الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق2إعجاز البيان في سورة القيامة


ق2إعجاز البيان في سورة القيامة
 ( د ) - تكرار في الآيتين : من ميزات هذه السورة الكريمة هو سبب التكرار ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.
1 - التكرار في الآيتين: الأولى والثانية : وهي كما في قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[1]. فتلاحظ فيها ثلاثة أراء وهي كما يلي:-
اولهما : أن الله تعالى تلاحظه أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.
ثانيهما : أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.
ثالثهما : أن الله تعالى لم يقسم لا بيوم القيامة ولا بالنفس اللوَّامة.
وتلاحظ اننا قد سبق وذكرنا من أن عبارة قول الله تعالى: (لَا أُقْسِمُ) ليس هو بقسم مباشر؛ بل هو تلويح بالقسم وعدول عنه، وذلك لعدم الحاجة إليه.
وأن لفظة ( لَا ) قد جيء بها قبل لفظة الفعل (أُقْسِمُ) وذلك لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض ثاني. ويعتبر هذا هو سبب البيان فيها.
وأما تكرارها مع لفظة الفعل ( أُقْسِمُ ) فتلاحظ فيه سبب آخرُ من أسرار البيان، وبيانه أنه لو قيل عبارة قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) احتمل ذلك معنيان وهما:-
معنى نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين. ومعنى اخر هو نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، من دون الآخر.
وأما عبارة قول الله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) فهذا يدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما سواء مجتمعين او منفردين.
ومعنى هذا أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ما قلنا هو أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة فيما بين وقوع يوم القيامة، ووقوع النفس اللوَّامة.
وكأن هذا المقطع هو إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه لازمة الوقوع، التي ترجع إليها كل الواقعات في السورة بطريقة دقيقة جميلة.
وأما يوم القيامة فقد جاء وصفه في هذه السورة وفي غيرها من السور بما لم يوصف به غيره.
وأما النفس اللوَّامة فجاءت بأراء متنوعة، كما عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. ومثله عنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
وقال سيد قطب : فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة.
ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة.
وقال : الشيخ مكارم الشيرازي[2]K على كل حال فإنّ النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان، ولذا تحس أحياناً بالهدوء والإستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتليء بالسرور والفرح والنشاط.
وبالعكس فإنّها تبتلي أحياناً بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم والحيرة، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة، وربّما يبلغ ألم الوجدان أنّه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.
هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شَبَهٌ عجيب بمحكمة القيامة.
1 ـ تجد إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام هما واحد، كما في يوم القيامة قوله: (عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين العبادك)[3].
2 ـ تجد إنّ هذه المحكمة ترفض كلّ توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في محكمة يوم القيامة، كما قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون)[4].
3 ـ تجد إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمّة في أقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت، فلا استئناف بذلك، ولا إعادة نظر، ولا تحتاج في ذلك شهور وسنين، وهذا هو ما نقرأهُ أيضاً في محكمة البعث قوله: (واللّه يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب)[5].
4 ـ تجد مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية، فالنيران تتقد في الوهلة الاُولى في أعماق القلب والروح، ثمّ تسري للخارج، فتعذب روح الإنسان أوّلاً، ثمّ تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله: (نار اللّه الموقدة التي تطّلع على الأفئدة)[6].
5 ـ تلاحظ عدم إحتياج هذه المحكمة لشهود، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه، نافعة كانت أم ضارة.
وتجد ذلك من خلال ما تشهد به ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث فيقول تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم)[7].
وتجد هذا التشبيه العجيب فيما بين المحكمتين هو دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر نقطة صغيرة جداً في محيط الوجود العظيم في هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير.
وجا في قول الله تعالى : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)[8].
والسؤال بلفظة (أَيَّانَ) هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي من استبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تماشيًا مع رغبته في البقاء على الفجور، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة.
وتعتبر الآخرة بمثابة لجام للنفس الراغبة في الشر بين حين واخر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة وفك هذا اللجام؛ لكي ينطلق في الشر والفجور، من دون حساب ليوم الحساب.
ومن ثمَّ جاء الجواب على تهكمه بيوم القيامة، ونكرانه واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه أي تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع ايات القران، وجرس الألفاظ كما في قوله تعالى:
( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[9].
2 -  التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة: كما في قوله تعالى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ  * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)[10]. هنا المراد به هو تكرار لفظة (القمر). والسبب في هذا التكرار هو أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية من غير الخبر في الاية الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس.
ومعنى خسفه اي ذهاب ضوئه وإظلامه. وقد قيل : إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف.
وقد غلِّب المذكر على المؤنث بالآية الثانية، وذلك لاجتماع الشمس والقمر. فلو قيل عبارة: طلع الشمس والقمر، بدلاً من عبارة جمع الشمس والقمر، لقبح؛ كما يقبح من أن يقال في عبارة: قام هند وزيد، إلا أن يراد به بالواو: الواو الجامعة، لا العاطفة.
وهنا في الآية الكريمة لا بد أن تكون الواو جامعة، وهي التي تسمَّى بواو المعيَّة، ولفظ الجمع قبلها يقتضي ذلك، كما في قراءة ابن مسعود عبارة قوله تعالى: (وَجُمِعَ بين الشَّمْس وَالْقَمَر).
ولكن قيل في المراد من جمعهما: أن الله تعالى يجمع بينهما يوم القيامة، ويلقيهما في النار؛ لكي يكونا عذابًا على الكفار.
وذكروا في تنوير المقباس من تفسير ابن عباس : يجمع بينهما كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين فيرمَي بهما في حجاب النور.
واما جمعُ الشمس والقمر فهو عبارة عن فناء الكون. أي بمعنى يحدث وقت التحام الشمس والقمر. ففي ذلك الوقت يحدث اضطراب فيما بين النجوم والكواكب، وتوابعها، فتصطدم ببعضها، وتتحطم، ثم بعدها تتناثر.
وقد أكِّد علماء الفلك أن جمع الشمس والقمر سوف يكون بفعل فقدان تعادل قوى الجاذبة والطاردة، ومن ثم سينجذب القمر الى مركزه الأصلي، وهو الشمس.
فالله تعالى هو القادر على جمع الشمس والقمر[11] في هذا اليوم هو جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر، وإن كان الكل أمام القدرة الإلهية على حد سواء.
3-  التكرار في الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين: كما في الآيتين المباركتين  بقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)[12].
فقد ذكر فيهما لفظ (أَوْلَى) مكررًا أربع مرات. والغرض من هذا التكرار هي المبالغة في التهديد والوعيد.
وخطاب الاية لأبي جهل، عمرو بن هشام، الذي ذكروا وصفه في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين، وهي قوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)[13].
وكان يأتي في بعض الأحيان إلى رسول اللهo يسمع منه تلاوة القرآن، ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، والاكثر منه كان يؤذيهo بالقول، ويصد عن سبيل الله.
ثم بعدها يذهب مختالاً بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشرور؛ وكلما فعل شيئًا يذكر. والله تعالى يواجه هذه الخيلاء العظمة الشريرة بالتهديد والوعيد، فيقول الله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).
وهذا تعبير اصطلاحي، قد تضمن التهديد والوعيد. ومعناها: قاربك ما تكره، فاحذره. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ، وهو القرب.
وذكر في زاد المسير لابن الجوزيِّ: قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان، إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وَلِيَكَ المكروه، يا أبا جهل.
وقيل[14] فإن قوله: ( أَوْلَى ) تامٌّ في الذمِّ، بدليل قوله: (فَأَوْلَى لَهُمْ)[15] فإن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنه للتهديد؛ وإنما كرَّرها؛ لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب في القبر، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة، وأولى لك عذاب النار، نعوذ بالله من شرها.
كما روي[16] عن سعيد بن جبيرF قال: قلت لابن عباس F: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أشيءٌ قاله رسول الله o أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله o ثم أنزله الله.
ومثلهِ روي[17] انه أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله o أبا جهل، فقالo: إن الله أمرني أن أقول لك: ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) قال: فنزع ثوبه من يده.
فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)[18].
( هـ ) - تقديم الخبر على المبتدأ: فمن أسباب هذه السورة الكريمة سبب التقديم والتأخير ومن ذلك تقديم الخبر على المبتدأ أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها وكما يلي:-
1 - تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ : جاء انه ذكر في كتابه العزير ويمكن ان نلاحظه في الآيات الآتية كما في قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ )[19].
وقوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ )[20]. قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ)[21]. وقوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )[22].
تلاحظ في عبارة الآية الأولى قُدِّم الخبر ( إِلَى رَبِّكَ ) على المبتدأ لفظة (الْمُسْتَقَرُّ) والسبب في هذا التقديم هي لإفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ.
ومعنى ذلك أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم من الله سبحانه إلا إليه وحده.
كما قال الزمخشري: أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله تعالى:
( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ )[23]. أو عبارة: إلى ربك مستقرُّهم. أي بمعنى: موضع قرارهم، من جنة، أو نار.
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ). وقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )[24].
أي بمعنى إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر نبيه محمد o وكذلك إثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. اذاً فالله سبحانه وحده تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه.
وعليك ان تلاحظ بيان القران تكفل به الائمة المعصومينD ومن ثم العلماء الابرار لال محمدJ المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه.
ومعنى هذا أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن من دون زمن.
وأما لفظ ( قرآن ) هنا فهي مصدر: لفظة ( قرأ ) وردت به بدل من لفظة (قراءة) لكي يدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم بعدها أطلق اللفظ على الكتاب المنزَّل على النبي محمد o فصار علمًا عليه.
وكذلك مثله في دلالته على المبالغة: لفظة (فرقان) ولفظة (غفران) ولفظة (شكران) ولفظة (كفران).
2 - تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها: تجد انه ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزير الآيات الآتية: قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ )[25]. قوله تعالى : ( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )[26]. قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ )[27]. قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[28]. قوله تعالى : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ )[29]. قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ )[30].
تلاحظ في هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي لفظ مصطلح ( العامل ).
وتجد الغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في آيات القران، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. كما في قوله تعالى: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[31].
ولكن قيل[32] تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول. ثم قال: ألا ترى إلى قوله:
(إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)[33] (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[34] (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)[35] (إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)[36] (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[37] (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[38] كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص.
ولفظ مصطلح ( المفعول ) يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.
وقد ذكروا[39] من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ.. وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[40].
تلاحظ أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله تعالى، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع.
( و ) – دخول (الواو) على (لو) الشرطية: كذلك من أسباب هذه السورة الكريمة سبب دخول لفظة (الواو) على لفظة (لو) الشرطية كما في قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[41].
وهنا لفظة (بَلِ) لغرض الإضراب الانتقالي، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة في عبارة قوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)[42] إلى الإخبار من أن الإنسان يعلم ما فعله.
فالمعنى هو: بل الإنسان حجَّة بيِّنة على نفسه يوم القيامة، وشاهد عليها وحده بما جنت، وارتكبت من الموبقات، ولو جاء بكل معذرة وحجة يعتذر بها عنها.
والسبب في ذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ بذلك كما في عبارة قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[43] ولهذا لا يحتاج إلى غيره؛ لكي ينبئه بأعماله.
ألا ترى عبارة إلى قوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ)[44] وهو كعبارة قوله تعالى: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)[45] فالبصيرة على هذا هي البينة الظاهرة.
ومثلها في عبارة قوله تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ )[46] ولفظة (التاء) فيها للمبالغة؛ كما في لفظة (راوية) ولفظة (علاَّمة) ولفظة (نسَّابة).
كما قال الشيخ الطوسيu (البصيرة) المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل في الدين والدنيا، يقال: فلان على بصيرة من أمره اي كأنه يبصره بعينه.
وقيل: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب؛ كما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين.
وقيل: البصيرة: العقل، الذي تظهر به المعاني والحقائق؛ كما أنّ البصر إدراك العين، الذي تتجلى به الأجسام. وتجمع على بصائر قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)[47].
والمعنى المراد من الآية أن الإنسان بصير على نفسه، رغم المعاذير، التي يأتي بها. وهذا ما أفادته ( الواو ) الداخلة على ( لَوْ ) في العبارة الشرطية، التي جاءت قيدًا على الجملة قبلها.
ولولا هذه الواو، لكان إلقاء المعاذير شرطًا في كون الإنسان بصير على نفسه، فجاءت الواو لتحصن المعنى. (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ).
ومثل ذلك قوله تعالى: (وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)[48] (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)[49].
ومثلهِ ذكر في تفسير نور الثقلين في اصول الكافي عن ابي جعفرA في قوله: قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني قال: ذاك رسول الله o وامير المؤمنين A والاوصياءD من بعدهم.
ومثله : عن علي بن ابرهيم عن ابيه قال : قال علي بن حسان لابي جعفرA: ياسيدي ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك فقال: وما ينكرون؟ ذلك قول الله عزوجل لقد قال لنبيهo : (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني) فوالله ما تبعهo الا عليA وله تسع سنين، وانا ابن تسع سنين.
ومثله : في روضة الواعظين للمفيد u قال الباقر A: (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني) قالA: عليA اتبعه.
( ز ) – دخول (الباء) على خبر ( ليس ): وتلاحظ من أسباب هذه السورة الكريمة هو سبب دخول لفظ (الباء) على خبر المنفي بلفظة (ليس) كما في قوله تعالى: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى )[50].
حينما ذكر الله تعالى في أول ايات السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه.
ذكر الله تعالى في آخرها الأدلة على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله تعالى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)[51].
وهذه الحقيقة، هي حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر من النشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا، تعتبر هي إحدى الحقائق الكبيرة، التي عرضتها ايات هذه السورة الكريمة.
وهي كما قيل[52] حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها، وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة، ويتمارون فيها.
فهي قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا، يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بيِّنة، لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيًّا مع التقدير والتدبير، الذي لا يترك هذا الإنسان سدى.
فلا يدع حياته وعمله من دون وزن ولا حساب وهذا هو الإيقاع، الذي تمسُّ السورة به القلوب، وهي تقول في أولها بقوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)[53].
ثم بعدها تقول في آخرها قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)[54].
فكانت الحياة في نظرهم حركة، لا علة لها، ولا هدف، ولا غاية. وهي أرحام تدفع، وهناك قبور تبلع وبين هاتين يحدث اللهو واللعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب زائل من متاع الحيوان.
فأما أن يكون هناك ناموس، من وراءه هدف، ومن وراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة على وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وينتهي إلى حساب وجزاء، لتكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، لكي نتهي إلى الحساب والجزاء.
ولاحظ هذه اللمسة في قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) فهي إحدى لمسات القرآن للقلب البشري؛ لكي يتلفت ومن ثم يستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب.
التي بدورها تربط وجوده مع الوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله من خلال فطرته السليمة كما في قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى)[55].
فأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها على حس البشر، تجد الوقع الحقيقي الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة بقوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى).
فلاحظ أن همزة الاستفهام، حينما تدخل على النفي؛ كما في عبارة هذه الآية قوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ) أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن حرف الباء الداخلة على لفظ الخبر (بِقَادِرٍ) هي زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ) وقولهم في تقديره: (أليس ذلك قادرًا) سواء في المعنى.
والواقع أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا من خلال دخول لفظ (الباء) على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه.
وبمعنى أخر: ان التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في ضمن سياق هذا المنفي. ونحو ذلك كما في قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[56]. قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ )[57]. قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ )[58]. قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )[59].
فهنا النفي في جميع هذه الآيات، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير.
وأما الإثبات فهو مستفاد من دخول لفظ ( الهمزة ) على لفظ (لَيْسَ). وأما التقرير فمستفاد من دخول حرف الباء على الخبر.
ويعتبر هذا هو سبب الإعجاز البياني في لفظة هذه (الباء)، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا على انها زيادة والله العالم.

[1]- سورة القيامة الاية 1 و 2.
[2]- تفسير الأمثل ج19 ص207.
[3]- سورة الزمر الاية 46.
[4]- سورة البقرة الاية 48.
[5]- سورة الرعد الاية 41.
[6]- سورة الهُمزة الاية 6 ـ 7.
[7]- سورة فصلت الاية 20.
[8]- سورة القيامة الاية 5 و 6.
[9]- سورة القيامة الاية 15 – 7.
[10]- سورة القيامة الاية 9 – 8.
[11]- منذ سنة 1695 لاحظ العالم (هالي) أن دوران الأرض يتباطأ مع الزمن، وبعد ذلك عندما تطورت القياسات الفلكية تمكن العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجياً وبمعدل 4 سم كل عام. وقد ذكر عبد الدايم كحيل في (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) علماء الفلك يخبرون أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام، وفي تلك اللحظة سيكبر حجم الشمس، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر، وسيتم اجتماع الشمس والقمر.
[12]- سورة القيامة الاية 34 – 35.
[13]- سورة القيامة الاية  31 – 33.
[14]- هو الكرماني في ( أسرار التكرار ).
[15]- سورة محمد الاية 20.
[16]- المستدرك على الصحيحين.
[17]- روي في لباب النقول في أسباب النزول لجلال الدين السيوطي.
[18]- سورة الدخان الاية 49.
[19]- سورة القيامة الاية 12.
[20]- سورة القيامة الاية 30.
[21]- سورة القيامة الاية 17.
[22]- سورة القيامة الاية 19.
[23]- سورة غافرالاية 16.
[24]- سورة القيامة الاية 17 – 19.
[25]- سورة القيامة الاية 12.
[26]- سورة القيامة الاية 14.
[27]- سورة القيامة الاية 22.
[28]- سورة القيامة الاية 23.
[29]- سورة القيامة الاية 24.
[30]- سورة القيامة الاية 30.
[31]- سورة القيامة الاية 23.
[32]- هو الزمخشري.
[33]- سورة القيامة الاية 12.
[34]- سورة القيامة الاية 30.
[35]- سورة الشورى الاية 53.
[36]- سورة ال عمران الاية 28.
[37]- سورة البقرة الاية 28.
[38]- سورة هود الاية 88.
[39]- هو الهاشمي في جواهر البلاغة.
[40]- سورة القيامة الاية 22 – 23.
[41]- سورة القيامة الاية  14 – 15.
[42]- سورة القيامة الاية 13.
[43]- سورة النور الاية 24.
[44]- سورة الحاقة الاية 25.
[45]- سورة الاسراء الاية 14.
[46]- سورة يوسف الاية 108.
[47]- سورة الانعام الاية 104 .
[48]- سورة البقرة 221
[49]- سورة يوسف 17
[50]- سورة القيامة الاية 40.
[51]- سورة القيامة الاية 40.
[52]- هو سيد قطب .
[53]- سورة القيامة الاية 3.
[54]- سورة القيامة الاية 40 – 36.
[55]- سورة القيامة الاية 36 – 39.
[56]- سورة الانعام الاية 53.
[57]- سورة الزمر الاية 36.
[58]- سورة الزمر الاية 37.
[59]- سورة التين الاية 8.