طرق علم البيان في الالفاظ
والمعاني وتقدم المفعول به ولم يقدمه ونكرة ثلاث مرات بآية واحدة
طرق علم البيان : يعتبر التشبيه في اللغة هو الدلالة
على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى. واما التشبيه في الاصطلاح فهو إلحاق المشبه
بالمشبه به بأداة تشبيه.
ووذكر اهل الاختصاص ان أركان التشبيه
(المشبه - المشبه به وهو طرفي التشبيه - أداة التشبيه - وجه الشبه).
وتلاحظ ان أغراض التشبيه هي الأمور
التي تحمل على الإتيان به وتعود في الغالب للمشبه لأنه هو الذي يطلب ما تعلق به
وقد يرجع للغرض إلى المشبه به ومنها:
منها : البيان من أن وجود المشبه ممكن
الوجود في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه فيقع قياسه على شيء بديهي
الوقوع به، كما في شعر البحتري حينما أنشد قال:
دان إلى أيدي العفاة وشاســــع * عن
كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوءه * للعصبة
السارين جد قريـــــب
منها : البيان لحال المشبه: وهو بمعنى
صفته التي عليها بشرط في حال اذا كان المخاطب يجهل صفة المشبه فتلحقه بالمشبه به
وان يكون معروف عنده كما في شعر النابغة حينما أنشد قال:
كأنك شمس والملوك كواكب * إذا طلعت لم
يبد منهن كوكب
منها : البيان لمقدار حال المشبه سواء كان
من القوة والضعف والزيادة والنقصان وهذا إن كان المخاطب عرف صفته على الجملة ولكنه
جهل مقدار الصفة فيقاس على شيء يعرف مقدار حاله كما في شعر المتنبي في وصفه للأسد
حينما أنشد قال:
ما قوبلت عينه إلا ظنتا * تحت الدجى
نار الفريق حلولا
منها : التقرير لحال المشبه: بمعنى
التمكين والتقوية في ذهن السامع من خلال إظهارها بصورة أوضح وأقوى ما يكون في
تشبيه المعقول بالمحسوس كما في قوله تعالى: (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم
بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) [1].
منها : تزيين المشبه: وهنا المقصود منه
تحسينه في ذهن السامع من خلال اقترانه إلى صورة حسنة كما في قول هذا الشاعر[2] حينما انشد قال:
لا يرعك المشيب يا ابنة عبد * الله
فالشيب زينة ووقـــــار
إنما تحسن الرياض إذا مــــا * ضحكت
في خلالها الأنوار
منها : تقبيح المشبه: وهو بمعنى تصويره
للمخاطب من خلال صورة قبيحة كما في قول الأعرابي بشعره في ذم إمرأة[3] فأنشد:-
وتفتح لا كانت فـما لو رأيـــــته *
توهـمـته بـاباً من النار يفــــــتح
إذاعاين الشيطان صورة وجهها *
تعودمنها حين يمسي ويصبح لها
جسم برغوث وساق بعوضــــة * ووجه كوجه
القرد بل هو أقــــبح.
إعجاز البيان في الالفاظ والمعاني : تلاحظ من مميزات تعبير ايات القرآن
الكريم كما في كلام الله تعالى مصورا عاقبة قوم النبي نوحA وما أصابهم من الغرق بقوله تعالى:
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا
سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[4].
فعليك ان تلاحظ إن كل من أوتي حظاً او
نصيبا من الذوق والحس يشعر بتلاوة هذه الآية إن تلاها أو تليت عليه بهاجس نفسي
يستوقفه عند كل كلمة بل عند كل حرف فيها وما هو ذلك إلا لما تحمل من دقة الترتيب
وجمال التنسيق فيما بين الحروف وبين الكلمات.
وما يصاحب ذلك من ترتب المعاني
وتساوقها فتجد كل حرف منها له إشعاعة الخاص ويبدأ بالتجلي لما فيها من جمال وجلال
من خلال تصدير الآية بالقول مبني للمجهول : (وقيل) وما ولي ذلك من نداء الأرض
باسمها الصريح بنا من أحرف النداء دون غيرها.
وأمرها من أن تبلع ذلك الماء ومن ثم
إضافة الماء إليها وإتباع نداء الأرض ملحق بنداء السماء من خلال نفس الأداة وأمرها
بالإقلاع وإظهار النتيجة وهي غيض الماء وقضاء الأمر بصياغة فعل مبني للمجهول في كل
منهما.
واستواء السفينة على الجودي هو إعلان
النهاية وهي بعد القوم الظالمين، وانتبه جيد انه لو أن حرف من حروف الاية انتزع من
مكانه لم يسد غيره مسده وبهذا يظهر أن البلاغة كما تكون في الجمل تكون في المفردات
كذلك.
طبعاً مع الترتيب حتى وإن كانت الكلمات
المفردة لا يتجلى جمالها ولا يسطع ضياؤها إلا إذا قرنت بما يناسبها من حيث تكون كل
واحدة منها آخذة بحجزة أختها بحسب ترتب المعاني في داخل النفس.
فلو تنظر في قول الله تعالى:
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)[5] تلاحظ من الروعة والجمال من خلال
اجتماع كلمتي الصبح والتنفس ما لا تجده لو جيء بأي كلمة لكي توضع في مكان إحدى
الكلمتين بهذا التأثر.
فلاحظ إن كلمة الفجر إذا تنفس لم
تخالط نفسك هذه الروعة ولم تحس بهذا التأثر فكلمة الفجر وإن كانت رديفة لاختها
كلمة الصبح ولكن هي تختلف معها في الاشتقاق لأنها مشتقة من الانفجار ومعنى هذا أن
الفجر أول سطوع ينشق عنه ظلام الليل.
ومعنى الصبح مأخوذ من الإصباح وهو سريان الضوء
لكي يمزق رداء الظلام الذي يجلل الفضاء ولهذا تلاحظ كلمة الصبح هنا أليق وأنسب من
كلمة الفجر وهو لاقترانها بذكر التنفس والتنفس دليل الحياة لأنه عبارة عن جذب
النفس لداخل الجسم ومن ثم إخراجه وبهذا الدخول تعطي الجسم مادة الحياة وخروجها
استمرار للحياة.
وهذا لا يتناسب مع ذكر الفجر كما
يتناسب مع ذكر الصبح لما تصوره في عبارة جملة (والصبح إذا تنفس) وهو ذلك المشهد
الذي ينساب فيه ضوء الصباح في الفضاء لكي يطوي رداء الظلام وتسري الحياة في عالم
الأرض.
وقل مثيله في التناسب فيما بين جميع
الكلمات وتآخيها كما في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ)[6].
في القران الكريم تجد هاتين الآيتين
مسبوقتين بذكر الوحي وكيفيته في قول الله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا
وحيا أو من وراء حجاب...).
فهنا وجه الخطاب من خلال أسلوب
الالتفات إلى رسول الله o في قول الله (وكذلك أوحينا إليك) وهذا معناه
أن الله سبحانه أوحى إلى عبده النبي محمدo بنفس الطريقة التي كان يوحي بها إلى
الانبياء من قبل.
ولم يقل وهو عز من قائل وكذلك
(أرسلنا) بدلا من (أوحينا) لما في الإيحاء من معنى لطيف فهذا يدل على الخفاء الذي
لا يدل عليه الإرسال.
وهذا الوحي إلى الانبياء يكون من خلال
طريقة خفية من حيث لا يشعر من حولهم بما أوحي إليهم به وقد بين الله سبحانه أن
الموحى به هو روح من أمره تعالى. والتعبير بالروح يعتبر أنسب بالوحي لما في الروح
من اللطف والخفاء.
ولكن هناك رأي يقول أن الأرجح تفسير
الروح هنا بالقرآن لا بالملك جبريلA فإن الموحى به هو القرآن وحمله على جبريلA- كما عليه بعض المفسرين- فلا يتأتى إلا إذا
فسر أوحينا بأرسلنا.
وقد بين الله سبحانه في الآية من أن
الروح الموحى به من أمره فلا دخل لأهواء الناس ونزعاتهم فيما أوحي به الله ولا
تأثير لشيء عليه وفي التعبير بالروح كذلك.
ما يشعر من أن الموحى به سبب للحياة،
كما أن الروح التي تنفخ في الجسم تعتبر هي سبب لحياته، وإنما حياة الناس من خلال
الروح الموحى به حياة معنوية فهي حياة العقول والأفكار وحياة المشاعر والأحاسيس.
ثم بعدها أتبع ذلك في عبارة قوله (ما
كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) لإظهار المنة على رسول اللهo الذي أكرمه الله تعالى بالوحي. فلم تؤثر
حياة الجاهلية من خلال مخالطتهم على عقله ولا سلوكهo.
ثم بعدها تلا ذلك في عبارة قوله (نهدي به من
نشاء من عبادنا) وهي لغرض بيان أثر ايات القرآن فهي نور من الله يشرق على العقول
فيهديها ويطوي من النفس ظلمات الطبع.
ثم بعدها بين الله تعالى تشريفه
لرسوله محمد بن عبداللهo من خلال جعله هاديا إلى صراط مستقيم يهدي ببيان
ما أنزل إليه من الكتاب يفصل مجملاته ويوضح مبهماته وينشر طواياه.
فلاحظ هذا التناسق فيما بين الكلمات
والتساوق في داخل المعاني وما تجده من لذة وقع الكلمات في سمعك وأثر معانيها في
داخل نفسك، لتجد التآلف فيما بين الحروف مثل التآلف بين الكلمات.
ونأخذ نموذج مثلا في حكاية الله تعالى
عن أخوة النبي يوسفA كما في قوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ
تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ
الْهَالِكِينَ)[7].
تلاحظ تصدير المحكى عنهم من خلال
القسم ولم يكن القسم بالباء أو الواو بل كان بالتاء وهي مقرونة بما يضاهيها من
الحروف والكلمات في الشدة والندره، منها لفظة كلمة (تفتأ) التي تكررت فيها التاء
وتلتها الهمزة وهي من الحروف الشديدة كذلك.
وجردت لفظة (تفتأ) من لفظة (لا)
النافية لكي تخلص الشدة في التركيب ثم جاءت بعدها عبارة (تذكر يوسفA) وتذكر فيها حرفان من حروف الشدة وهي التاء
والكاف.
ثم بعدها وردت عبارة جملة (حتى تكون
حرضا) في هذا الموضع لكي تتم ندرة التعبير فهي مع ثقلها تعتبر نادرة الوقوع، وهذا
التعبير القرآني عكس الحالة النفسية التي كان عليها حال المحكى عنهم.
فهم كانوا يشعرون ويتألمون كلما طرق
ذكر النبي يوسفA مسامعهم أو خطر على قلوبهم ببشاعة فعلهم
فتتصور لهم جريمتهم في سويداء قلوبهم وتتمثل لهم أمام سواد أعينهم وتجرد لهم
ضمائرهم عصا الملامة تلذعهم بوقعها في داخل نفوسهم.
لانهم جنوا وارتكبوا على أبيهمA ذلك الشيخ الكبير الحاني وعلى أخيهم الناشئ
الصغير الضعيف وهم يرغبون ويحاولون التخلص من الإحراج الذي يواجهونه كلما ذكر اسم
النبي يوسفA على لسان احدهم.
وخصوصاً اذا كان على لسان أبيهمA الذي لا ينفك عن ذكره ولا تبارح نفسه عن
ذكراه. فلا غرابة إذ جئ بمثل هذه الكلمات الشديدة النادرة في الحكاية عنهم، وقل
مثلها فيما حكي عنهم من قولهم (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)[8].
فتلاحظ إن الحكاية قسمهم وهي (التاء)
لكي تعكس انفعالهم وكذلك ما ذكر عن النبي إبراهيمA من قوله (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)[9].
فإنه هنا المقام مقام غضب وانفعال من أبي
الأنبياء إبراهيمA وذلك بسبب تعنت قومه في الكفر مع إصرارهم
عليه واتخاذهم الأنداد لله تعالى وهذه هي ميزة التعبير القرآني.
وقد يتبادر لنفسك كلام وتساءل كيف
تكون هذه الميزة للتعبير القرآني ولغته العربية, فكيف يعجز العرب عن الإتيان بمثله
وهم لغتهم العربية مع أنه لم يأت بجديد من الحروف والكلمات فحروفه هي حروفهم التي
ألفوها وكلماته هي كلماتهم التي عرفوها؟.
جوابه أن صنعة البيان مثل صنعة
البناء، فالبناء او المهندس الماهر لا يأتي بمادة جديدة في التشييد ولكن يظهر
تفوقه من خلال حسن التصميم واختيار النوع الجيد من مادة البناء وترتيب الغرف
والأبهاء لكي تتسع المساحة الصغيرة من الأرض لكثير من الحجر التي لم تكن لتتسع لها
لولا حسن الترتيب وحتى يتخللها الضوء والهواء إلى غير ذلك من نحو خفة السقف ومتانة
الأساس[10].
فمثلهِ يحصل التفاوت في صنعة البنيان
في جودة المعاني وترتيب الكلمات وإلا فالحروف هي نفس الحروف والكلمات هي نفس
الكلمات والتفاوت بين صنعة واخرى تفاوت لا تمكن معه المقارنة.
فتجد ان الناس يصنعون من مادة التراب
أنواع متنوعة من الأوعية الخزفية والآجر وباقي المصنوعات المعروفة وهي كلها من
أنواع الجمادات الميتة ولاحظ ان الله تعالى صنع من نفس التراب الإنسان.
واثبت العلم ان جميع عناصر التراب
موجودة في جسمه وقد نفخ الله فيه من روحه فسرت الحياة إلى داخل كل خلية من خلاياه
وجعل فيه من الغرائز والطبائع والأحاسيس والأفكار ما يؤهله لأن يصبح خليفة في
الأرض.
وجعل في جسمه من عجائب التكوين ما بهر
عقول الباحثين فهو يشتمل على ملايين الملايين من الخلايا ولكل خلية وظيفتها ولكل
خلية مطالبها التي هيأها الله سبحانه لها.
ونفس الفارق فيما بين كلام الله وكلام
الناس فالحروف هي الحروف والكلمات هي الكلمات ولكن لكلام الله جعل فيه روح تميزه
ليست في كلام الناس موجودة، وبسبب هذه الروح التي في حروف القران كان هذا الكتاب
يسري في نفس أي إنسان سريان الروح في الجسم والضوء في الفضاء والماء في الشجر.
وتتميز ايات القرآن عن كل كلام من أنك
لا ترى فيه أثر الملل او السأم ولا تجد فيه ما يشير إلى غيره ولهذا لا تستطيع أن
تفاصل بين عبارة وأخرى منه فهو مثل نهر من النور كل حرف منه لمعة نورانية ساطعة
مكنونة.
ولكن بينما تجد كلام الخلق تظهر
بداخله كما في أحدهم جواد البيان فترى في كلامه الإسفاف الذي لا يقارن ببليغ كلامه
كما عند امرؤ القيس وهو من نوابغ شعراء الجاهلية تلاحظ له كبوات في شعره ومثله
كذلك المتنبي من كبار شعراء المولدين وقل مثل ذلك في جميع الشعراء والخطباء
والكتاب من دون استثناء.
وجميع الناس مهما حصلوا على ملكة
البيان فبيانهم لا يفي بما في نفوسهم من التصورات فقد تتناسق في نفس أحدهم المعاني
الكثيرة فإذا اراد ان يعبر عنها أخفق في التعبير وجاء بيانه من دون ما يرمي إليه.
والسبب لأن فنية التصوير تكون دائما
وأبدا أقل من عمق التصور وهذا أمر مشترك فيما بين جميع البلغاء لا فرق فيه بين
العرب وغيرهم، ووجدنا أحد الكاتبين قسم الكلام إلى ثلاثة أقسام (صوت النفس وصوت
العقل وصوت الحس).
صوت النفس : هي لفظ الكلمة التي تخرج
حاملة معها نبرات حروفها مع ما توحيه تلك الحروف من خلال اختلاف مخارجها وتعدد
صفاتها من إيحاءات خاصة فهذه الكلمة تعتبر خطوة من خطوات المعاني تتقدم انت بها
إلى النفس.
صوت العقل : وهو ما يشد أي انسان مع
أثارة انتباهه من المعاني تؤدي بالعبارات البليغة حتى تصل إلى موضع الإقناع من
العقل والوجدان الى داخل القلب.
صوت الحس : وهو أعمق أثر وأقوى تأثيرا
من الجميع لأنه يستولي الكلام على حس الإنسان استيلاء يجعل النفس تشعر من أنها
منساقة خلفه او إلى هذا التعبير انسياق لا تملك دفعه وتنجذب إليه انجذاب لا تستطيع
ان تتصوره او تتصور أسبابه.
والسبب في ذلك لما بالكلام من روح
غيبية فوق مدارك الأفهام وهذا الصوت إن وجد في ضمن كلام الناس فهو نادر الوقوع ولا
يكون إلا في ضمن كلمات معدودة.
وأما أن يكون في جميع الكلام من أوله
الى آخره فهو لم يعهد إلا في ايات القرآن وحدها، فكل حرف من حروفه تسري في داخله
هذه الروح الغيبية فتجعله نابض بالحياة فلا توجد فيه لو أزيل من موضعه ومن ثم وضع
في أي مكان من كلام بلغاء البشرية.
ومن خلال هذه الروح التي تميزت بها
ايات القرآن ملأت القلوب إعجازه فكان هذا الإعجاز راسخ في قرارة كل نفس من نفوسهم
وإن أنكروه في أطراف ألسنتهم وكان هذا الإحساس لا ينفك عنهم.
فلو حاولوا من أن يأتوا بأي قول آخر
لكي يعارضوه به لشعروا مثل ذلك الإحساس الذي يغلق عليهم مسالك التعبير حتى لو استطاعوا
ترتيب المعاني الذهنية في نفوسهم من خلال عمق تصورهم وسعة خيالهم.
فتجد انهم خانتهم ألسنتهم وتعثرت في
نهج البيان كما عجز العرب قبلهم عن معارضته فمن جاء من بعدهم من المولدين أعمق في
العجز.
فالمسلم في كل عصر يشعر اكثر إذا تلا
ايات القرآن أن حقائقه تتجلى أكثر ما تتجلى في العصر السابق كما في قوله تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُون وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ)[11].
فيذهب بذهنه لكي يتصور منه المعاني
التي تنطبق على فكره، ويتسع لها خياله العلمي، كما تلاحظ عالم الفلك الذي يستعين
بالآلات المستحدثة المتنوعة على انجاز مهمته العلمية.
فيشعر بداخلهِ ان هذه الآيات ما جاءت
إلا لكي تخاطب عقله وعقول نظرائه من العلماء الباحثين كما في قوله تعالى:
(تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل
فيها سراجا وقمرا منيرا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[12].
وكذلك قوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا)[13] وكذلك قوله تعالى: (يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)[14].
بل تلاحظ صاحب كل أختصاص علمي في كل
عصر يستخرج من القرآن حقائق علمية كل بحسب ما أوتي من فهم وما وصل إليه من
اكتشافات.
ولا تعثر على أي دليل على ما يدل على
وجود التصادم بين نصوص القرآن ومدلولات العلم وإن اختلفت أطوار العلماء وتباينت
مذاهبهم العلمية فكيف وسعت ايات القرآن الدهر كله.
البيان في نكرة ثلاث مرات
بآية واحدة : جاء
في كتاب الله العزيز في سورة الروم قول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[15].
هنا يجب التذكير بالقاعدة البيانية من
أن النكرة إذا تكررت فإنها في كل مرة تفيد معنى جديداً. (ضعف) نكرة تكرارها في نفس الموضع
يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث.
والمقصود من الضعف الأول: هي النطفة
(ضعيفة) فهي ماء مهين.
والمقصود من الضعف الثاني: هي الطفولة
( لأنه بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرضاع وعناية خاصة لكي يجتاز مرحلة المراهقة
ويصل الى البلوغ).
والمقصود من الضعف الثالث: هي
الشيخوخة ( لأنه يعود في مرحلة الشيخوخة ضعيف عاجز. ضعيف الفكر. ضعيف الحركة
والسعي والنشاط وغيرها).
وتلاحظ في الآية أن لفظة ( قوة ) جاءت
نكرة وكررت مرتين.
والنتيجة القوة غير القوة. اما القوة الأولى: تعتبر هي قوة فترة
الصبا (الصبي قوي مندفع كثير الحركة).
واما القوة الثانية هي قوة الشباب ( قوة
الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح).
كما في قولهتعالى: (ثُمَّ
جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا)
فأصبح عندنا القوة الأولى تؤدي إلى القوة الثانية.
ففي كتاب الله العزيز هذه الآية
الكريمة تلخص حياة الإنسان على الأرض وأنها تقوم على خمس مراحل:
1- الضعف : في حالة جنين في بطن أمه .
2 - الضعف : في حالة رضيع في حضن أمه.
3 - القوة : في حالة صبي مندفع .
4 - القوة : في حالة شاب نشيط فاعل .
5 - الضعف : في حالة شيخ عجوز هرم.
لاحظ روعة إعجاز البيان في القرآن
الكريم وهو التعبير الحق البليغ عن أدق التفاصيل من خلال أقل عدد من الكلمات وداخل
نظم محكم بديع من بدون أن يخل بالسياق في جرْس يأخذ بالألباب الحيرة.
البيان في تقدم المفعول به
ولم يقدمه : تجد ان في ايات سورة فاتحة الكتاب
بالقران الكريم كيف قدّم المفعول به كما في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
ولم يقدمه في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)[16].
فلفظ كلمة (إياك) هي ضمير منفصل (
مفعول به ) مقدم على فعليه: وهي كلمة (نعبد) ، واما لفظة (نستعين واهدنا): فـ(نا)
تعتبر مفعول به أول واما كلمة (الصراط) هي مفعول به ثان.
فلماذا لم يقدم هذا المفعول به فيصبح
: عبارة (إيانا اهد). كما قال قبلها في عبارة (إياك نعبد)؟
وسبب التقديم في الأولى هو الاختصاص
فالعبادة لا تكون إلا لله وحده ومن عبد غير الله واستعان بغيره فقد اشرك به.
ومن هذا يظهر السبب والحكمة في
التقديم وهي لغرض إيماني من خلال هذا الأسلوب البلاغي. وذلك كما في قوله تعالى:
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
أما عدم تقديمه في عبارة قوله (اهدنا
الصراط المستقيم) لأن طلب الاختصاص في الهداية لا يصح فالله يهدي من يشاء. وهم كثيرين.
فمن هذا يجوز لك أن تقول : (اللهم
اهدني وارزقني). أي بمعنى أجعلني في زمرة من كتبت لهم الهداية والرزق.
ولا يجوز لك من أن تقول : (إياي اهد)،
(إياي ارزق). أي بمعنى اللهم اهدني وحدي وارزقني وحدي. فالمسلم ليس أناني والله
العالم.
[3] - نفس المصدر.
[4]- سورة هود الاية 44.
[5]- سورة التكوير الاية 18.
[6]- سورة الشورى الاية 52 – 53.
[7]- سورة يوسف الاية 85.
[8]- سورة يوسف الاية 73.
[9]- سورة الانبياء الاية 57.
[10]- راجع : الدكتور محمد دراز - كتاب : النبأ العظيم.
[11]- سورة يس الاية 37 – 39.
[12]- سورة الفرقان الاية 62.
[13]- سورة الاعراف الاية 54.
[14]- سورة الزمر الاية 5.
[15]- سورة الروم الاية 54.
[16]- سورة الحمد الاية 5-6.