إعجاز علم البيان في اللغة
كما تعلم ان المتعارف من تعريف علم
البيان[1] في
اللغة هو الظهور والوضوح.
واما تعريفه اصطلاحاً فهو العلم الذي
يعبر به عن المعنى الواحد بعدة طرق مختلفة مع مراعاة مقتضى الحال في وضوح دلاله
المطابقة ودلالة التضمين ودلالة الالتزام.
فتلاحظ ترتيب حروف ايات القرآن وتناسق
كلماته هي من أسرار إعجازه البياني وكذلك الوحي إلى النبيين بطريقة خفية فلا يشعر
بهم من حولهم بما أوحي إليهم لعلك إذا قلبت النظر فيما بين ألفاظ الكتاب ومعانيه
تجد إعجازه يشع عليك منهما معا.
فتجد ترتب حروفه لما لها من صفات
وإيحاءات مع تناسق كلماته بما لها من شعاع يتألق من رصفها وترتيبها مع تساوق
المعاني التي تسابق إلى النفس وقع ألفاظها في السمع كل هذا من أسرار الإعجاز
البياني في القرآن الكريم.
فقد قدر الله في ترتيب حروفه مخارجها
ونبراتها وصفاتها وما يوحي به كل حرف لما له من الأثر في النفس كما قدر في ترتيب
الكلمات ذلك التناسق العجيب من حيث تكون كل كلمة منها لتقف أختها فلا تجد ما بينها
ما ينبو عنه السمع أو تنفر منه الطباع.
ومن أجمل ما وصفوا لحروف القرآن فقد
وصفوا كل حرف منها من أنه يمسك الكلمة لكي يمسك بها الجملة بأكملها، وما أروع
الامثلة التي ضربت في القرآن من حيث جعل مثله مثل نظام الكون بالسماء في ترتيبه
الدقيق وتناسقه العجيب في كل ما فيه من الذرة إلى المجرة.
وكما جاء في مباحث الاُصول ظواهر
القرآن لاية الله العظمى السيد كاظم الحائريK حول إسقاط ظواهر القرآن بالسنّة فقال:
وأمّا الوجه الثاني : فهو الأخبار
المتوهّم دلالتها على النهي عن اتّباع ظواهر القرآن الكريم. وتمام الروايات التي
رأيناها في المقام ترجع إلى طوائف ثلاث:
1 ـ ما تصدّى لبيان أنّ المراد من
القرآن لا يفهمه إلاّ الأئمّةD، وغيرهم يجب أن يأخذوا تفسير القرآن منهمD.
2 ـ ما تصدّى لبيان عدم جواز
الاستقلال عن المعصومينD في فهم القرآن، فهو وحده ليس حجّة وإنّما هو
أحد الثقلين.
3 ـ ما تصدّى للنهي عن تفسير القرآن
بالرأي.
أمّا الطائفة الاُولى : فقد وردت
بمضمونها عدّة روايات[2] مع اختلاف في أساليب التعبير. وهي
تامّة من حيث الدلالة، فإنّ حصر الفهم بالأئمّة المعصومينD يعني إلغاء الحجّيّة، وسدّ باب الاستنباط
العرفيّ وإعمال القواعد العرفيّة لاستخراج المعاني من القرآن من قِبَل غيرهمD، إلاّ أنّ هذه الأخبار غير تامّة من حيث
السند[3].
أضف إلى ذلك نكتتين قد يحصل بإضافتهما
الاطمئنان بمجعوليّة هذه الروايات، أو كون المقصود غير ما يظهر منها:
الاُولى : إنّه توجد في رواة هذه
الروايات ظاهرة مشتركة تناسب لسان هذه الروايات الصادرة منهم، وتلك الظاهرة هي
ظاهرة تبعيد الناس عن ظاهر الشرع، وادّعاء اُمور باطنيّة وبعيدة عن ظواهر الشرع.
فهذا سعد بن طريف أحد هؤلاء الرواة
يروي أنّ الفحشاء رجل، والمنكر رجل، وأنّ الصلاة تتكلّم[4]، ويقول عنه النجاشي: «حديثه يعرف
وينكر»، ويضعّف من قِبَل أشخاص آخرين.
وجابر بن يزيد أحد هؤلاء الرواة يقول:
(دخلت على الإمام الباقرA وأنا شاب، فأعطاني كتاباً للحفظ عندي،
وكتاباً آخر لحديث الناس به).
ويقول أيضاً: (إنّ الإمام حدّثني
بسبعين ألف حديث ولم يأذن لي بأن اُحدّث به، فأذهب إلى حفيرة واُحدّثها به)[5].
ونحو ذلك من الاُمور التي لو ضممناها
إلى شهادة الأكابر من سلفنا الصالح يحصل لنا الظنّ القويّ بأنّ مثل مذاق هذا الشخص
يريد غلق أبواب المعرفة وحكرها لنفسه، وجعل الإسلام أمراً عجيباً لا يصل إليه إلاّ
مَن كان مثله من الناس، فبحساب الاحتمالات يحصل الظنّ القويّ بكذب هذه الروايات.
وكونها من إيحاءات هذا الذوق الذي كان
اتّجاهاً عامّاً في جماعة من غير سلفنا الصالح من أمثال زرارة، ومحمّد بن مسلم من
فقهاء ظاهر الشريعة الذين أخذنا عنهم أحكامنا، وذاك الاتّجاه هو مسلك تعقيد
المطالب، وتأويل القضايا الدينيّة بما لا يناسب ذوق اُولئك السلف الصالح.
ومن هنا نحن ننبّه على مطلب عامّ،
وهو: أنّه في جملة من الموارد تنفعنا في مقام تقدير رواية الراوي وتقييمها مراجعة
حال الراوي، وتأريخه، ومجموع ما نقله من الروايات، فقد ترى ـ مثلاً ـ عدداً كبيراً
من أحاديث متّفقة على مضمون مّا بحيث كان المفروض حصول العلم به بعنوان التواتر.
لكن تكشف بالفحص ظاهرة مشتركة عن حال
رواتها تناسب الإيحاء المشترك بمضمون تلك الأحاديث ممّا يسقطها عن درجة التواتر
المفيد للعلم، فالاطّلاع على خصوصيّات الراوي وحاله ومزاجه، وما ينقل من سائر
الروايات قد يدخل في عمليّة الاستنباط كعنصر من عناصر تقييم الرواية.
الثانية : إنّ جواز العمل بظواهر
القرآن وعدمه من أهمّ المسائل، ومن المسائل الرئيسيّة بالنسبة للفقه ومعرفة
الأحكام، ولا يوجد هناك موضوع دار حوله النزاع والبحث والجدل بين علماء الباطل من
غير الشيعة أكثر من هذا البحث، فجميع الدواعي التأريخيّة والشرعيّة والواقعيّة
كانت تقتضي أن تكون هذه المسألة أهمّ مسألة في مقام السؤال والجواب، وفي مقام
الاستفادة والتحقيق.
أضف إلى ذلك أنّ العمل بظواهر القرآن
يوافق مقتضى الطبع العقلائيّ، وإيقاف هذا الطبع بحاجة إلى بيانات كثيرة وإعلامات
متتالية، فلو كان أمر من هذا القبيل لكثر نقله وشاع وذاع، وليس حاله حال وجوب
السورة ـ مثلاً ـ الذي لو لم يصل إلينا إلاّ ضمن ثلاث روايات أو أربع لم يكن
غريباً.
أفهل نفترض ـ مثلاً ـ أنّ هذا الأمر
المهمّ والذي هو على خلاف الطبع لم يبيّن إلاّ مرّات عديدة، وصدفة لم يكن يوجد شخص
عند الإمامA في تمام تلك المرّات يسمع الحديث إلاّ شخص
ضعيف، أو ذو اتّجاه معيّن، ومن غير أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم، أو كان هناك
سامعون من أمثالهم ولكنّهم صدفة لم ينقلوا الرواية، أو نقلوها وصدفة لم تصلنا من
أمثالهم؟.
فمجموعة هذه الاُمور لو ضمّ بعضها إلى
بعض حصل بمقتضى حساب الاحتمالات الاطمئنان بأنّ مثل هذه الروايات مجعولة على
الأئمّةD، ولو فرض صدورها عنهم فلابدّ أن يكون لها
محمل آخر غير ما هو الظاهر منها.
وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي الأخبار
الدالّة على عدم الاستغناء في مقام فهم القرآن واستنباط الحلال والحرام من آيات
الأحكام عن الأئمّةD: فهي تامّة سنداً، وقد ورد بعضها بلسان
تأنيب من يدّعي الاستغناء ولو عملاً عن أئمّة أهل البيتD من فقهاء العامّة والمعاصرين لهم، وبعضها
بلسان بيان أنّ حقائق القرآن وتمام معارفه موجودة عند الأئمّةD، وهم المطّلعون على تمام مزايا القرآن
ونكاتها وخصوصيّات التخصيص، والنسخ، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد.
وكلّ هذا صحيح وأجنبيّ عمّا نحن
بصدده، ومرجع اللسانين إلى بيان أنّ الناس لا يستغنون عن الأئمّةD في مقام استنباط الأحكام، وهذا ممّا لا شكّ
فيه، فلا يجوز لأحد الاستغناء عن الثقل الأصغر في مقام استنباط الأحكام، وهذان
الثقلان متقارنان في عمليّة الاستنباط وفهم الشريعة، بمعنى أنّه لابدّ في مقام
الأخذ من أحدهما ملاحظة الآخر أيضاً بحيث يلحظ مجموع الكتاب والسنّة كأنّهما كلام
شخص واحد.
فكما لا يجوز العمل ببعض القرآن بقطع
النظر عن البعض الآخر وبدون التفات إلى مخصّصاته ومقيّداته في البعض الآخر، ولا
يجوز العمل بالسنّة بقطع النظر عن القرآن، كذلك لا يجوز العمل بالقرآن بقطع النظر
عن السنّة.
ومثل هذا لا يدلّ على عدم جواز العمل
بظواهر القرآن الكريم، وإنّما يدلّ على وجوب الفحص قبل العمل بالظاهر، وهذا أمر
مفروغ عنه ومتسالم عليه بين الاُصوليّ والأخباريّ.
وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الأخبار
الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ـ: فقد أجاب عنها علماؤنا الاُصوليّون بما في
الكفاية وغيرها من الكتب المتأخّرة عنها: من أنّ التفسير ـ كما جاء في كتب اللغة ـ
عبارة عن كشف القناع، ولا قناع في باب الظواهر حتّى يكشف، فلا تفسير في المقام.
ولو سلّم أنّه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، بل هو تفسير بالطريقة العرفيّة العامّة
المتّفق عليها.
ولكن الصحيح : أنّ هذا المقدار من
الجواب لا يكفي في المقام، فنحن إن لاحظنا الظهورات التصوّريّة واللغويّة فهي وإن
كان في كثير من الموارد لا يصدق عليها كشف القناع، وذلك فيما لو فرض أنّ الوضع
اللغويّ كان ثابتاً ثبوتاً عرفيّاً عامّاً.
ولكن في بعض الموارد لا يكون الأمر
كذلك، بل يكون الظهور مقنّعاً يقع البحث والخلاف في المعنى الموضوع له، ويكون
المعنى مقنّعاً بمقنّعيّة نفس الظهور والوضع، ويكشف القناع بإعمال الصناعة لإثبات
أنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الفلانيّ.
وسوف يأتي في بحث صغرى حجّيّة الظهور
ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنّه كيف نثبت في بعض الأحيان أصل الوضع بالصناعة في
مورد الشكّ.
وإن لاحظنا الظهورات السياقيّة
التصديقيّة فالأمر فيها أوضح بكثير، فبعض الظهورات السياقيّة ليس عليها قناع،
وبعضها الآخر عليها قناع وبحاجة إلى كشف القناع بالبحث والفحص والاستنباط وإعمال
الصناعة، سنخ ما فعلناه قبل صفحات في تفسير قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، حيث استخرجنا
المراد بضمّ بعض ظواهرها إلى بعض لمعرفة ما يستفاد من المجموع من المعنى المناسب
لتمام ظواهر الآية.
فهذا الجواب بحسب الحقيقة ليس جواباً
فنّيّاً في المقام؛ لأنّه لم يلحظ فيه إلاّ الظواهر التي ليس عليها قناع، ولا
يختلف في فهمها أحد، ولعلّ الأخباريّين أيضاً لا يقولون بعدم جواز العمل بمثل هذه
الظواهر من القرآن.
ونحن نجيب على الاستدلال بروايات
النهي عن التفسير بالرأي بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل : مأخوذ ممّا بيّنّاه في بحث حجّيّة
الدليل العقليّ وعدمها، حيث استدلّ الأخباريّون هناك على عدم الحجّيّة بالروايات
التي تنهى عن العمل بالرأي بقول مطلق في الأحكام الشرعيّة، وهنا استدلّوا على عدم
حجّيّة ظهور القرآن بالروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وقد قلنا هناك:
إنّ كلمة (الرأي) وإن كان معناها
اللغويّ الأصليّ هو النظر مثلاً، أو ما يقرب من ذلك في المعنى، إلاّ أنّ الذي
يطالع مجموع الروايات الواردة في باب الرأي، ويطالع عصر هذه الروايات يعرف أنّ هذه
الروايات كانت ملقاة من قِبَل الأئمّةD على اُناس كانوا يعيشون ويفكّرون في جوٍّ
علميّ خاصّ له مصطلحاته الخاصّة، وتعبيراته الخاصّة، وله مسائله المطروحة للبحث
إثباتاً ونفياً.
ومن أهمّ تلك المسائل التي راج بحثها
وذكرها واختلف الناس بسببها هو مسألة الرأي. ففي عصر الصادقينD وجدت مدرسة علميّة في صفوف علماء السنّة
بعنوان مدرسة الرأي في مقام الاستنباط والتفسير وإخراج الأحكام من النصوص، وكانت
هذه الكلمة مصطلحاً لمذاهب استحدثت وراجت وعمّت وانتشر الحديث عنها وتشعّبت
فروعها.
وأصحاب الأئمّة كانوا يسمعون أبحاث
السنّة وكانوا يعرفون آراءهم، وكان جملة منهم يفتي بآراء السنّة، ولعلّ بعضهم
كانوا أعلم بآراء علماء السنّة منهم، فمحمّد بن مسلم كان يجلس في المسجد وكان يفتي
أهل كلّ مذهب بمذهبهم، ويفتي أهل الحقّ بمذهب جعفر بن محمّدA، فأصحاب الأئمّةD كانوا يعيشون هذا الجوّ وهذه المصطلحات.
فمن يدّعي الاطمئنان بأنّ كلمة
(الرأي) التي تردّد في كلام الأئمّةD الملقاة على مثل هؤلاء الذين يعيشون في مثل
هذا الجوّ لم يكن يفهم منها إلاّ نفس ذلك المصطلح الذي كان عنواناً لاتّجاهات
معيّنة ومشخّصة في الفقه والاستنباط والتفسير، ليس بمجازف.
ولو فرض أنّ شخصاً لم يحصل له
الاطمئنان من ملاحظة مجموع هذه الظروف والملابسات التأريخيّة بأنّ المراد بالرأي
هو المعنى المصطلح، واحتمل أنّ المراد به هو معناه اللغويّ.
فأراد أن يجري أصالة بقاء ظهور اللفظ
على معناه السابق، فسوف يأتي إن شاء الله تعالى في بحث أوجه الوصول إلى صغرى
الظهور: إنّ مثل هذا الأصل في مثل هذا المورد لا يأتي؛ لنكتة عامّة نبيّنها هناك
إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني : مأخوذ من بحثنا في السيرة، وهو :
أنّه لو سلّم شمول إطلاق مثل هذه الروايات لحمل اللفظ على المعنى الظاهر فهذا
الإطلاق لا يصلح للردع عن حجّيّة الظهور، فإنّ إطلاق دليل وإن كان يصلح أن يكون
بياناً لحكم شرعيّ نفياً أو إثباتاً فيما إذا كان ذلك الحكم الشرعيّ تعبّديّاً في
نفسه كوجوب السورة وعدمها، ولكن حجّيّة ظهور القرآن الكريم ليست حكماً شرعيّاً
ابتدائيّاً تعبّديّاً.
وإنّما هي مطلب عقلائيّ على طبق
القريحة العقلائيّة المركوزة المستحكمة في أذهانهم بارتكازهم الجبلّي والمناسبات
التي فطروا عليها في تعايشهم، وقد قلنا في بحث السيرة: إنّ الردع عن السيرة يكون
بملاك التحفّظ على الغرض، فلابدّ أن يكون مناسباً لمقدار استحكامها حتّى يحصل
التحفّظ على الغرض.
ومن هنا أشرنا سابقاً إلى أنّ إطلاق
الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مثلاً، لا يمكن أن يكون رادعاً عن حجّيّة خبر
الواحد بعد فرض أنّها مورد للسيرة العقلائيّة. وعلى هذا فكيف يعقل الاكتفاء في
الردع عن مثل السيرة العقلائيّة في باب حجّيّة الظهور المستحكمة الجذور في أذهانهم
بإطلاق مثل هذه الروايات التي نحتاج إلى البحث في مقام بيان أنّه هل لها إطلاق، أو
لا؟
الوجه الثالث : مأخوذ أيضاً من
القوانين والاُصول التي نقّحناها في بحث السيرة، وهو: أنّنا نستدلّ في المقام
بسيرة المتشرّعة، فسيرة المتشرّعة وأصحاب الأئمّة كانت قائمة على العمل بظهور
القرآن جيلاً بعد جيل، ولو لم يكن هذا من المسلّمات في أيّام الأئمّة بل كان
مشكوكاً لكثر السؤال عنه؛ لأنّها من المسائل ذات الأهمّيّة القصوى.
ولو كثر السؤال كثر الجواب، وهو
الجواب بالنفي بحسب فرض الأخباريّ، ولو كثر الجواب كذلك أصبح بالتالي عدم حجّيّته
من المسلّمات، ولو كان عدم حجّيّته من المسلّمات لنقل من المتقدّمين مع أنّه لم
ينقل من أحد عدم حجّيّة ظواهر القرآن الكريم إلاّ من قبل الأخباريّين في العصور
الأخيرة.
وهذا أحد التطبيقات للقوانين الكلّيّة
التي ذكرناها في بحث السيرة. وبعد ثبوت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بظواهر
القرآن لا تكون الإطلاقات المفروضة في المقام من روايات المنع عن التفسير بالرأي
رادعة عن السيرة، بل السيرة مقيّدة للإطلاق؛ لما ذكرنا في محلّه:
من أنّ الحاجة إلى إحراز عدم الردع
إنّما هي بالنسبة للسيرة العقلائيّة، وأمّا سيرة المتشرّعة فهي حجّة بالذات لا
باعتبار عدم الردع عنها، فلو وجد في قبالها إطلاق أو عموم أو ظهور لكانت نفس
السيرة دليلاً على تقييد ذلك الإطلاق، أو تخصيص ذلك العموم، أو تأويل ذلك الظهور.
وقد ظهر حتّى الآن : أنّه لا يصحّ
الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم.
الأخبار الدالّة على حجّيّة ظواهر
الكتاب: وتوجد هناك روايات اُخرى ـ في قبال ما يستدلّ به الأخباريّ ـ يستدلّ بها
لحجّيّة ظهور الكتاب الكريم. وما استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها من الأخبار على
حجّيّة ظهور الكتاب يمكن تقسيمها إلى أربع طوائف:
الطائفة الاُولى :
الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب الكريم والأخذ به والعمل بموجبه، فإنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ
دلالة قرآنيّة نصّاً أو ظهوراً. وقد ذكرنا هذه الطائفة أيضاً فيما سبق في قبال بعض
التفصيلات الاُخرى في حجّيّة الظهور كدليل على إبطال التفصيل.
ثُمّ لو لوحظت النسبة بين هذه الطائفة
وروايات المنع عن تفسير القرآن بالرأي بعد تسليم دلالتها على نفي حجّيّة ظهور
الكتاب وصلاحيّتها للردع عن ذلك، فالنسبة بينهما عموم من وجه.
فمادّة الافتراق لتلك الأخبار هي
تفسير المجمل بأحد معنييه، ومادّة الافتراق لهذه الأخبار هي الأخذ بالنصّ، ومادّة
الاجتماع هي حمل الكلام على ظاهره، فتتعارضان في ذلك وتتساقطان، وبعده لا يمكن
الرجوع إلى سيرة العقلاء بحجّة سقوط الرادع؛ لما مضى منّا في بحث السيرة:
من أنّ سيرة العقلاء إنّما تصبح حجّة
بالإمضاء، والإمضاء يستكشف من عدم الردع، فلابدّ من إحراز عدم الردع والجزم به،
ومجرّد احتمال الردع يسقطها عن الحجّيّة؛ لأنّه يعني احتمال عدم الإمضاء، ولذا
قلنا:
( لو جاء دليل غير تام الحجّيّة صالح
ـ على تقدير صدوره من المعصوم ـ للردع فمجرّد احتمال صدوره والردع به يكفي لسقوط
السيرة عن الحجّيّة).
وما نحن فيه كذلك بعد فرض صلاحيّة تلك
الأخبار على تقدير صدورها للردع، وإن كانت هي بالفعل غير حجّة لابتلائها بالمعارض.
أمّا استصحاب عدم الردع الثابت في
أوّل الشريعة فهو عبارة عن استصحاب عدم النسخ، ويتوقّف على قبول استصحاب عدم النسخ
في محلّه.
عدم الردع بالمعنى الملازم للإمضاء يكون
استصحابه من الأصل المثبت، فلابدّ من أن يكون المقصود استصحاب عدم نقض الإمضاء،
وهذا رجوع إلى استصحاب عدم النسخ.
الطائفة الثانية :
الأخبار الآمرة بعرض الشروط على كتاب الله التي تقول بسقوط الشرط المخالف
للكتاب.
وتقريب الاستدلال بها: أنّه لو لم تكن
ظواهر الكتاب حجّة فكيف نستطيع أن نعرف أنّ هذا الشرط موافق للكتاب أو مخالف له؟
ولا يبقى لدينا إلاّ خصوص النصوص، والنصوص القطعيّة قليلة جدّاً.
وتحقيق هذا التقريب ومدى صلاحيّته
للمقابلة مع روايات النهي عن التفسير بالرأي لو تمّت دلالتها على مدّعى الأخباريّ،
هو: أنّ هذه الطائفة الآمرة بعرض الشروط على الكتاب إن اُريد بالكتاب فيها لفظ
الكتاب فهي دالّة عرفاً على أنّ ألفاظ الكتاب لها دلالة، ويجوز فهمها بحيث يجعل
القرآن مقياساً ومعياراً لتمييز الشرط الصحيح عن الفاسد.
أمّا إن اُريد بالكتاب فيها مدلول
الكتاب والمراد منه فهذه الأخبار بنفسها لا تدلّ على كيفيّة تحصيل هذا المدلول،
غاية الأمر لعلّ إن صحّ هذا البيان أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى بأن يقال: إنّ
حملها على نصوص القرآن حمل لها على الفرد النادر.
إذن هي كالصريح في الأمر بالالتزام
بظواهر القرآن، فليست النسبة بينها وبين روايات المنع عن التفسير بالرأي نسبة
العموم من وجه كما مضى، بل هي كالأخصّ مطلقاً، وبها تخصّص روايات المنع عن التفسير
بتفسير المجمل بأحد معانيه أو الظاهر بما هو خلاف ظاهره.
والواقع : أنّ إشكال كون الحمل على
خصوص النصوص حملاً على الفرد النادر غير وارد من أساسه، فإنّ مسألة لزوم الحمل على
الفرد النادر أو تخصيص الأكثر إنّما ترد في العامّ الذي لا تكون نسبته إلى ما خرج
أخفّ من نسبته إلى ما بقي باعتبار كون مفهومه مشكّكاً مثلاً.
أمّا إذا كان كذلك كما لو قال: (أكرم
العلماء) ثُمّ قال: (قصدت بذلك مَن هم وصلوا إلى مستوى الاجتهاد) لم يرد عليه: أنّ
هذا تخصيص بالفرد النادر أو استثناء لأكثر الأفراد.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ
مخالفة النصّ فرد بارز للمخالفة أكثر من مخالفة الظاهر، والأخذ بالنصّ فرد واضح من
الأخذ بالكتاب أكثر من الأخذ بالظاهر.
الإطلاق المقاميّ والسكوت في مقام
البيان ـ مثلاً ـ يدلّ على إمضاء الطريقة العرفيّة المتعارفة لاستكشاف المراد، لكن
نفس الكلام لا يدلّ بظهوره اللفظيّ على أنّ تعيين المدلول والمراد بأيّ شيء يكون؟
وإنّما يدلّ على أنّ الشرط يجب أن لايكون مخالفاً لمدلول الكتاب.
وعليه فتلك الأخبار التي يستدلّ بها
الأخباريّون على أنّ تعيين المراد يكون بلحاظ الروايات لا بإعمال النظر لو تمّت
دلالتها تكون حاكمة على هذه الطائفة، ومنقّحة لموضوعها، ومستوجبة لانحصار طريقة
معرفة مدلول الكتاب بالروايات.
الطائفة الثالثة : هي
الروايات الآمرة بعرض نفس أخبار الأئمّةD على هذا البيان لو تمّ أمكن إسراؤه
إلى الطائفة الاُولى، فيقال: إنّ ما دلّ على الأمر بالأخذ بالكتاب قد يحمل على
معنى الأخذ بما هو مراد من الكتاب.
وروايات النهي عن التفسير بالرأي تنفي
ثبوت كون ما يظهر من الكتاب ما لم نعرفه عن المعصومين مراداً من الكتاب، فتكون
حاكمة على الروايات الدالّة على الأمر بالأخذ بالكتاب.
وهذا لا ينافي العرضيّة المستفادة من
بعض تلك الروايات بين الكتاب والسنّة كحديث الثقلين، فإنّه تكفي لانحفاظ العرضيّة
نصوص الكتاب.
والصحيح : أنّ هذا البيان بحدّ ذاته
غير تامّ بناءً على قبول دلالة الإطلاق المقاميّ على حجّيّة ظهور الكلام، فإنّ
الذي يعارض روايات المنع عن التفسير بالرأي.
إنّما هو هذا الإطلاق المقاميّ، وهذا
الإطلاق المقاميّ موضوعه هو ظهور الكتاب، وليس موضوعه هو المراد من الكتاب حتّى
يكون ما ينفي ثبوت مراديّة الظهور حاكماً عليه بنفي موضوعه.
فلا يقاس هذا الإطلاق ـ مثلاً ـ
بإطلاق (أكرم العالم) الشامل لزيد العالم المحكوم لدليل ينفي تعبّداً عالميّة زيد،
فإنّ هذا الإطلاق موضوعه العالم، والدليل الحاكم ينفي هذا الموضوع، بينما الأمر
فيما نحن فيه ليس كذلك، ولعلّه لهذا لم يتعرّض الشهيد (الصدر الاولH) في دورته الأخيرة لفكرة الحكومة في المقام
بحسب ما يبدو من تقرير بحثه الذي ليس فيه تعرّض هنا للحكومة[6].
[1]- علم المعانى البيان البديع لعبدالعزيزعتيق- بيروت دار النهضة
العربية.
[2]- الوسائل، ج 18، ب 13 من أبواب صفات القاضي، ح 25
و38 و41 و64 و69 و73 و74.
[3]- ومعه نشكّك في الردع، ونستصحب عدم الردع الثابت في
أوّل الشريعة كما نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد.(كلام اية الله العظمى
السيد الحائريK).
[4]- اصول الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ح 1، ص 598.
[5]- معجم الرجال للسيّد الخوئيّ، ج 4، ص 21 و22. وجابر
بن يزيد هو راوي الرواية 41 من صفات القاضي من الوسائل. و سعد بن طريف هو راوي
الرواية 64 من ذاك الباب. وأمّا الرواية 38 فراويها معلّى بن خنيس صاحب الرواية
الغريبة بشأن النيروز. وأمّا باقي روايات هذه الطائفة التي فيها ما رواه زرارة،
وفيها ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج فهي من مراسيل العيّاشي ولا قيمة لها. نعم،
رواية زيد الشحّام ـ وهي الرواية 25 من ذاك الباب ـ ليست مرسلة، ولم نعرف من زيد
الشحّام ما يكون من قبيل هذه الغرائب، ولكن من المحتمل كون مقصوده بقوله: «إنّما يعرف
القرآن مَن خوطب به» معرفة تمام القرآن وحكمه ودقائقه، على أنّ سند الحديث ضعيف
بمحمّد بن سنان.
[6]- راجع : مباحث الاُصول ظواهر القرآن لاية الله
العظمى السيد كاظم الحائريK.