[6].
وعبارة قوله تعالى: (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي بمعنى: قد جعلها ضالة. أي: ضائعة محبطة بالكفر، فلا ثواب لها، ولا جزاء. ونظير ذلك عبارة قوله تعالى:
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[7] أي بمعنى: لأجل ذلك حبطت أعمالهم، التي لو كانوا عملوها مع الإيمان، لأثابهم عليها.
وعلى هذا تكون الحالة المشبهة، كما في عبارة قوله وهي: (أَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مركَّبة من محسوس ومعقول، واما حالة المشبه بها، كما في عبارة قوله وهي: (سَرَابٌ بِقِيعَةٍ) حالة محسوسة. أي بمعنى داخلة تحت إدراك الحواس.
ولفظة كلمة السراب : هي ظاهرة ضوئية يسببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة الشمس، فيعتقده الإنسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض وقد قيل: اشترط الفرَّاء فيه اللصوقَ بالأرض.
ولكن قيل : هو ما ترقرق من الهواء بالهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وتراه قد أوهم الناظر إليه على البعد من أنه ماء سارب. أي بمعنى: انه جار. وقد سُمِّيَ بذلك؛ وذلك لأنه ينسرب مثل الماء في مرأى العين، وما هو إلا وَهْمٌ، لا حقيقة له ابداً.
ولهذا تجد انه قيل: السراب فيما لا حقيقة له؛ مثل الشراب فيما له حقيقة, مثلما انشد الشاعر قال:-
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كلمع سراب في الفلا متألق
وعبارة قوله تعالى : (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب) هي بالتنكير، وينبىء عن سراب ضئيل تافه، وهذا على خلاف ما لو جيء به معرَّفًا. وخلف ذلك ما وراءه من تعلق نفس الظمآن بالأمال، حتى ولو كان ضعيفًا تافهًا.
واما استعمال الكاف، من دون غيرها من أدوات التشبيه، فهو يجعل الأعمال -الحقيقة الصورة- بمرتبة أدنى من درجة السراب -بحقيقته وصورته- وخلف ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها؛ وغيره من تشبيه الأعمال فمثلاً الذين كفروا بربهم بالرماد كما في عبارة قوله تعالى:
( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ)[8].
وتصور السراب، الذي حسبه الظمآن ماء، وإن كانت مشتركة في الموضع مع تصور الرماد، الذي عصفت به الريح كما في مثلنا السابق، ولكنها مختلفه عنه اختلافًا دقيقًا ومهمًّا؛ وهو المغزى، والغرض، وبيانه كما يلي:
تلاحظ أن تصور السراب يهتم بتصور اللهفة، مع الحاجة الماسَّة للانتفاع من هذه الأعمال، ثم بعدها الخيبة والمفاجأة بخديعة الأمل، من أنه ما كان إلا وهم؛ ولذا تجد عناصره هي: (الظمآن – السراب).
كما قال الشيخ الطوسي u: السراب شعاع يتخيل كالماء يجري على الارض نصف النهار حين يشتد الحر والآل شعاع يرتفع بين السماء والارض - كالماء - ضحوة النهار، والال يرفع الشخص فيه. وانما قيل سراب، لانه يتسرب أي يجري كالماء.
وتلاحظ هذين اللفظين لهما دلالة قوية على هذا المغزى؛ بل إن لفظ كلمة السراب تكاد تكون رمز حي في هذا المجال.
وأما تصور الرماد فهي تهتم ببيان عدم النفع لهذه الأعمال، وأنها تصير بددًا، من دون أن تركز على معنى اللهفة والتعلق، الذي ركز عليه تصور السراب؛ ولذا تجد عناصرها هي: (الرماد - الريح - اليوم العاصف).
وجميعها تؤكد معنى واحد وهو كلمة (الضياع)، الذي يعقبه الهلاك، بالإضافة لما ينطوي عليه لفظة كلمة (الرماد) من معنى الاحتراق، والخفة، وقلة الشأن.
وأما لفظة كلمة (القيعة) فهي الأرض القفر المستوية، والتي لا تنبت ولاتخضر الشجر. وقد قيل: هي جمع قاع، وقيعان؛ مثل جيرة وجار وجيران. ولكن قيل: هي القيعة مفرد؛ وهو بمعنى القاع.
كما قال الشيخ الطوسي u: (قيعة) جمع قاع، وهو المنبسط من الارض الواسع. وفيه يكون السراب ومثله جار وجيرة، ويجمع ايضا على (اقواع، وقيعان).
والشعاع بالقاع يتكثف فيرى كالماء، فاذا قرب منه صاحبه انفش كالضباب، فلم يرده شيئا، كما كان. وقال ابن عباس: القيعة الارض المستوية.
ولما كان السراب هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة؛ وكأنه ملتصق بها، جيء بالباء الدالة على الإلصاق في قوله تعالى: (بقيعة) للتعبير عن هذا المعنى.
تلاحظ انه لو قيل: كسراب في قيعة، لدل ذلك على أن القيعة مثل الظرف للسراب، وأن السراب داخل القيعة، وهو ليس كذلك؛ ولذا اشترط الفرَّاء في السراب أن يكون ملتصقًا بالأرض.
وفي عبارة قوله تعالى : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء) تعتبر إشارة إلى خداع النفس بعد خداع البصر بهذا السراب؛ فلهفة الظمآن، مع حرارة شوقه إلى الماء كافية كي تغطي على عقله، فيعتقد السراب ماء.
وهذا مثله الخائف المذعور في ظلمة سواد الليل ووحشته، فيمثِّل له الوهم أشباحًا تطلع عليه من كل جهة، تريد الانقضاض عليه، والفتك به.
ولهذا تلاحظ اختيار الله سبحانه للتعبير عن هذا المعنى لفظة (يَحْسَبُهُ) من دون لفظة (يظنُّه). وقد ورد على صيغة المضارع؛ لكي يفيد معنى التجدُّد والاستمرار.
ومن هذا تبين لنا سبب اختيار الفعل كلمة (يحسَب) من دون الفعل كلمة (يظن) إذا عرفت هذا الفرق الدقيق بينهما في المعنى؛ كما في عبارة: أنَّ يحسِب من الحِسبان بكسر الحاء.
وهنا لفظة كلمة (الحِسبانُ) هي أن يحكم الحاسِبُ لأحد النقيضين او الطرفين من غير أن يخطر الآخر بباله النقيض او الطرف الاخر، فيحسِبه ويعقد عليه، ويكون بعَرَض أن يعتريه فيه شك.
وأما لفظة كلمة (يظنُّ) فهي ماخوذة من الظنِّ. ولفظة كلمة (الظنُّ) هو أن يخطر النقيضان في بال او ذهن الظانِّ، فيُغلِّب أحدهما على الآخر.
وتجد ان هذا الظمآن عندما رأى السراب حَسِبَه ماء، ولم يخطر بذهنه أبدًا من أنه نقيض الماء، فيعقد عليه العزم، وذهب يلهث خلفه.
وقد خدعه السراب الكاذب؛ كما خدع الذين كفروا وأعمالهم الباطلة، فرأَوْها حسنة، وحسِبوها نافعة، وهو سبب شقائهم وضلالهم وضياعهم.
والله تعالى يقول في عبارة : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ).
وتلاحظ انه لو قيل : في عبارة ( يحسَبه الرائي ماء ) بدل من عبارة قوله تعالى: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء) ثم بعدها يظهر أنه على خلاف ما قدَّر، لكان بليغًا؛ ولكن تجد أبلغ منه لفظ ايات القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا على الماء، من الرائي، وقلبُه أكثرُ تعلقًا به منه.
ثم تلاحظ إن لفظ كلمة (الظمآن) بما تنطوي عليها من معاني المبالغة، وبما يوحي به من معنى اللهفة والتحرُّق مع شدة الحاجة، والإعياء والخيبة، يعطي التصور ثراء وخصوبة، ويلبسها بعدًا وعمقًا، ويجعلها الأقدر على التعبير والإيحاء.
واما عبارة قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ومعناه في عبارة: حتى إذا جاء الظمآن ما حسِبه ماء- السراب- وقد علَّق به رجاءه، فلم يجده أي شيئ، كما كان يراه قبل المجيء.
وتلاحظ انها جملة شرطيَّة تتألف من عبارتين: الأولى شرطية كما في عبارة: (حَتَّى إِذَا جَاءهُ). والثانية جوابية كما في عبارة: (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً).
وتجد أن العبارة الشرطية قد أشارت بدخول لفظة (حَتَّى) على لفظة (إِذَا) وإلى نهاية رحلة شاقة، مع المعاناة الطويلة، وتلاحظ انه قد أجهده فيها الظمأ، وحفزه إليها الأمل، وأفادت من استعمال لفظة (إِذَا) لأن الشرط قد تحقق في نهاية المطاف.
وتجد ان العبارة الجوابية قد ورد فيها بلفظ كلمة (شَيْئاً) مفعولاً به ثانيًا لقوله في عبارة: (لَمْ يَجِدْهُ) لكي يفيد معنى العدم. وكان من الممكن أن يقال عبارة: (لم يجده ماء) ولكن لفظ كلمة ( شَيْئاً) جعله عدم محض.
فلاحظ ان هذا الشرط الذي ربط هذا العدم المحض بذلك السعي الدؤوب، فهذا هو الخسران المبين وصدق الله سبحانه؛ إذ يقول في عبارة قوله تعالى:
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)[9].
ولاحظ بعد ذلك ان حرف الهاء في عبارة قوله تعالى: (لَمْ يَجِدْهُ) وكان يمكن أن يقال كما في عبارة: (لم يجد شيئًا) ولكنه ذكر حرف الهاء كنصَّ على الأمل المنشود، وقد صيَّره عدم، وهو في ذلك إبراز للمغزى، مع خيبة أمل.
وتلاحظ التفاتة آخرى في ذكر حرف الهاء، وهو تهيئة الكلام لما بعده؛ وذلك لأنه لو قيل في عبارة: (حتى إذا جاءه، لم يجد شيئًا) لكان ذلك متناقض مع عبارة قوله تعالى: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ).
ثم إن عبارة قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءهُ) فهو يدلُّ على شىء موجود، وقد وقع عليه المجيء، وأن عبارة قوله تعالى: (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مناقض له؛ وذلك لأنه يدلُّ على عدم وجود شيء، يقع عليه المجيء.
وقد أجابوا عن ذلك بعدة أجوبة أظهرها قول من قال بعبارة: من إن السراب يرى من بعيد وذلك بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا اقترب منه الرائي، رقَّ وانتثر واصبح مثل الهواء.
وأما عبارة قوله تعالى: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) فمراده: من أنه وجد مقدوره تعالى عليه من هلاك بالظمأ عند مكان السراب، فأعطاه ما كتب له من ذلك بشكل وافي وكامل؛ وهو المحسوب له.
ولكن قيل: انه وجد الله تعالى بالمرصاد فوفَّاه حسابه. أي بمعنى: جزاء عمله. كما انشد امرؤ القيس قال:
فولى مدبرًا يهوي حثيثًا * وأيقن أنه لاقى حسابا
ولكن قيل : انه وجد وعد الله تعالى بالجزاء على عمله. وقول اخر: انه وجد أمر الله عنده حشره. والمعنى متقارب.
وعبارة قوله تعالى: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي بمعنى: معجَّل حسابه، لا يؤخره عن أحد؛ وذلك لأن الله سبحانه عالم بجميع المعلومات، فلا تشقُّ عليه الحسابات. وقد قال بعض المتكلمين: ان معناه: لا يشغله محاسبة واحد عن آخر.
فلو كان تكلم بآلة[10] لما صح ذلك ومن ذلك يحصل من ان الكلام مطابق للذين كفروا وأعمالهم، من حيث إنهم حسبوها نافعة لهم، فلم تنفعهم، وحصل لهم الهلاك.

[1]- سورة النور الاية 39 - 40      .
[2]- سورة النور الاية 36 – 38.
[3]- تفسير القمي المؤلف : ابي الحسن علي بن ابراهيم القميu ج1 ص104.
[4]- راجع : من أسرار الإعجاز البياني في القرآن  اية (الذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب) تاليف: محمد إسماعيل عتوك.
[5]- سورة النور الاية 39.
[6]- سورة محمد الاية 1 – 3.
[7]- سورة محمد الاية 9 – 8.
[8]- سورة ابراهيم الاية 18.
[9]- سورة الكهف الاية 103 – 105.
[10]- هو قول المشبهة .