ق3 إعجاز البيان في سورة
المدثِّر
( 11 ) : - قوله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
): وهذه الكلمات هي
بدل من عبارة قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا).
ولفظة (سَقَرَ) هي كما قيل الدرك
الاسفل من النار، ومنِع لفظها من التنوين للتأنيث. وكذلك قيل: إنه اسم أعجمي.
والأول (الدرك الاسفل) هو الصواب؛ لأن
الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف، انصرف، وإن كان متحرك الأوسط.
وكذلك إنه اسم عربي مشتق، كما يقال في
عبارة: سَقَرَته الشمس، إذا أحرقته. واما السَّاقُورُ: هي حديدة تُحْمَى، ويُكْوَى
بها الحمار.
وقد جاء في التبيان للشيخ الطوسيu إن سقر جهنم وقيل: هو باب من ابوابها، ولم
يصرف للتعريف والتأنيث.
وزاد هذا التهديد، وذلك الوعيد
تهويلاً تنكير (سَقَرَ) ثم تكرارها في جملة استفهامية، يزيد من تهويل أمرها؛ وهي
قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ)[1].
ومثلهِ جاء في مجمع البيان وهو ما روي
عن أمير المؤمنين A أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض
ووضع إحدى يديه على الأخرى فقال هكذا وإن الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران
بعضها فوق بعض.
فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقها
الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية. وفي رواية الكلبي
أسفلها الهاوية وأعلاها جهنم.
وكما عن ابن عباس أن الباب الأول جهنم
والثاني سعير والثالث سقر والرابع جحيم والخامس لظى والسادس الحطمة والسابع
الهاوية.
واختلفت الروايات في ذلك كما ترى وهو
قول مجاهد وعكرمة والجبائي قالوا إن أبواب النيران كإطباق اليد على اليد.
( والآخر ) ما روي عن الضحاك قال
للنار سبعة أبواب وهي سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون
على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم يخرجون.
والثاني فيه اليهود والثالث فيه النصارى والرابع
فيه الصابئون والخامس فيه المجوس والسادس فيه مشركو العرب والسابع فيه المنافقون
وذلك قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
وهو قول الحسن وأبي مسلم والقولان
متقاربان «لكل باب منهم» أي من الغاوين «جزء مقسوم» أي نصيب مفروض عن ابن عباس[2].
( 12 ) : - قوله تعالى : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سَقَرُ ): فهو
يريد ان يقول عبارة: أيُّ شيء أدراك ما سقر؟ أي بمعنى: لم تبلغ معرفتك ودرايتك
غاية أمرها وعظم هولها؛ لأنها شيء أعظم وأهول من الإدراك ومما تتصوره.
وقد قيل : كل ما في القرآن من عبارة
قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ) تلاحظ انه قد أدراه، وما فيه من عبارة قوله: (وَمَا
يُدْريكَ) معناها فلم يدره؛ كما في عبارة قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)[3].
واما البيان والدليل على عبارة قوله:
(وَمَا أَدْرَاكَ) في عبارة قوله تعالى هي: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ *
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ). فتجد انه قد أدراه ماهية
سقر؟.
وكذلك مثله في عبارة قوله تعالى: (
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)[4]. ثم أدراه ما هي القارعة، فقال له في
عبارة قوله تعالى هي: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)[5].عبارة قوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)[6].
كما روي في مجمع البيان للشيخ الطبرسيu عن محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي
الحسن A أنه قال:
كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر
وكل من تأخر عن ولايتنا تقدم إلى سقر.
ولما كان عبارة قوله تعالى: (مَا
سَقَرُ)؟ وعبارة قوله: (مَا الْقَارِعَةُ)؟ سؤالاً عن الماهيَّة، لم يجز فيه الجمع
بين الاسم، وضميره، كما يفعل ذلك كثير من العلماء والكتَّاب اليوم.
فلا يقال : ما هي كلمة (سقر) ؟ وما هي
كلمة (القارعة) ؟ وإنما يقال كما في عبارة قول الله تعالى: (مَا سَقَرُ)؟ وعبارة
قوله: (مَا الْقَارِعَةُ)؟.
أو يقال عبارة : ما هي ؟ إذا تقدم ذكر
لها في الكلام، فيقال في عبارة: سقرٌ ما هي؟ وعبارة: القارعة ما هي؟ كما في عبارة
قوله تعالى: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ)[7].
ولكن قال صاحبu الميزان انه كلما طرح في جهنم جماعة من
جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها -
توبيخا - ألم يأتكم نذير؟.
وهو النبيo المنذر في عبارة قوله تعالى: (قالوا بلى قد
جاءنا نذير فكذبنا) إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، و فيه تصديق أنهم قد
جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب و اعتراف.
تجد انه بعدها عقَّب سبحانه وتعالى
على هذا تجهيل سقر، وتهويل أمرها بذكر شيء من صفتها أشد هولاً وأعظم، جوابًا عن
السؤال السابق في عبارة قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ)[8] فقال في عبارة سبحانه: (لَا تُبْقِي
وَلَا تَذَرُ)[9].
( 13 ) : - قوله تعالى : ( لَا تُبْقِي وَلَا
تَذَرُ ): وهي
أي بمعنى : لا تبقي أي شيئ فيها إلا وقد أهلكته، وإذا هلك، لم تذره هالكًا حتى
يعاد. أو لا تبقي على أي شيء، ولا تدعه من الهلاك، حتى تهلكه. فكل شيء يطرح في
داخلها هالك لا محالة، وتلاحظ أنها تبلعه بلعًا، وتمحوه محوًا.
ولغرض الدلالة على هذا المعنى جيء
بلفظة (لَا) مكررة بعد الواو العاطفة؛ لأنه لو قيل كما في عبارة: (لا تبقي وتذر)،
احتمل وقوع النفي على أحد الفعلين، من دون الآخر.
وتلحظ انه قد تكون هذه الآية هي إشارة
إلى أنّ نار جهنّم على خلاف نار الدنيا التي ربّما تركت بعض ما ألقي فيها ولم
تحرقه.
وهذه النار في الدنيا إذا حرقت
إنساناً مثلاً تجدها نالت من جسمه وصفاته الجسمية ولكن تبقى روحه وصفاته الروحية
في أمان منها.
وهي مثل لفظة «سقر» فلا أي تدع أحد
ممن ألقي فيها إلاّ وقد نالته واحتوته في جميع وجوده، اذا فهي نار شاملة مستوعبة
لجميع ما اُلقي فيها من الظالمين.
وتلاحظ انه قيل : إنّ المعنى من عبارة
لا يموتون فيها ولا يحيون، أي بمعنى يبقون فيما بين الموت والحياة، كما جاء في
عبارة الآية (13) من سورة الأعلى وهي قوله: (لا يموت فيها ولا يحيى).
أو لا يمكن أنّها لا تبقي على جسد أي
شيئ من العظام أو اللحم، وبذلك يتّضح أنّ مفهوم الآية من أنّها لا تحرقهم تماماً.
وذلك لأنّ هذا المعنى لا يتفق مع
الآية (56) من سورة النساء حيث جاء في عبارة قوله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم
جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب)[10].
وجاء عن
الشيخ الطوسيH في تفسير
التبيان الجزء العاشر قال:
وقال مجاهد:
معناه لا تبقي من فيها حيا، ولا تذره ميتا.
وقال غيره :
لا تبقي احدا من أهلها إلا تناولته، ولا تذره من العذاب.
والابقاء ترك
شئ مما اخذ، يقال أبقى شيئا يبقيه ابقاء، وأبقاه الله أي اطال مدته. والباقي هو
المستمر الوجود.
( 14 ) : - قوله تعالى : ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ
): ومن
ثم هي بعد ذلك هي : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)[11]. أي بمعنى في عبارة: مغيِّرة لهم، أو
محرقة، كما في لغة قريش. يقال يقال بعبارة: لاحته الشمس، ولوَّحته،إذا غيرته.
وكذلك يقال في عبارة : لوحَّت الشيءَ
بالنار أي بمعنى : أحميته بها. كما قال ابن عباسF وجمهور العامة: معناه: مغيِّرة للبشرات،
ومحرقة للجلود، مسودة لها. اذا فعليه ان كلمة البشر هي جمع بشرة.
وقد قال الحسن وابن كيسان : لفظة
(لَوَّاحَةٌ) وهي بناء مبالغة من لاح يلوح، إذا ظهر. والمعنى في عبارة: أنها تظهر
للناس- البشر- من مسيرة خمسمائة عام؛ وسبب ذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقد قرىء:
لفظة (لَوَّاحَةً)، بالنصب على الاختصاص، لغرض التهويل.
وتجد انه قد قيل : في عبارة قوله
تعالى: (لواحة للبشر) واللواحة هي من التلويح أي بمعنى تغيير اللون إلى السواد
وقيل: إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد[12].
واما لفظة «بشر»: فهي جمع بشرة، وتعني
الجلد الظاهر للجسد.
واما لفظة «لوّاحة» : فهي من مادة
(لوح) وتعني أحياناً الظاهر، وأحياناً اخرى بمعنى التغيير، فيكون المعنى بمقتضى
التّفسير الأوّل في عبارة قوله: (أنّ جهنم ظاهرة للعيان).
وذلك كما جاء في الآية (36) من سورة
النّازعات في عبارة قوله تعالى: (وبرزت الجحيم لمن يرى) ومن خلال مقتضى التّفسير
الثّاني يكون المعنى: (أنّها تغير لون الجلود).
وهذا هو المصير المشؤوم في هذه الآيات
بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة، وكذب النّبيn وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول
اللّه تعالى: (سأُصليه سقر)[13].
اذاً عبارة قوله تعالى: (لا تُبقي ولا
تَذَر) فلا تدع أحداً ممّن القي فيها إلاّ وقد نالته وإذا نالته لم تبق منه شيئاً
من روح أو جسم إلاّ وقد أحرقته.
واما عبارة قوله تعالى: (لوّاحة
للبشر) اللّواحة : هي من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد، وقيل: إلى الحمرة،
واما كلمة البشر: هي جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.
وعبارة قوله تعالى: (عليها تسعة عشر)
يتولون أمر عذاب المجرمين.
( 15 ) : - قوله تعالى : ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ ): ثم
جاء بعدها عبارة قوله تعالى إن: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)[14] وهم ملكًا من خزنة جهنم، المحيطون
فيها، المدبرين لأمرها، القائمين على تعذيب أهلها، الذين إليهم جماع أمر زبانيتها،
وهذا باتفاق العلماء جميعهم.
وتلاحظ انه هكذا تتلاحق الآيات
المتنوعة الفواصل والقوافي، يتئد إيقاعها أحيانًا، ويجري لاهثًا أحيانًا، وفي
الخوص عند تصوير المشهدين الأخيرين وهما:
المشهد الاول هذا المكذب، وهو تراه
يفكر، ويقدر، ويعبس، ويبسر والمشهد الثاني هي كلمة سقر، التي لا تبقي ولا تذر،
ملوحة لجميع البشر.
واما عبارة قوله تعالى: « عليها تسعة
عشر » هم من الملائكة وخزنتها على رأسهم
الملك (مالك) ومعه ثمانية عشر من الملوك تجد أعينهم مثل البرق الخاطف وأنيابهم مثل
الصياصي فيخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهمD ونسأل الله ان يرحمنا ويرحمكم منها.
وهي مثل مسيرة سنة كاملة تتحمل يد أحدهم مثل عدد نفوس قبيلة
ربيعة ومضر وقد نزعت من قلوبهم الرحمة يرفع أحدهم سبعين ألفا من الناس ويرميهم حيث
أراد من جهنم في أي مكان.
ولكن قد قيل معناه على سقر هذه تسعة
عشر ملك وهم خزان سقر واما النار ودرجات دركاتها الأخرى تجد هناك خزان آخرون لها
غير هؤلاء التسعة عشر.
وقالوا إنما خصوا بهذا العدد لكي
يوافق المخبر الخبر لما جاء به الأنبياءD قبله وما جاء في الكتب المتقدمة ويكون في
ذلك مصلحة للمكلفين.
ولكن قال بعضهم في تخصيص هذا العدد أن تسعة عشر
يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير منه لأن العدد آحاد وعشرات ومئات وألوف
فأقل العشرات عشرة وأكثر الآحاد تسعة[15].
وواضح من ذلك كله أن الغرض من نزول
هذه السورة الكريمة هو تكليف النبيn من أن يكون نذيرًا للبشر من عذاب الله
تعالى.
وهذا الإنذار هو بنفسه محتاج إلى دليل
تقام به الحجة عليهم. والدليل هو في عبارة قوله تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ)[16].
وقد قيل[17] : هي يتولون أمر عذاب المجرمين وقد
أبهم ولم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة - و
تصرح به الآية التالية - أنهم من الملائكة.
وتلاحظ انه قد استظهر البعض منهم أن
ميزة عبارة قوله تعالى: (تسعة عشر) من
الملائكة ثم قال: (ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك).
كما روي عن ابن عباس قال : أنها لما
نزلت (عليها تسعة عشر) قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة
يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل
منهم؟.
فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة
الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين.
ولاحظ هنا أنه لا دليل في كلامه على
ما يدعيه. على أنه سمي الواحد من الخزنة رجل ولا تطلق كلمة الرجل على ملائكة الله
ابداً ولا سيما عند المشركين الذين في عبارة قول الله تعالى فيهم: (وجعلوا
الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)[18].
وقد قيل : أنه حينما نزلت هذه الآية،
قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم. أسمع ابنَ أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة
عشر، وأنتم الدهر. أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟.
فقال أبو الأشدِّ بن أسيد بن كلدة
الجُمَحِيِّ، وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين. فأنزل
الله تعالى عبارة قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)[19].
[1]- سورة المدثر الاية 27.
[2]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيu ج6 ص102.
[3]- سورة الاحزاب الاية 63.
[4]- سورة القارعة الاية 3.
[5]- سورة القارعة الاية 4.
[6]- سورة القارعة الاية 5.
[7]- سورة القارعة الاية 9 – 10.
[8]- سورة المدثر الاية 27.
[9]- سورة المدثر الاية 28.
[10]- تفسير الامثل ج19 ص172.
[11]- سورة المدثر الاية 29.
[12]- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائيu ج20 ص48.
[13]- تفسير الامثل ج19 ص172.
[14]- سورة المدثر الاية 30.
[15]- تفسير مجمع البيان ج10 ص161.
[16]- سورة المدثر الاية 30.
[17]- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائيu ج20 ص48.
[18]- سورة الزخرف الاية 19.
[19]- سورة المدثر الاية 31.