الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق1 إعجاز البيان في سورة المدثِّر


ق1 إعجاز البيان في سورة المدثِّر
جاء انه ذكر في كتابه العزيز سورة لكلام الله تعالى الذي يتعبد به النبيo ومن امن معهُ فمنهم الامام علي A وأم المؤمنين السيدة خديجةB قبل البعثة نعطر افواهنا بذكرها في قوله تعالى:-
( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ* عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)[1].
لقد ذكر الشيخ الطوسي u في تفسير التبيان قال : قرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم (إذ أدبر) باسكان الذال وقطع الهمزة من (أدبر) الباقون بفتح الذال والالف معها (دبر) بغير الف.
وقد قرأ ابن مسعود بزيادة الف، ومن قال (دبر، وأدبر) فهما لغتان.
ولكن قيل[2]: هو مثل كلمة (قبل واقبل) والاختيار عندهم لفظة كلمة (أدبر) في عبارة قوله: (إذا أسفر) ولم يقل عبارة (إذا سفر)، لان ابن عباس، قال لعكرمة: حين دبر الليل، لان العرب تقول: دبر فهو دابر.
واما حجة نافع وحمزة هي قول رسول اللهo (إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصيام) ثم بعدها قال ابوعبيدة: أدبر ولى، ودبرني أي بمعنى جاء خلفي.
فهذه الآيات الكريمة المباركة من سورة المدثِّر، وكما تعرف انها مكية بالإجماع، ولكن قد اختلفت الروايات في ماهية سبب ومناسبة نزولها.
فهناك روايات قالت: إنها أول ما نزل من الرسالة بعد سورة العلق.
وروايات أخرى تقول : من إنها نزلت بعد الجهر بالدعوة، وإيذاء المشركين لرسول اللهo. كما عن الزهري قال: أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى قوله تعالى: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[3].
فحزن رسول الله o وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريلA فقال: إنك نبي الله، فرجع إلى السيدة خديجةB، وقال: دثِّروني، وصبُّوا عليَّ ماء باردًا، فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)[4].
فتلاحظ في هذا الحديث أتهم رسول اللهo بالانتحار كما جاء ذكره في الصحيح من السيرة الجزء الثاني قال:
تناقض الروايات الظاهر لدى كل أحد ، ويظهر ذلك بالملاحظة والمقارنة وإننا في مجال بيان ما في تلك الروايات من خلل وخطل، لا نستطيع أن نستوعب كل ما فيها من نقاط ضعف، لان استيعاب ذلك – كما يبدو - يحتاج إلى وقت طويل ، بل إلى مؤلف مستقل.
ولكن تلاحظ انه ما لا يدرك كله فهو لا يترك كله، لاننا نريد أن نسهم بدورنا في الذب عن مقام النبوة الاقدس، ولو بشكل محدود ومقتضب، وما نريد أن نشير إليه هنا هو :
من حيث السند وهو العمدة في ذلك ما ورد في الصحيحين وغيرهما عن الزهري[5] وعن عروة بن الزبير[6] وعن السيدة عائشة فنحن نكتفي بالاشارة الاجمالة لهم.
كما ذكر امين الاسلام الشيخ الطبرسيu في مجمع البيان قال: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فقال لهم الوليد إنكم ذوو أحساب وذوو أحلام وإن العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل.
قالوا نقول إنه شاعر فعبس عندها وقال قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر فقالوا نقول إنه كاهن قال إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة قالوا نقول إنه لمجنون فقال إذا تأتونه فلا تجدونه مجنونا قالوا نقول إنه ساحر قال وما الساحر فقالوا بشر يحببون بين المتباغضين.
ويبغضون بين المتحابين قال فهو ساحر فخرجوا فكان لا يلقى أحد منهم النبي o إلا قال يا ساحر يا ساحر واشتد عليه ذلك فأنزل الله تعالى أيها المدثر إلى قوله «إلا قول البشر».
وتلاحظ أيًا ما كانت الاسباب والمناسبات، فقد تضمنت السورة الكريمة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب  رسول اللهo لهذا الأمر الجلَل، أمر الدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيل الله.
ومسؤولية إنذار البشر من عذابه وعقابه، وتوجيهه إلى سلوك طريق الخلاص قبل فوات الأوان مع توجيههJ إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم، والاستعانة عليه من خلال هذا الذي وجهه الله تعالى إليه.
كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[7].
وعبارة قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قيل[8] هي خطاب خاص بالنبيo , وقال الشيخ الطوسيu في التبيان هي مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية وهي خمسون وست آيات في الكوفي والبصري والمدني الاول، وخمس في المدني الاخير.
وروي عن علي A أنه قال: يا: نداء النفس. وأيُّ: نداء القلب. وها: نداء الروح. وعلماء النحو يقولون: يا: نداءُ الغائب البعيد. وأيُّ: نداءُ الحاضر القريب. وها: للتنبيه. وشتَّان ما بين القولين.
واما لفظة كلمة ( الْمُدَّثِّرُ ) : هي المتدرِّع دِثاره. وأصله: المتدثر فأدغم. كما يقال لفظة: دثرته، فتدثر. ولفظة كلمة الدِّثار: هو ما يتدثر به من ثوب وغيره.
وقد ذكر في تفسير التبيان ان هذا خطاب من الله تعالى لنبيه o في عبارة قال له (يا أيها المدثر) واصله المتدثر بثيابه، فادغمت التاء في الدال، لانها من مخرجها مع أن الدال اقوى بالجهر فيها.
كما يقال لفظة: تدثر تدثرا ودثره تدثيرا، ودثر الرسم يدثر دثورا إذا محي أثره، فكأنه قال عبارة: يا ايها الطالب صرف الاذى بالدثار اطلبه بالانذار.
وفي عبارة قوله: (قم فانذر) هو أمر من الله تعالى له من أن يقوم وينذر قومه، والانذار هو الاعلام بموضع لمخافة ما لكي يتقى، فلما كان لا مخافة أشد من الخوف من عقاب الله كان الانذار منه اجل الانذار، وتقديره في عبارة: قم إلى الكفار فانذر من النار.
وعبارة قوله تعالى: (قُمْ فَأَنْذِرْ). أي بمعنى: قم نذيرًا للبشر. وبمعنى اخر في عبارة: تهيَّأ لذلك. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب، الذي يترصد الغافلين السادرين في الضلال، وهم لا يشعرون الى تاتيهم بغتةً.
وتلحظ انه واضح من ذلك أن المراد بهذا الإنذار هو العموم، من دون تقييده بمفعول محدد، ويدل عليه عبارة قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[9].
ولفظة (الفاء) في عبارة قوله تعالى: (فَأَنْذِرْ) مع كونها عاطفة للترتيب، ولكنها تدل على وجوب إيقاع الإنذار من خلال تبليغ الرسالة، بعد التهيؤ له مباشرة، من دون مهلة.
وتجد في ذلك دليل على أن الإنذار فرض واجب على رسول اللهo لا بدَّ منه، ويعتبر فرض كفاية، وواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل على النبيo، وأن ينذروا كما أنذر كما في قوله تعالى:
( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[10].
ثم تلاحظ إن في عبارة قوله تعالى: (فَأَنْذِرْ) هي إشارة إلى عبارة قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[11].
ومن ثم التهيؤ للإنذار المعبَّر عنه بصيغة الأمر في لفظة (قُمْ) لا يكون إلا من خلال فعل ما تلا هذه الآية من توجيهات للرسول o فبعد أن كلفه الله تعالى بإنذار الغير، شرع بتوجيهه في خاصَّة نفسه.
وتلاحظ مع ان النبيo موحد ولكن وجهه في البداية إلى توحيد ربه، وتنزيهه عمَّا لا يليق بجلال وكمال الله. وبعد ذلك مع ان رسولهo طاهراً لكن وجهه ثانيًا إلى تطهير قلبه ونفسه وخلقه وعمله.
ومع ان النبي o لم يسجد لغير الله وحده ولكن وجهه مرةً ثالثة إلى هجران جميع انواع الشرك وموجبات العذاب.
ومع ان النبي o لا يمن على أي احد ولكن وجهه مرةً رابعة إلى إنكار ذاته وهي عدم المَنِّ بما يقدمه من الجهد في سبيل دعوته.
ومع ان النبي o كان صابر ومحتسب امره الى الله تعالى ولكن وجهه مرةً خامسة إلى الصبر لربه وكل ما سبق هو لكي يعلمنا نحن فالقران كما قولهم (اياك اعني واسمعي يا جاره).
( 1 ) : - قوله تعالى : ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ )تلاحظ في هذه الاية الكريمة توجيه الامة الى التوحيد والتنزيه عما لا يليق بجلال الله تعالى وكماله فهو المراد من عبارة قوله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)[12].
وذلك لأن الله هو وحده المستحق للتكبير؛ ولأنه الأكبر من كل كبير. وهو توجيه هذا يقرِّر الله جل وعلا لنا فيه معنى الربوبية والألوهية، ومعنى التوحيد، والتنزيه من انواع الشريك.
ونظرة البيان فيه أن تكبير الرب جل وعلا يكون كما في عبارة قولنا: الله أكبر. فقولنا: لفظ الجلالة (الله) يعتبر هو إثبات لوجوده عز وجل.
وقولنا لفظة اسم: (أكبر) هي لغرض نفيٌ من أن يكون له شريك؛ وذلك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر، فيما يكون فيه الاشتراك.
ومن هذا يظهر لنا أهميَّة هذا التوجيه الإلهي لرسوله الكريمJ، الذي انتدبه ربه من أن يكون نذيرًا للبشر؛ فإن أول ما يجب على الانسان معرفته هو معرفة الله تعالى، ثم بعدها تنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله، وإثبات ما يليق به تعالى.
كما روي أنه لما نزلت هذه الآية، قال النبيo: (الله أكبر) فكبرت معه السيدة خديجةB، وفرحت وكبر معه الامام عليA، وأيقنا معًا أنه الوحي من الله تعالى، لا غيره. وهو التعبير عن لفظ الجلالة بعنوان الربوبية، وإضافته إلى ضميرهJ من اللطف ما لا يخفى.
وجاء انه ذكر الفيض الكاشاني[13]u في التفسير الاصفى قال: صفه بالكبرياء عقدا وقولا. روي: (إنه لما نزلت، كبر وأيقن أنه الوحي، وذلك أن الشيطان لا يأمر بذلك). وروي: (إنه كان ذلك في أوائل بعثته)[14].
ويعطي[15] للنّبيo خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر منهاجاً يحتذى به الآخرون، والأمر الأوّل هو في التوحيد، فيقول: (وربّك فكبر)[16].
فذلك هو الربّ الذي هو مالكك ومربيك، وجميع ما عندك فمنه تعالى، فعليك أن تضع أي شخص غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة في ذهنك، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.
فقد ذكروا لفظة كلمة (ربّ) وتقديمها على لفظو كلمة (كبّر) الذي هو يدل على الحصر، فليس المراد من جملة لفظة «فكبر» هو عبارة (اللّه أكبر) فقط، مع أنّه يعتبر هذا القول هو من مصاديق التكبير.
كما جاء من الرّوايات، بل المقصود منهُ أنسب لربّك الكبرياء والعظمة في الاعتقاد والعمل، من القول والفعل وهو تنزيهه تعالى عن كلّ نقص وعيب، ووصفه سبحانه وتعالى عما يصفون.
ولكن قيل: الفاء في لفظة قوله تعالى: (فكبِّر) وفيما بعده، هي لإفادة معنى الشرط؛ وكأنه قال عبارة: (ومهما يكن من أمر، فكبر ربك، وطهِّر ثيابك، واهجر الرجز، واصبر لربك).
فعلى هذا هنا الفاء تعتبر جزائية, ويسميها البعض منهم بلفظة: الفصيحة؛ وذلك لأنها تفصح عن شرط مقدَّر.
ولكن في الحقيقة أن هذا تجنٍّي منهم على لفظة (الفاء)؛ لأن ما نسب إليها من الدلالة على ذلك هو الإفصاح المزعوم؛ إنما هو من فعلهم هم، لا من فعل لفظة هذه (الفاء).
وذلك لأنهم لمَّا رأوها متوسطة فيما بين ما يسمونه عامله، ومعموله المقدم عليه[17] لجئوا في تأويلها إلى هكذا تأويل، وهذا لا يتناسب مع بلاغة القرآن، وأسلوبه المعجز في التعبير. فأين عبارة قول الله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) من قولهم في عبارة تأويله هي: (مهما يكن من شيء، فكبر ربك).
ولهذا قال البعض منهم: إن هذه الفاء دخلت في كلامهم على توهم شرط، فلما لم تكن في جواب شرط محقق، كانت في الحقيقة زائدة، فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك.
وتجد ان كلا القولين موهوم لما فيه من إخلال بنظم الكلام ومعانيه. أما إخلاله بالنظم فظاهر وواضح جداً.
وأما إخلاله بالمعنى فإن الغرض من تقديم عبارة قوله تعالى: (وَرَبَّكَ) هو التخصيص، وربطه بما بعده، وهو عبارة قوله تعالى: (كَبِّرْ).
وذلك من اجعل هذا الأمر واجبَ الحدوث من دون تأخير، جاءوا بلفظة (الفاء) الرابطة، فقال في العبارة قوله تعالى: (وَرَبَّكَ فكَبِّرْ).
ولاحظ ان هذا المعنى لا تجده في عبارة قولهم: مهما يكن من شيء، فكبر ربك؛ وذلك لأن الشرط مَبناه على الإبهام. والمبهم يحتمل الحدوث، وعدم الحدوث.
فإذا قلت في عبارة: (إن جاءك زيد فأعطه درهمًا)، فإن الأمر من إعطاء الدرهم- وإن مستحق بالفاء- فهو مرتبط بمجيء زيد، ومجيء زيد ممكن الحدوث، وغير ممكن.
ولذا حينما أراد الله تعالى أن يجعل الأمر بالتسبيح، والاستغفار الواقعين جواباً للشرط أمر واجب الحدوث، واستعمل من أدوات الشرط لفظة (إِذَا) التي تدل على أن ما بعدها محقق الحدوث لا محالة.
ثم أدخل بعدها لفظة (الفاء) الرابطة على الجواب؛ كما في عبارة قوله تعالى:
( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[18].
( 2 ) : - قوله تعالى : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ )وهي قذارتهما من أعوان الجهل في التباعد عن ذلك العالم لأن عالم القدس طاهر لا يسكن فيه إلا الطاهرون، وينبغي (أن يعلم) أن طهارة الباطن يستلزم طهارة الظاهر.
وكذا نجاسة الباطن يستلزم نجاسة الظاهر لأن ما في الباطن يترشح إلى الظاهر فلا جرم الحالة الباطنة مبدء للحالة الظاهرة ومن ثم يستدلون بالظواهر على البواطن[19] كما في عبارة قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[20].
وتلاحظ طهارة الثياب في الاستعمال العربي هي كناية عن طهارة القلب والنفس والخلق والعمل. بل هي طهارة الذات، التي تحتويها الثياب، وكل ما يلمُّ بها، أو يمسُّها.
حينها يقال كما في عبارة: (فلان طاهر الذيل والأردان)، إذا كان موصوفًا بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. وكذلك يقال في عبارة: (فلان دنس الثياب للغادر، ولمن قبح فعله).
أي بمعنى وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة ولكن قيل معناه كما في عبارة ونفسك فطهر من الذنوب والثياب عبارة عن النفس كما عن قتادة ومجاهد.
وتحصل على هذا ليكون التقدير في العبارة التالية: (وذا ثيابك فطهر) فحذف المضاف ومما يؤيد هذا الكلام قول عنترة حينما أنشد قال:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم
 وجاء انه قيل معناه طهر ثيابك من لبسها على المعصية أو غدرة كما هو قول سلامة بن غيلان الثقفي أنشده ابن عباس قال:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع
وذكر الزجاج انه قال : معناه و يقال للغادر دنس الثياب وفي معناه قول من قال وعملك فأصلح[21].
وكان إذا نكث الرجل ولم يفي بعهدهِ، قالوا: إن فلانًا لدنس الثياب. وإذا وفى بعهدهِ وأصلح، قالوا: إن فلانًا لطاهر الثياب.
وطهارة ذلك كله يستلزم طهارة البدن والثياب؛ لأنه حينما يكون الانسان طاهر القلب والنفس والعمل، فمن الأولى يكون طاهر الجسم والثياب.
فكلمة الطهارة بمفهومها العام تعتبر هي الحالة المناسبة لتلقي الوحي من الملأ الأعلى؛ كما أنها ألصق شيء من خلال طبيعة هذه الرسالة.
وقد ذكر في تفسير غريب القرآن ان فيه خمس أقاويل كما قال الفراء: معناه وعملك فأصلح وقال غيره: وقلبك فطهر فكنى بالثياب عن القلب، وقال ابن عباس : لا تكن غادرا فان الغادر دنس الثياب، وعن ابن سيرين[22] إغسل ثيابك بالماء.
وقد قيل[23] : معناه من النجاسة لأن هذا حقيقة وإذا حمل على غيره كان مجازا ويحتاج إلى دليل.
وولكن قيل[24] : وثيابك فطهر من النجاسات فإن التطهير واجب في الصلاة، محبوب في غيرها، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة كتقصيرها مخافة جر الذيول فيها.
وهو أول ما امر به من رفض العادات المذمومة، أو طهر نفسك من الاخلاق والافعال الذميمة[25] أو فطهر دثار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر.
( 3 ) : - قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ): فلو قيل لك كيف يخاطب القران الكريم النبي محمدJ بترك الرجز والمنّة مع أنه تارك لهما بالفعل.
مثل هذه الخطابات يراد منها بيان شروط وتعاليم الإسلام، ولا تعني نهي النبيJ عن فعل أو توجيه أمر له بالخصوص عما لم يكن يفعله، فانّ النبيJ عُرف تاريخياً بنبذه للأصنام ومكارم الأخلاق قبل نبوّته[26]. وهجران الشرك وموجبات العذاب فهو المراد بقوله تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)[27].
أي بمعنى : فاهجر العذاب من خلال الثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك، وغيره من القبائح. واما الرُّجزُ- في الأصل- هو العذاب، ثم بعدها يطلق على موجبات العذاب.
وأصله الاضطراب، وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم والقبائح؛ فكأنه قيلفي عبارة : اهجر المآثم والمعاصي وكل ما يؤدي إلى العذاب.
وقد قرأ الكثيرين لفظة : الرِّجز، بكسر الراء، وهي لغة قريش. ومعنى المكسور والمضموم هو واحد.
كما عن مجاهد قال: أن المضموم بمعنى: الصَّنم، والمكسور بمعنى: العذاب. وفي معجم العين للخليل: الرُجْزُ، بضم الراء: عبادة الأوثان، وبكسرها: العذاب.
واما البيان فيه فقد تضمنت السورة أمر النبي o بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم بعدها الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم وجلالة قدره، والوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار والرمي بالسحر، وذم المعرضين عن دعوته.
وكما تعلم ان السورة مكية فهي من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة حتى قالوا: إنها أول سورة نزلت من القرآن وإن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءتهo الكتاب على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنهم ورميهم له من أنه سحر يؤثر.
ولهذا ايد بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة ولازم القول كون السورة غير نازلة دفعة هذا وإن كان غير بعيد من خلال النظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن.
ولكن احتمل بعضهم من أن تكون السورة أول ما نزل على النبي o عند الأمر من إعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى عبارة قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين)[28].
وبذلك جمعوا بين ما جاء من أنها أول ما نزل، وما جاء منأنها نزلت بعد سورة العلق، وما جاء من قول أن سورتي المزمل والمدثر نزلتا معا، وهذا القول لا يتعدى طور الاحتمال.
ولكن المتيقن من أن السورة هي من أوائل ما نزل على النبي o من السور القرآنية، والآيات السبع التي نقلناها مسبقاً تتضمن الأمر بالإنذار وسائر الخصال التي تلزمه مما وصاهُ به الله تعالى.
وعبارة قوله تعالى: (يا أيها المدثر) فلفظة (المدثر) بتشديد الدال والثاء أصله كلمة (المتدثر) وهي اسم فاعل من التدثر أي بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.
والمعنى في عبارة : يا أيها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي o وقد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من الحاله من باب التأنيس والملاطفة نظير عبارة قوله:  (يا أيها المزمل).
ولكن قيل : ان المراد هنا بالتدثر هي تلبس الرسولo بالنبوة من خلال تشبيهها بلباس يتحلى به ويتزين.
وكذلك قيل : ان المراد به هنا هو اعتزال رسول اللهo وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء.
وقد قيل : ان المراد به الاستراحة والفراغ فكأنه قيل له o: يا أيها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة وأقبل زمن متاعب التكاليف وهداية الناس.
ومما سبق هذه الاحتمالات وإن كانت في حد ذاتها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأول[29].
وانت تعلم ان رسول اللهo كان هاجرًا للشرك ولموجبات العذاب قبل النبوة. فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات السابقة السخيفة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات البغيضة.
فلم يعرف عنه ابداً من أنه شارك في شيء من خَوْض الجاهلية. ولكن هذا التوجيه معناه المفاصلة وإعلان التميُّز، الذي لا صلح فيه، ولا هوادة؛ فهما طريقان مفترقان لن يلتقيان.
كما يعني ان هذا التوجيه هو التحرُّز من دنس ذلك الرجز. وقيل: الكلام هنا، وفيما قبله هو من باب: إياك أعني، واسمعي يا جارة..

[1]- سورة المدثر الاية 26 – 31.
[2]- زيتوني : رفاه محمد علي / من الاعجاز اللغوي والبياني في سورة المدثر.
[3]- سورة العلق الاية 5.
[4]- سورة المدثر الاية 1.
[5]- هو العالم المحدث الزهري : كان من أعوان الظالمين، ومن الذين يركنون لهم (البداية والنهاية ج3 ص13) وكان عاملاً لبني أمية. (سفينة البحار ج1 ص572 و573 ومعجم رجال الحديث ج16 ص182 عن ابن شهر اشوب )
ويقول المحقق التستري : إنه كان كاتبا لهشام بن عبد الملك، ومعلما لاولاده (ترجمة الزهري في قاموس الرجال ج6) وعده الثقفي من فقهاء الكوفة. وهو من الذين خرجوا عن طاعة علي A وكانوا أهل عداوة له وبغض، وخذلوا عنه (الغارات للثقفي ح2 ص558الى560).
وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من على A فبلغ ذلك السجاد A فجاء حتى وقف عليهما، فقالA: أما أنت يا عروة، فإن أبي حاكم أباك، فحكم لابي على أبيك وأما أنت يا زهري، فلو كنت أنا وأنت بمكة لاريتك ركن (البيت) أبيك (شرح النهج للمعتزلي ج4 ص102، والغارات للثقفي ج2 ص578).
وقال صاحب كتاب الصحيح من السيرة: نحن لا نستطيع أن نثق بأعوان الظلمة، وبمبغضي علي A كيف وقد قال o: ( من سب عليا A فقد سبني / مستدرك الحاكم ج3 ص121 وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك هامش نفس الصفحة).
[6]- عروة بن الزبير. عن عروة قال: أتيت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقلت له: يا أبا عبد الرحمان، إنا نجلس إلى ائمتنا هؤلاء، فيتكلمون بالكلام، نعلم أن الحق غيره، فنصدقهم، ويقضون بالجور، فنقويهم، ونحسنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟ فقال:
يا ابن أخي، كنا مع رسول الله o نعد هذا النفاق، فلا أدري كيف هو عندكم./ سنن البيهقي ج8 ص165، وقريب منه ما في ص164من دون ذكر اسم (عروة) ومثله الترغيب والترهيب ج4 ص382 عن البخاري وإحياء علوم الدين ج3 ص159.
فعروة يعتبر أئمة الجور أئمته، وإبن عمر يحكم عليه بالنفاق وعده الاسكافي من التابعين، الذين كانوا يضعون أخبارا قبيحة في علي A (شرح النهج للمعتزلي ج4 ص63). وكان يتألف الناس على روايته (صفة الصفوة ج2 ص85 وتهذيب التهذيب ج7 ص182).
[7]- سورة المدثر الاية 1 – 7.
[8]- قالوا : لا يعم الأمة عند الجمهور ، خلافًا لأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما في قولهم: إنه يكون خطابًا للأمة، إلا ما دل الدليل فيه على الفرق.
[9]- سورة سبأ الاية 28.
[10]- سورة التوبة الاية 122.
[11]- سورة الاسراء الاية 15.
[12]- سورة المدثر الاية 3.
[13]- التفسير الاصفى الفيض الكاشاني ج2 ص370.
[14]- القمي 2 / 393.
[15]- تفسير الامثل الشيخ مكارم الشيرازيK ج19 ص157.
[16]- ان الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض، وقيل لمعنى الشرط، والمعنى هو: لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع، (يتعلق هذا القول بالآيات الاُخرى الآتية أيضاً).
[17]- وكان جمهورهم قد أجمع على أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.
[18]- سورة النصر الاية 1 – 3.
[19]- شرح أصول الكافي  تاليف : مولي محمد صالح المازندراني ج2 ص35.
[20]- سورة المدثر الاية 4.
[21]- تفسير مجمع البيان للطبرسيu ج10 ص155.
[22]- هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري توفي سنة 110 للهجرة.
[23]- كتاب : متشابه القرآن المؤلف: ابن شهرآشوب مازندرانيu الناشر: انتشارات بيدار الطبعة : 1328 هجرى شمسي.
[24]- الشيخ المجلسيu بحار الأنوار جزء 16  صفحة 213 .
[25]- يسيل ويرشش.
[26]- كتاب مراجعات قرآنية تأليف السيد رياض الحكيم دام عزه ص274.
[27]- سورة المدثر الاية 5.
[28]- سورة الحجر الاية 94.
[29]- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائيu ج20 ص44.