الأربعاء، 12 أبريل 2017

تجزئة فهم الكتاب على وفق مناهج واتجاهات العلوم الحديثة في تفسير القرآن


تجزئة فهم الكتاب على وفق مناهج واتجاهات العلوم الحديثة في تفسير القرآن
تجزئة فهم الكتاب: نذكر آراء المتخصّصين في تقسيم المناهج والاتجاهات التي تعتبر هذه المباحث من العلوم الحديثة في مجال تفسير القرآن، وهي في حالة نمو وتطوّر مستمر، ففي كلّ عام تُحرّر مقالات وتُدوّن كتب عديدة في هذا المضمار، مع طرح آراء جديدة.
فلا مانع من مشاهدة بعض النواقص في تقسيم المتخصّصين في هذا المجال، من حيث اعتبارهم أصحاب الخطوة الأولى فيه، وننشير هنا إلى أهمّ وأشهر هذه التقسيمات وهي:
1- تقسيم جولدزيهر[1]  : كتب هذا المستشرق التفسير أوّلاً، ثمّ بعدها التفسير بالرأي. وذكر الروايات الواردة في مذمّته. ومن بعد ذلك قسّم التفسير على ضوء العقائد؛ فذكر طريقة المعتزلة بالتفسير ونماذج من اقوالهم.
وتلاحظ في فصل آخر تناول طريقة الصوفية في التفسير والمنهج الإشاري وواضح تأثّره بـ(فيلون)[2]، ثمّ بعدها ذكر تفسير إخوان الصفا الفلسفي والإسماعيلية الباطنية.
وتجد في فصل آخر قسّم التفسير على ضوء الفرق الدِّينية. فذكر تفسير الشيعة، الخوارج، الغُلاة و... وأخيراً ذكر التفاسير الجديدة في العالَم الإسلامي مثل:
منهج سيد أمير علي في الهند بعنوان المعتزلة الجُدد، ومنهج السيّد جمال الدِّين الأفغاني والحركة الجديدة في مصر ومنهج محمّد عبده كما في تفسير صاحب المنار[3] لرشيد رضا.
وهذا المستشرق أحد المبدعين لهذا البحث فيعتبر هو أوّل من خطا الخطوات الأولى في هذا السبيل ومع كل هذا فكتابه لا يخلو من إشكالات؛ فليس هناك نظام منطقي حاكم على هكذا مباحث، ولم يأتي على بحث المناهج (مثل منهج التفسير بالمأثور) والاتجاهات بصورة كاملة.
2- تقسيم الدكتور الذهبي : تجد انه بعد أن تناول التطوّر التأريخي للتفسير من عصر رسول اللهJ فما بعده، ثم قام الذهبي بتقسيم التفسير إلى فرعين رئيسين، وهما:
التفسير بالمأثور (الروائي). والتفسير بالرأي.
ثمّ بعدها قسّم التفسير بالرأي إلى فرعين كذلك: ممدوح (التفسير العقلي) ومذموم[4], وبعدها اعتبر التفسير بالرأي المذموم هو تفسير الفرق والمذاهب وهي: المعتزلة الشيعة (الإثنى عشرية) والشيعة الإسماعيلية، والشيعة الزيدية، والبهائية والخوارج، والصوفية، والتفسير العلمي.
وتلاحظ أنّ تقسيم الدكتور الذهبي لا يتمتّع بنظام منطقي؛ لأنّه يستخدم التفسير النقلي (المأثور) في مقابل التفسير العقلي والاجتهادي، بالإضافة إلى أنّ تقسيم التفسير بالرأي إلى ممدوح ومذموم هذا غير صحيح.
كما خلط في تقسيمه المذكور فيما بين المذاهب التفسيريّة والمدارس؛ لأنّ فرق الشيعة تقع في قبال فرق أهل السنة وليس في مقابل الفرق الكلامية كـ(المعتزلة) إلّا إذا كان مقصوده بالشيعة هم متكلّميهم.
3- تقسيم آية الله معرفة : قسّم الشيخ معرفة التفسير إلى فرعين:
(أ):- التفسير بالمأثور، ويشمل كما يلي:- 1- تفسير القرآن بالقرآن. 2- تفسير القرآن بالسنّة. 3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة. 4- تفسير القرآن بأقوال التابعين.
(ب):- التفسير الاجتهادي (أي على أساس النظر والاستدلال العقلي).
بعدها ذكر أنّ هذه الطريقة تقسّم على أساس القدرة العلميّة وأنواع العلوم الّتي يمتلكها المفسِّرين إلى ألوان مختلفة مثل:
اللون المذهبي – الكلامي – الفلسفي – الفقهي - العلمي...الخ, ويعتبر هذا التقسيم الأفضل من تقسيم الدكتور الذهبي بكثير، ولكنّه اعتبر طرق التفسير العلمي والعرفاني من ألوان التفسير في حين يمكن أن نعتبرها من المناهج ومن الألوان أيضاً.
الف : التجزئة الموضوعية في الفهم : تلاحظ ان المثل الاعلى في داخل كل انسان او هدف في كل مجمتمع او دولة ومن خلال الاستقراء للمثل العليا ظهرت على أنها ثلاثة أنواع وهي أحدهما المثل الأعلى المنخفض (أو التكراري) والاخر المثل الأعلى المحدود, والثالث والأخير هو المثل الأعلى المطلق.
المثل الأعلى المنخفض هو ذلك المثل المنتزع من الواقع الراهن آو من الماضي المنقول إلى الحاضر. ويعتبر المجتمع (ماضيه) أو (حاضره) هو المثل الأعلى الذي يجب المحافظة عليه والتحرك نحوه وبموجبه.
ومعناه أن المثل الأعلى المنخفض عبارة عن حالة تكرارية لما عليه المجتمع، بل هو عبارة عن تمجيد للواقع ونقله للمستقبل. وهذا هو حال المجتمعات (المحافظة) أو (الساكنة) بشكل عام.
المثل الأعلى المحدود وهو النوع الثاني من المثل التي قد تظهر في المجتمعات البشرية هو المثل الأعلى المحدود, وهذا النوع افضل نسبيا من المثل الأعلى المنخفض، من كونه مشتق من رؤية للمستقبل، وليس من الماضي.
لكن هذه الرؤية ليست كاملة وشاملة ومستوعبة لجميع المسار المستقبلي للإنسان، بحكم محدودية المقدرة الإنسانية على استشراف المستقبل بمعزل عن خالقها، ولهذا تكون رؤية المستقبل في ضوء المثل الأعلى المحدود هي رؤية نسبية محدودة، لا تغطي إلا مساحة صغيرة من المستقبل.
واما المثل الأعلى المطلق فإن الله تعالى هو المثل الأعلى المطلق الحق: كما في قوله تعالى: (ولله المثل الأعلى)[5] وقوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل)[6].
وبهذا اختلف الله سبحانه وتعالى عن المثل المنخفضة والمحدودة السابقة في كونها طرفاً موضوعياً أصيلاً قائماً في البناء الاجتماعي، وليس طرفاً مفروضاً عليه.
بسبب التقاليد والأعراف أو بسبب التسلط الفرعوني، الفردي أو العائلي أو الحزبي أو الطبقي على أزمات المجتمع، وبالنتيجة، فإن اتخاذ مجتمع ما وجعل (الله) تعالى مثلا أعلى له يمثل قمة الاتساق بين الواقع الموضوعي التكويني للمجتمع وبين إرادة الاختيار له.
تعتبر هذه مشكلة يعاني منها الكثير من أبناء امة الاسلام وهي (التجزئة الموضوعية) في فهم الكتاب، فهي تحاول فهم ان كل آية هي آية وحدها من القران؛ بشكل مستقل، بعيداً عن مدركات الآيات الأخرى، وكأنه كل آية يعتبرها عامل مستقل وقائم بحد ذاته، ولكن يحصل منه ما يلي:-
1 - الفهم الخاطئ لبعض الآيات  : ان كتاب الله (كائن حي) يرتبط بعضه مع البعض الاخر، ويتفاعل بعضه بعضاً، ومن هذا لا يستطيع أي الشخص فهم القرآن بشكل سليم إلا بعد ان يجمع بعضه ببعض، مع ملاحظة التفاعل والارتباط فيما بين أجزائه المتفرقة، كما في الحديث: «القرآن يفسّر بعضه بعضاً»[7]. فشهد بعضه ببعض، ونطق بعضه ببعض.
على امتداد التاريخ الإسلامي وبالخصوص في الجانب العقائدي تجد مذاهب منحرفة فكانت تستند لبعض آيات القرآن في دعم أفكارها الخاطئة، وكان الخطأ الذي ارتكبته هذه المذاهب وهي (النظرة التجزيئية) لآيات كتابالله تعالى.
فكانوا يأخذون آية من القران تتكلم في موضوع معين، وظاهرها يعطيك معنى معين، فتراهم يتمسكون بذلك المعنى معرضين وضاربين بباقي الآيات الواردة بنفس الموضوع عرض الحائط.
وأما في الجانب العملي، أخطأ بعضهم في فهم آيات القرآن التي اعتقد انها تدعوا إلى الكسل والجلوس في زوايا البيوت، وهذه نظرة (أحادية الجانب) ولم يجمعوها مع سائر الآيات القرآنية التي تدعوا إلى العمل والجهاد والحركة.
والنتيجة ان النظرة التجزيئية إلى آيات الكتاب الكريم تعني في أكثر الأحيان فهم الآيات بصورة خاطئة ومعاكسة.
2 - اسلوب التضمين بالتفسير (التعدي واللازم) : تجد هناك باب في اللغات يسمى باب (التعدي)، ويقابله باب (اللازم)، وأهل اللغة العربية يجعلون هذين البابين قسم من جملة أقسام الفعل؛ فيقولون:-
إن الفعل ينقسم إلى فعل لازم، وفعل متعدِ، ومن ثم يقررون على ضوء هذا التقسيم، من أن الفعل (اللازم) هو الفعل الذي لا يطلب مفعولاً، واما الفعل (المتعدي) هو الذي يطلب مفعولاً.
و(التعدي) يُقصد بهِ:- أن هناك أفعال مرتبطة بمفاعيلها عن طريق حروف الجر، فتكون حروف الجر هو الوساطة التي يتم من خلالها الربط بين (الفعل) كحدث، وبين (المفعول) كحادث؛ فأنت حينما تقول:-
عبارة (مررت بزيد)، تكون قد عدَّيت فعل المرور إلى مفعوله عن طريق حرف الجر وهو (الباء)، وتكون بذلك قد ربطت بين فعل المرور، وبين مَن مررت به، واهل اللغة يعبرون عن هذه العلاقة كما في قولهم: (تعدى الفعل إلى مفعوله بحرف الجر).
ولاحظ هذه الحروف الرابطة فيما بين الأفعال ومفاعيلها لها أهمية في فهم الكلام؛ فقولك عبارة (رغبت عنه)، فهو غير قولك في عبارة (رغبت فيه)، بل بينهم تنافر تلاحظه في المعنى، وقد أفاده حرف الجر؛ وقولك في عبارة (عدلت إليه)، فهو غير غير قولك في عبارة (عدلت عنه).
وتجد كذلك بينهما تقابل في المعنى؛ كما في قولك: (ملت إليه)، فهو غير قولك: (ملت عنه)؛ فتلاحظ بينهما افتراق في المعنى؛ وكذلك قولك: (سعيت إليه)، فهو غير قولك: (سعيت به)، تلاحظ بينهما اختلاف في المعنى، وهذا مطرد في كثير من الأفعال في اللغة.
فمن هذا وتأسيساً عليه فقد وضع علماء اللغة من خلال تتبعهم واستقرائهم للكلام مصطلح (التعدي)، فذكروا لكل فعل يتعدى إلى مفعول أو أكثر حرفَ الجر الذي يتعدى به، وتعرف هذا من خلال الرجوع إلى معاجم اللغة العربية.
بلا شك، إن القرآن نزل على وفق لغة العرب وأسلوبها بالكلام، مع هذا فإن المتأمل لايات القرآن الكريم، يقف على أمر يستحق النظر؛ حيث يلاحظ أن بعض الأفعال التي جاءت في القرآن (وهي كثيرة) تعدت إلى مفعولها بحرف جر غير الحرف الذي تتعدى به في أصل الوضع لقواعد اللغة العربية، ونأتي لذلك بأمثلة وهي:-
مثال (1) :- الفعل (قَبِلَ) يتعدى بحرف الجر (من)، تقول: قبل منه اعتذاره، وفي القرآن جاء كما في قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)[8] فجاء الفعل (قَبِلَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو معروف من كلام اللغة العربية.
مثال (2) :- الفعل (نَطَقَ) يتعدى بحرف الجر (الباء)، كما تقول: (نطق القاضي بالحكم)؛ وفي ايات القرآن جاء كما في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى)[9] فجاء الفعل (نَطَقَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو مسموع من كلام اللغة العربية.
مثال (3) :- الفعل (سأل) يتعدى بحرف الجر (عن)، كما تقول: (سألت عن حكم كذا)؛ وفي القرآن جاء كما في قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع)[10] فجاء الفعل (سأل) متعدياً بحرف الجر (الباء) خلافاً لما هو معهود من كلام اللغة العربية.
ثم إن علماء اللغة والمفسرين اتجهوا في الجواب عن هذه الظاهرة القرآنية اتجاهين، وهما على النحو الآتي:-
الاتجاه الأول :- حرف الجر له اكثر من معنى : يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن حروف الجر في اللغة العربية تأتي على أكثر من معنى، ويقوم بعضها مقام البعض الاخر؛ فهم يقولون مثلاً: إن حرف الجر (الباء) يأتي (عند بن هشام) لأربعة عشر معنى، يذكرون منها التالي:-
منها : تكون بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: (اهبط بسلام)[11] أي: اهبط مصحوباً بالسلامة. ومنها: يأتي بمعنى (على)، كما في قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار)[12] أي: على قنطار. ومنها: يأتي بمعنى (إلى)، كما في قوله تعالى: (وقد أحسن بي)[13] أي: (إليَّ).
ويذكرون لباقي حروف الجر معانِ عديدة، ولاحظ انهم يعبرون عن هذه الظاهرة اللغوية كما في قولهم: (حروف الجر يتعاور بعضها بعضاً)[14]، وهم يقصدون بذلك أن بعض الحروف يقوم مقام بعض.
والمؤيدين لهذا الاتجاه، فمثلاً يقولون في توجيه قوله تعالى: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض)[15] من إن حرف الجر (إلى) في الآية الكريمة بمعنى (الباء)؛ لأن الفعل (خلا) يتعدى بـ(الباء)، ولا يتعدى بحرف الجر (إلى).
وكذلك يقولون في قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل)[16] إن حرف الجر (في) هنا معناه (على)؛ لأن الفعل (صلب) يتعدى بحرف الجر (على)، ولا يتعدى بحرف الجر (في). وعلى هذا الشكل في المثال يحملون كل حرف جر جاء مع فعل غير الفعل الذي يتعدى به عادة.
الاتجاه الثاني : الفعل يضمَّن المعنى : ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الفعل هو الذي ينبغي أن يضمَّن معنى يليق بحرف الجر الذي تعدى به، وحرف الجر يبقى على معناه الأصلي؛ كما في المثال عندما يرفع الإمام جسمه من الركوع، تسمعه يقول: (سمع الله لمن حمده)، مع أن الفعل (سمع) لا يتعدى بحرف جر، بل يتعدى بنفسه.
فأنت حينما تقول (سمعت نداء المؤذن)، قالوا: إن الفعل (سمع) هنا ضُمن معنى الفعل (استجاب)، وكأن معناه (استجاب الله دعاء من حمده). وأصحاب هذا الاتجاه يسمون هذا الضَّرب من التوجيه بـ((التضمين)).
و(التضمين) على ضوء القائلين به هو: إعطاء فعل معنى فعل آخر، فيكون فيه (يحمل) معنى الفعلين معاً؛ وعرَّفه ابن جني من أنه: اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به؛ لأنه في معنى فعل يتعدى به.
و(التضمين) على ضوء أهل اللغة هو باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف وهو كثير في كلام العرب.
وقيل[17] عنه كذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال؛ لما بينهما من الارتباط والاتصال وبحسب هذا المسلك حملوا الآيات التي تعدت بحرف جر غير حرف الجر الذي تتعدى به عادة.
فمن حيث أسلوب (التضمين) يعتبر شائع في اللغة وجار في كلامهم، فقد اتخذوا على طريقه وخصوصاَ المتأخرين الكثير من آيات القرآن.
ولو قيل ما دليل القائلين بـ(التضمين) على أن الفعل (الذي ضمنوه لمعنى آخر) لا يتعدى بالحرف الذي جاء بعده؟. ولماذا لا يقال إن هذا الفعل يتعدى بهذا الحرف نفسه، من غير حاجة إلى التضمين؟
وجوابه من محورين احدهما أن تعدي الأفعال بحروف الجر طريقه السماع وبالتالي يعتبر أمر توقيفي؛ والسبب لأن قواعد اللغة وضعت بحسب ما سُمع من الكلام، فإذا لم يُسمع من اهل اللغة تعدي فعل بحرف جر غير الحرف الذي سمع منهم، فإن ذلك يعتبر خروجاً عن أسلوبهم في الكلام، ومعهودهم في البيان.
والمحور الاخر أن أهل اللغة قرروا أن التوسع في الأفعال أكثر في كلام العربية من التوسع في الحروف، بمعنى أن تضمين فعل معنى فعل آخر هو أمر معهود في كلامهم أكثر من إعطاء حروف الجر معان غير المعاني الأصلية التي وضعت لها؛ ولذلك وضعوا قاعدة التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف.
ولاحظ جميع مفسرين ايات القرآن لم يلتزموا بمسلك محدد في توجيه الأفعال التي تعدت بحرف جر غير الحرف الذي تتعدى به عادة، فتجدهم أحياناً يعتمدون على منهج التضمين.
ولكن بعض الأحيان يعتمدون منهج تناوب الحروف؛ فمن باب المثال وجَّهوا عدداً من آيات القران على وفق أسلوب التضمين، كما فعلوا في قوله تعالى: (ولا تعد عيناك عنهم)[18] لكنهم لم يقدموا على القول بتناوب الحروف.
ولكن تجد الزمخشري في كتاب الكشاف مع قوله بأسلوب (التضمين) ولكنه لم يحظى التزامه بعنايته في كل المواضع، بل قال به في موضع، وأعرض عنه في مواضع أخرى.
وقد وصف أسلوب (التضمين) من أنه قول الحذاق، إلا أنهم لم يُعتنوا به ولم يقدموا على القول بتناوب الحروف[19].
ولكن منهم من استحسن القول بأسلوب (التضمين) في مواضع من كلامهم كما فعلوا في الاية الكريمة كما في قوله تعالى: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)[20] ولكنهم أغفلوا في مواضع أخرى[21].
وتجد منهم من غلَّط من قال برأي تناوب الحروف، ولكنهم قرروا أن المعروف من كلام العرب هو (التضمين)، والكثير ممن ساروا على دربهم ثم جاء من بعدهِم تلامذتهم[22].
ولكن تلاحظ ان هناك من اعتمد[23] على أسلوب (التضمين) من المتأخرين وتوسعوا في توجيه الآيات بحسب أسلوب (التضمين). وبعد إن تبين مقصود أسلوب (التضمين)، وموقف المتأخرين منه نوقفك على بعض الأمثلة التي توضح هذا النحو من التفسير وهي:-
 1-  مثلاً كما في قوله تعالى : (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)[24] :- بالاية الفعل (خلا) يتعدى بحرف الجر (الباء)، وكما يقال: (خلوت به)، أي: انفردت به، لكن في الآية الكريمة ضُمِّن معنى ذهبوا وانصرفوا؛ ومعناه هو:-
إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمَّن (خلوا) معنى انصرفوا؛ لتعديته بـ(إلى)؛ لكي يدل على الفعل المضمر، والفعل الملفوظ به. وقيل: (خلوا) هنا بمعنى (ذهبوا وانصرفوا).
2-  مثلاً كما في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)[25]:- فإنه لا يقولون : رفث إلى المرأة، ولكنه لما تضمَّن (الرفث) معنى الإفضاء، الذي أريد به الملابسة، ساغ لهم ذلك، ومن هذا التضمين، رشح قوله تعالى في آية أخرى: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض)[26].
3-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[27] :- فإن الفعل (عدا) بالاية الكريمة يتعدى بنفسه، لكن لما ضُمِّن الفعل (تعدو) معنى تَصْرِف وتجاوز، تعدى بحرف الجر (عن).
وقيل : لا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمدJ أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه. وهو أصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته.
وقيل كذلك : ولا تجاوزهم إلى غيرهم، يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة وغيرها.
4-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( أو لتعودن في ملتنا)[28] :- في الاية الكريمة الفعل (عاد) يتعدى بحرف الجر (إلى) كما يقال: عاد إلى بلده، ولكن في الآية ضُمِّن معنى الفعل (صار).
وقيل : أي: لتصيرن إلى ملتنا. وقيل كذلك : وقال غير واحد: تعود بمعنى تصير، كما أثبت ذلك بعض النحاة واللغويين.
5-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( وأخبتوا إلى ربهم)[29] :- في الاية الكريمة الفعل (خبت) يتعدى بـحرف الجر (اللام) كما يقال: أخبت لله: إذا خشع وأناب، ولكن في الآية ضُمِّن الفعل (أخبتوا) معنى (أنابوا)، فعدِّي بحرف الجر (إلى)، كما قال تعالى: (وأنابوا إلى الله)[30] وقال ابن عباس: (أخبتوا: أنابوا).
6-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا)[31]:- في الاية الكريمة الفعل (نصر) يتعدى بحرف الجر (على) كما يقال: انتصر الحق على الباطل، ولكن (ضُمِّن) كما في الآية معنى المنع والحماية، فعُدِّيَ بحرف الجر (من).
ولكن قيل : عدي (نصرناه) بحرف (من) لتضمينه معنى المنع والحماية، كما في قوله تعالى: (إنكم منا لا تنصرون)[32] وهذا أبلغ من تعديته بـ(على)؛ والسبب لأنه يدل على نصر قوي، تحصل به المَنَعَة والحماية، فلا يناله العدو بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.
7-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء)[33]:- في الاية الكريمة الفعل (أتى) يتعدى بنفسه كما يقال: أتى أرض بني فلان، ولكن في الآية جاء الفعل (أتوا) وهو مضمَّناً معنى (مروا)، فعُدِّي بحرف الجر (على).
8-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره)[34]: في الاية الكريمة الفعل (خالف) يتعدى بنفسه، لأنك تقول: خالفت زيداً، ولكن لما ضُمِّنَ في الآية معنى الصدِّ والإعراض والانحراف ساغ  تعديته بحرف الجر (عن).
ولكن قيل : حُمِلَ على معنى ينحرفون عن أمره، أو يروغون عن أمره.
وقد عللوا التعدية بـحرف الجر (عن) كما في قولهم: لتضمنه معنى الإعراض، أو يصدون عن أمره دون المؤمنين، مِنْ خالفه عن الأمر: إذا صد عنه دونه.
وقد قيل : تعدية فعل المخالف بحرف (عن)؛ لأنه ضُمِّن معنى الصدود، كما عُدِّيَ بـ(إلى) كما في قوله تعالى: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)[35] لما ضُمِّن معنى الذهاب، يقال: خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه.
9-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( فاستحبوا العمى على الهدى)[36]:- في الاية الكريمة الفعل (أحب) يتعدى بنفسه، لكن لما ضُمِّن معنى (فضَّلوا) تعدى بحرف الجر (على)؛ لكي يفيد معنى التفضيل والاختيار.
وقد قيل : هيَّأ لهذا التضمين اقترانه بالسين والتاء لغرض المبالغة؛ لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات.
ومثل ذلك كما يقال في قوله تعالى: (استحبوا الكفر على الإيمان)[37] وكذلك قوله سبحانه (استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة)[38].
10-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( عينا يشرب بها عباد الله)[39]:- في الاية الكريمة الفعل (شرب) يتعدى بحرف الجر (من)، كما يقال: شرب من النهر، في قوله تعالى: (فمن شرب منه)[40] لكن لما ضُمِّن في الآية معنى يُروى، ساغ تعديته بحرف الجر (الباء) وضَمَّن يشرب معنى يروى، حتى عداه بـ(الباء).
وهنا أسلوب (التضمين) لا يطرد في جميع الأفعال التي تعدت بغير حروفها المسموعة، بل هناك البعض من الآيات لا يستقيم فهمها إلا فقط عن طريق أسلوب التوسع في معنى حروف الجر كما في التالي.
11-  مثلاً كما في قوله تعالى : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل)[41]:- في الاية الكريمة فعل (الصلب) هنا حقيقة، ولم يُسمع في اللغة العربية وأن الفعل (صلب) يتعدى بحرف الجر (في)، وإنما المسموع من كلام اهل اللغة أنه يتعدى بحرف الجر (على)، فلا يستقيم هنا تضمين فعل (الصلب) معنى فعل آخر، يصح تعديته بحر الجر (في).
لهذا كان من المتعين في مثل هذا الأخذ بالقول الذي يرى أن حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض الاخر، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي: على جذوع النخل.
وحرف (في) توضع موضع (على)، وحرف (على) في موضع (في)، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام بالاية الكريمة.
3 - فهم ناقص لـ( موضوعات القرآن ) : القرآن الكريم لم يجمع بشكل موضوعي، أي بمعنى ليس لكل موضوع فصل مستقل، بل تلاحظ الآيات المتعلقة بموضوع واحد تتقاسمها العشرات من السور، ولهذا أصبح من الضروري لكل من يريد الخروج بـ(رؤية متكاملة) حول أي موضوع قراني كان عليه أن يمارس (النظرة الشمولية) للآيات المرتبطة بذلك الموضوع.
ولكن أما (التجزئة الموضوعية) فلا تقودنا إلى رؤية ناقصة، هذا بالإضافة إلى خسران الكثير من المعطيات التي يمنحها لك الفهم الشمولي.
ولابد من الدراسات التأصيلية للمناهج القويمة في الاستمداد من الوحي ليست من نوافل الجهود، بل اصبحت مطلب ضروري؛ لتوجيه الأمة نحو الأصوب في الاعتقاد والفهم والعمل.
وظهر الخلل والاضطراب، اليوم، أكثر في مناهج الاستمداد من نصوص اهل السنة خاصة؛ لأن طابعها أنها جزئية تفصيلية، أما نصوص القرآن فهي في أغلبها مجملة كلية.
ومنهج التجزيء والتعضِية في الاستمداد من السنة النبوية له تداعيات وآثار خطرة على واقع الأمة، بلغ إلى حد ظهور اتجاهات، كرد فعل عنيف، يدعو إلى نبذ السنة مطلقا، والاستغناء عنها بالقرآن وحده، وهو ناتج من صحة ثبوت جمهرة الأحاديث النبوية.
فتلاحظ بروز اتجاهين معاصرين في منهج الاستمداد من السنة وهما نهج التجزيء والتعضِية، ونهج التكامل والنسقية.
ويمكن الوقوف على أبرز مظاهر الخلل في الاستمداد من السنة عند أصحاب النهج الأول؛ ثم تتعقبها طريقة المنهج التكاملي والنسقي في رتق الفتق، وتسديد الفهم، وترشيد الفقه، فأهم مظاهر الخلل المنهجي في الاستمداد من السنن هي:
الأخذ ببعض الأحاديث وإغفال عن بعضها الآخر. وعلاجه ضم الأحاديث الواردة في الباب الواحد أو الموضوع الواحد؛ بعضها إلى بعض؛ لكي يكون الاستمداد صحيح، والفهم سليم.
ومن ثم إهمال مراعاة السياق وأسباب ورود الحديث، مع إغفال واقع المخاطَبين وأعرافهم، وملابساتهم وظروفهم. واما علاجه هي مراعاة ذلك كله في الاستدلال، وعندها يرتفع الإشكال، وتزول المعضلة، وتتضح مقالتها.
وبعدها الفصل فيما بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للأحاديث النبوية؛ من خلال الوقوف عند حرفية النص، والجمود على الظواهر، وإهمال النظر فيما وراء أحكامها من علل، وما ترومه من مقاصد، وما تهدف إليه.
واما علاجه فهو الوصل بين ذلك كله، وترك الفصل الذي بدوره يفضي إلى نتائج خطرة، ويفسد تناسق الشريعة.
باء : خطوات الفهم الموضوعي للتفسير : ولو قلتم كيف تقوم بـ(الفهم الموضوعي) ايات القرآن, يقال لك يجب عليك السير في عملية تشمل العديد من خطوات منها كما يلي:-
نبدأ بتجميع آيات القرآن الكريم المرتبطة بالموضوع المقصود (الذي تختاره انت) من مختلف السور القرآنية مؤلف من أحدى مرحلتينوهما:
المرحلة الاولى الكتاب الذي ألفه (جول لابم) فقد نسق الآيات بحسب المواضيع عنونه (تفصيل آيات القرآن الحكيم)[42] بلحاظ الملحق.
المرحلة الاخرى هي معجم (محمد فؤاد عبد الباقي) وتناول فيها لفظ القرآني على أسلوب المعاجم اللغوية وعنوانه (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). والرجوع إلى هذا المعجم هو باسلوب تجريد الموضوع المراد بحثه عن جميع الزوائد الصرفية.
بعدها تبحث في ضمن طيات كتابه، فمن باب المثال تبحث عن كلمة الصلاة في مادة (ص.ل.و) وعن كلمة الصوم في مادة (ص.و.م)..وهكذا الى اخره.
ومن ثم ناخذ النتائج في تصنيف وفرز الآيات مع وضع كل واحدة منها مع الآية المماثلة لها.
وبعدها هذه المجموعات التي ظهرت عندك ترتب بحسب ما يقتضيه (العموم والخصوص) و (الإطلاق والتقييد) و(التقدم والتأخر) وغيره.
وتجد في النهاية وهي الخطوة الاخيرة ستظهر عندك عملية استنباط رؤية متكاملة من خلال ما سبق كما المثال.
ولاحظ هنا لا تغفل عن رجوعك لكتب التفاسير مع روايات اهل البيت D فيظهر لكبشكل واضح ايراد يقول ما هي صور الجمع فيما بين الآيات القرآنية.
فيقال لك ان عندك هنالك أشكالات كثيرة لغرض الجمع فمنها ( الجمع الاستنباطي والجمع الموضوعي والجمع التفسيري والجمع الترتيبي).
اشكال الجمع الأول : جمع تفسيري : ومعنى ذلك هو كشف المدلول الحقيقي للآية الكريمة من خلال آية أخرى تتعرض إلى نفس الموضوع، ومن باب المثال نذكر هنا نموذجمن القران الكريم وهي كما يلي:-
جاء في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم،َ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيْهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)[43].
انت تعلم أن لكل آية قرانية لها مفهوم ومصداق، فمفهوم كلم (الصراط) معروف من المعنى اللغوي للكلمة في ألسنة اللغة. فحاصل معناه ان الصراط المستقيم بمعنى الصراط المعبد للسير، والمستقيم جاء بمعنى المعتدل، وهو أقرب الطرق إلى المقصد.
فمفهوم الآية القرانية واضح لا شبهة فيه، ولكن بقي مصداق الآية غير واضح، فلا تعلم ما هو الصراط المستقيم الذي يجب عليك ان تسير عليه، وكذلك لا تعلم من هم مصداق الذين أنعم الله عليهم لكي تهتدي بطريقتهم.
فتلاحظه غير واضح من الآية القرانية وفيه كذلك اللغة ولسان العرب ما هو المقصود من الصراط المستقيم. فما تفعل هنا؟.
فعليك معرفته من خلال ربط هذه الآية الكريمة مع الآيات الأخرى لغرض الوصول لمصداق الآية، فتذهب للقران وتقرأ اية من سورة (يس) كما في قوله تعالى: (وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)[44].
فتعرف من أن الصراط المستقيم هي عبادة الله سبحانه وتعالى مع التزامك بمنهجه سبحانه في حياتك العملية والاجتماعية وغيرها.
ومن ثم بعدها تأخذ آية قرانية أخرى كما في قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا)[45].
فيحصل عندك من أن المراد من مفهوم عبارة (الذين أنعمت عليهم) هم (الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون) [46] ومن سار على نهجهم.
وبقي لدينا اخر خطوة وهي النتيجة والثمرة المترتبة على كل هذا وهو (التخصيص) ان تختار حديث[47] فمثلاً قول النبيJ: (اني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي) فبين ان الكتاب حجة، كما أن العترة حجة.
لانه روى عنهJ انه قال: (اذا جاءكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)[48].
وبقي عندنا من المقصود بـ(الضالون) الذين ندعوا الله تعالى كل يوم, فمن خلال الآيات القرانية الكريمة الأخرى تجد من أن القرآن الكريم قد حدد (الضلال) بالكفر وذلك كما في قوله تعالى: ( وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[49]. وقوله تعالى: ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[50].
وقوله تعالى: ( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)[51]. وقوله تعالى: ( بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[52]. وقوله تعالى: ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[53]. وقوله تعالى: ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا)[54].
وهكذا، تكشف من خلال القران آيات أخرى من أن المقصود بكلمة (الضالين) هم المنحرفين من الناحية الفكرية والسلوكية، ويتعدون على حقوق الآخرين واعتقد مصداقهُ اليوم في عصرنا واضح جداً.
وكل هذا مما سبق من كلام وذكر ايات القران الكريم مع بعضها البعض يسمى بـ( تفسير القرآن بالقرآن ).
اشكال الجمع الثاني : جمع ترتيبي : ومعنى ذلك فرز مجموعة من آيات القران ومن ثم ترتيبها على شكل منطقي، ولذلك فوائد توصلك الى ما يلي:-
1- تلاحظ حلول التناقضات المتوهمة فيما بين آياتالقران، وذلك حينما تنظر إلى الآيات بشكل منتظم فقد تتصور اختلاف فيما بين مفاهيم هذه الآيات، ولكنك بعد تنسيقها وتنظيمها لا تجد أي اختلاف. بل تجد الأمر من قبيل (الخصوص والعموم) أو (التقييد والإطلاق) والى غير ذلك، ما ترى مثيلا له حتى في كلماتك اليومية.
2 - فهم (مرحلية) هبوط الأحكام الإلهية، وذلك أن الأمر أو النهي تجده تعلق بقاعدة أساسية من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاءا حاسماً منذ اللحظة الأولى. ولكن حينما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو وضع اجتماعي معقد او معين، فإن الإسلام يتجه الى التريث فيه، ويأخذ القضية باليسير والرفق والتدريج، ومن ثم يهيئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة. كما المثال التالي:-
في قضية تحريم الخمر، لم يكن الموضوع أمر توحيد أو شرك، بل كان أمر عادة وأُنس وادمان، وكل هذا يحتاج إلى علاج، ولهذا تدرجت ايات القرآن من مرحلة إلى مرحلة حتى وصل إلى التحريم النهائي كما جاء عن الإمام الباقرA:
( ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله تعالى أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراماً، وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين).
وكذلك عنهA قال: ( ليس أحد أرفق من الله تعالى، فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حملهم جملة - أي مرة واحدة - لهلكوا)[55].
ولاحظ كيف تدرجت ايات القرآن الكريم في تحريمها للخمر وهي في البداية، بدأت ايات القرآن من خلال تحريك الوجدان الديني والمنطق العقلي في نفوس المسلمين، من خلال بيان أن الإثم في الخمر أكبر من النفع كما في قوله تعالى:
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)[56]. وفي هذا الكلام إيحاء من أن تركها هو الأولى.
ومن ثم بعدها جاءت الخطوة الثانية كما في آية سورة النساء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)[57].
فالصلاة هي في خمسة أوقات متقاربة لا يكفي ما بينها لعمل الرذيلة وهي (السكر) ومن ثم (الإفاقة)، وفي هذا تضييق لفرصة المزاولة العملية لعادة احتساء الخمر (اعاذ الله منها الجميع)، ولكسر عادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد تعاطي ذلك الذي حرم.
فالمعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من أي شيء مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت الذي اعتاد عليه وتكرر هذا التجاوز فترة تحجمت هذه العادة، وأمكن التغلب عليها.
وبعدما تمت هاتين الخطوتين جاء النهي الحازم الأخير القاطع بتحريم الخمر كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَوَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[58].
وعندها قال جميع المسلمين: (نعم! سمعاً وطاعة, لقد انتهينا يا رسول اللهo) ثم بعدها أخذوا يهريقون الخمور في الأزقة حتى جرت فيها والى يومنا هذا.
اشكال الجمع الثالث : جمع استنباطي : ومعنى ذلك الجمع بين آيتين من القرآن أو اكثر لغرض استنباط حكم تشريعي معين أو فكرة معينة. وحينما تنظر الى التراث الذي خلفه لنا الأئمة D من اهل البيتD عني بهذا النوع من الجمع، ولهذا نقتصر على نماذج معينة وكما يلي:-
( أ ) :- جاء عن أبي الاسود الدؤلي قال: رفع إلى عمر امرأة لستة أشهر، فأراد أن يرجمها[59] فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالبA فقالت: ( إن عمر رجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذراً لمّا -أي: إلا- أخبرتني به).
فقال عليA: ( إن لها عذراً ). ثم انطلقت إلى عمر، فقالت: إن علياA زعم أن لأختي عذراً. فأرسل عمر إلى عليA: ما عذرها؟ قالA: إن الله يقول: ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ )[60] وقال: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)[61] وقال: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)[62]. وكان الحمل هنا ستة أشهر[63] قال الراوي: ثم إنها ولدت آخر لستة أشهر[64].
وهكذا، الإمام علي A قد بين من خلال هذه الآيات الكريمة التي لا يبدو عند اول نظرة عابرة لها عن وجود أي ارتباط فيما بينها. فلاحظ استطاع الامام أن يبين لهم منها حكم عظيم من أحكام الإسلام، وأن ينقذ امرأة من حكم بحقها.
( ب )  سارق اعترف بالسرقة : إن سارقاً اعترف على نفسه بالسرقة، فأحضروه إلى مجلس المعتصم - الملك العباسي - لكي يقيم عليه الحد، ولكن المعتصم لم يعرف حده، فأحضر فقهاء بغداد وفيهم ابن أبي داود والإمام محمد بن علي الجوادA فسألهم: (من أين تقطع يد السارق)؟
فقال ابن أبي داود من مفصل الكف واستدل بآية التيمم: (فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)[65].
ولكن العلماء الآخرين أطبقوا على قطع اليد من المرفق مستدلين بآية الوضوء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)[66].
وكل ذلك الإمام الجواد A ساكت لا يتكلم بشيء، حتى التفت إليه المعتصم قائلاً: (ما تقول)؟ غير أن الإمامA لم يك يريد الرد على هؤلاء.
فقالA: قالوا وسمعت. فتطلع المعتصم إلى رأي جديد يضمره الإمام A فألح عليه قائلاً: ( لا رأي لي عند هؤلاء، بالله عليك إلا ما حكمت).
فقال الإمام A: إن النبيo أمر توضع المواضع السبعة (التي منها الكفان) في السجود على الأرض، ويقول الله الحكيم: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)[67] فلا تقطع الكف التي هي من المساجد، بل اقطع الأصابع الأربع فحسب[68].
فلاحظ هكذا، استطاع الإمام الجوادA أن يكشف حدود قطع يد السارق من خلال الجمع بين آيتين كريمتين هما قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) وقوله تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ).
( ج ) الخمر والنهي والتحريم : جاء عن علي بن يقطين، قال: سئل المهدي - الملك العباسي- أبا الحسن[69] A عن الخمر فقال: ( هل هي محرمة في كتاب الله؟ فإن الناس يعرفون النهي ولا يعرفون التحريم).
فقال له أبو الحسن A: بل هي محرمة. قال: في أي موضع هي محرمة؟ بكتاب الله يا أبا الحسن؟
قالA: قول الله تبارك وتعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[70]فأما قوله: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فيعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي (كانت) ترفعها الفواجر في الجاهلية.
وأما قوله (وَمَا بَطَنَ) يعني: ما نكح من الآباء، فإن الناس كانوا قبل أن يبعث الله النبي o إذا كان للرجل زوجته، ومات عنها، تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه، فحرم ذلك.
وأما (الإثم) فإنها الخمر بعينها، وقد قال الله في موضع آخر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)[71] فأما الإثم في كتاب الله فيه الخمر والميسر في النرد، وإثمهما كبير.
فقال المهدي: (هذه - والله - فتوى هاشمية)![72].
فلاحظ هكذا، استطاع الإمام الكاظمA أن يكشف حدود الحرمة من خلال الجمع بين الآيات الكريمة.


[1]- Ignaz Goldzhe (1850ـ 1921م) مستشرق يهودي مَجريّ، دَرسَ في بودابست، وبرلين، ومسجد الأزهر في مصر.
[2]- فيلون: فيلسوف يهودي مولود ما بين عشرين وثلاثين سنة قبل الميلاد. أنظر: التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج4، ص 259.
[3]- جولدزيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجّار. تفسير المنار كان من أوّل القرآن إلى الآية 126 من سورة النساء بإنشاء الشيخ محمّد عبده ثمّ سار تلميذه السيّد رشيد رضا بإكمال هذا التفسير على نهج أستاذه حتّى سورة يوسف. أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 1011.
[4]- التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج 1، ص 255 284.
[5]- سورة النحل الاية 90 .
[6]- سورة لقمان الاية 30 .
[7]- كتاب تفسير : الامثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل, المؤلف : الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازيK الجزء الاول ص6.
[8]- سورة الزمر الاية 25.
[9]- سورة النجم الاية 3.
[10]- سورة المعارج الاية 1.
[11]- سورة هود الاية 48.
[12]- سورة ال عمران الاية 75.
[13]- سورة يوسف 100.
[14]- يتعاور : أي الورود على التناوب. قال الخليل: والتّعاوُرُ عامٌّ في كلِّ شيء كما في مقاييس اللغة أبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا ج4 ص151.
[15]- سورة البقرة الاية 76.
[16]- سورة طه الاية 71.
[17]- هو كلام ابن عربي .
[18]- سورة الكهف الاية 28.
[19]- مثل ابن عطية كما في المحرر الوجيز.
[20]- سورة البقرة الاية 14
[21]- مثل بن كثير كما في التفسير العظيم.
[22]- مثل بن تيمية الحراني وتلميذه بن القيم .
[23]- مثل الالوسي كما في روح المعاني وكذلك بن عاشور كما في التحرير والتنوير.
[24]- سورة البقرة الاية  14.
[25]- سورة البقرة الاية  187.
[26]- سورة النساء الاية 21.
[27]- سورة الكهف الاية 28
[28]- سورة الاعراف الاية 88.
[29]- سورة هود الاية 23.
[30]- سورة الزمر الاية 17.
[31]- سورة الانبياء الاية 77.
[32]- سورة المؤمنون الاية 65.
[33]- سورة الفرقان الاية 40.
[34]- سورة النور الاية 63.
[35]- سورة هود الاية 88.
[36]- سورة فصلت الاية 17.
[37]- سورة التوبة الاية 23.
[38]- سورة النحل الاية 107.
[39]- سورة الانسان الاية 6.
[40]- سورة البقرة الاية 249.
[41]- سورة طه الاية 71.
[42]- الكتاب منقسم إلى خمسة اجزاء.
[43]- سورة الحمد الاية  6 و 7.
[44]- سورة يس أية 60.
[45]- سورة النساء الاية 68.
[46]- القرآن كتاب حياة ص 61، 62.
[47]- تفسير التبيان في تفسير القرآن ج1 ص4 لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسيH تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي.
[48]- معاني القرآن على أربعة أقسام :-
احدها - ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لاحد تكلف القول فيه، ولاتعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل: إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو. الاعراف: 186) ومثل قوله تعالى: (ان الله عنده علم الساعة...لقمان34) إلى آخرها فتعاطي معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ.
وثانيها - ما كان ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها، عرف معناها، مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. الانعام151) ومثل قوله تعالى: (قل هو الله أحد..التوحيد1) وغير ذلك.
وثالثها - ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا. مثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة... سورة البقرة:آية43 و83 و110) ومثل قوله: (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا....آل عمران91) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده...الانعام141) وقوله: (وفي أموالهم حق معلوم...المعارج23) وما اشبه ذلك.(التبيان في تفسير القرآن ج1 ص5).
[49]- سورة النساء الاية 136.
[50]- سورة النساء الاية 116.
[51]- سورة البقرة الاية 108.
[52]- سورة لقمان الاية 11.
[53]- سورة ص الاية 26.
[54]- سورة الأحزاب الاية 36.
[55]- تفسير الصافي في تفسير القرآن - المجلد الأول - ص 187 الطبعة الخامسة.
[56]- سورة البقرة الاية 219.
[57]- سورة النساء الاية 43.
[58]- سورة المائدة الاية 90 و91.
[59]- والسبب لأنها ولدت قبل إكمال تسعة أشهر من زواجها، مما أثار ريبة الخليفة عمر بن الخطاب في ارتكابها للفحشاء قبل زواجها.
[60]- سورة البقرة الاية 233.
[61]- سورة الأحقاف الاية 15.
[62]- سورة لقمان الاية 14.
[63]- فإذا كانت فترة الرضاع أو الفصال - لا فرق - حولين (أي: أربعة وعشرين شهراً)، وكانت فترة الحمل والفصال معاً ثلاثين شهراً، فالنتيجة هي أنه يمكن أن تكون فترة الحمل ستة أشهر فقط.
[64]- موسوعة الغدير ج 6 ص 93 ( الطبعة الثالثة ).
[65]- سورة النساء الاية 43.
[66]- سورة المائدة الاية 9.
[67]- سورة الجن الاية 18.
[68]- العقوبات في الإسلام ص 25و26.
[69]- اي الامام موسى الكاظم A.
[70]- سورة الأعراف  الاية 23
[71]- سورة البقرة  الاية 219.
[72]- راجع : البرهان في تفسير القرآن ج2 ص 14 الطبعة الثالثة وكذلك الصافي في تفسير القرآن ج1 ص188 الطبعة الخامسة.