الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق2 التفسير الإشاري او الفيضي ومن جميع جوانبه


ق2 التفسير الإشاري او الفيضي ومن جميع جوانبه
( 1 ) - انقسام التفسير عند الصوفية : الاتجاه الأول : التفسير النظري : وهو تفسير مبني على الفلسفة حيث تتوجه الآيات القرانية لديهم على وفق نظرياتهم وتتفق مع تعاليمهم.
وممن سلك هذا الاتجاه في التفسير هم فلاسفة الصوفية ويعتبر ابن العربي شيخ هذه الطريقة كما قال الذهبي : ( يأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده إلى ما يقصد هو ويرمي إليه وغرضه بهذا له أن يروج لتصوفه على حساب القرآن..الخ).
الاتجاه الثاني :  التفسير الإشاري : هو عبارة عن تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ولا يمكن التطبيق فيما بينها وبين الظواهر المرادة.
وأما من جهة الفرق فيما بين التفسير النظري والتفسير الإشاري في أثرهما على تفسير القرآن كما ذكر الشيخ محمد حسين الذهبي وجهين للتفريق بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري وهما:-
الوجه الاول أن التفسير (الصوفي النظري) ينبني على مقدمات علمية تنقدح في ذهن  الصوفي أولا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك.
وأما التفسير (الصوفي الإشاري) فلا يرتكز على مقدمات علمية بل يرتكز على رياضات روحية فيأخذ الصوفي نفسه بها حتى يصل إلى درجة إيمانية تنكشف له فيها من سبل العبارات هذه الإشارات، وتتوالى على قلبه تحليل الآيات من المعاني الربانية.
والوجه الثاني أن التفسير (الصوفي النظري) يرى صاحبه انه كل ما تحتمله الآية من المعاني, وليس وراءه معنى آخر تحمل عليه الآية.
أما التفسير (الصوفي الإشاري) فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها ذلك المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره.
ومن شروط التفسير الإشاري كما ذكروا من أن يكون على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب من حيث يجري على مقاصد العربية.
وأن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً في محل آخر يشهد لصحته من غير اي معارض شرعي أو عقلي. وأن يعترف صاحب الإشارة بالمعنى الظاهر للآية ولا ينكره.
ولكن علَّق التفتازانى على كلام النسفي في كتابه (العقائد) حيث قال: (والنصوص على ظواهرها، فالعدول عنها إلى معان يدَّعيها أهل الباطن إلحاد) فقال:
( وسُمُّوا الباطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي  الشريعة بالكلية... ثم قال: وأما ما يذهب إليه بعض لمحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان).
ومن حجتهم الأمثلة على التفسير كما رواه البخارى عن ابن عباس قال: كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر...الى .. فقال عمر: ما أعلم منها إلا مَا تقول.
فقالوا البعض من الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما ابن عباس وعمر، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر، هو المعنى الباطن الذى تدل عليه السورة بطريق الإشارة.
ومن أهم كتب التفسير الإشاري عندهم تفسير القرآن العظيم لأبي محمد سهل بن عبد الله بن يونس التُسْتَري المولود سنة200هـ وتوفي 283هـ وهو من كبار الصوفية.
وهذا التفسيره مطبوع في مجلد صغير الحجم لم يفسر فيه القرآن آية آية بل تكلم على بعض الآيات المحدودة، قال عنه الدكتور محمد حسين الذهبي:
يظهر لنا أن سهلا لم يؤلف هذا الكتاب، وإنما هي أقول قالها سهل في آيات متفرقة من القرآن ثم جمعها أبو بكر محمد بن أحمد البلدي المذكور في أول الكتاب.
وعندهم تفسير حقائق التفسير (للسلمى) ومؤلفه أبو عبد الرحمن، محمد بن الحسين بن موسى، الأزدى السلمى، المولود سنة330هـ بخراسان وذكر الدكتور الذهبي فقال يقع هذا التفسير في مجلد واحد كبير الحجم، ومنه نسختان مخطوطتان بالمكتبة الأزهرية.
وتفسير لطائف الإشارات لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة أبو القاسم القشيري (376هـ - 465هـ).
 ( 2 ) - أنواع الإشـارات : ورد انه ذكر صاحب تفسير التحرير والتنوير أنواع للإشارات ومجرى معانيها وكما قال عندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء وهي:
الأول : ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون.
مثلا ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس.
ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى وغيرها.
الثاني : ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده والذي يجول في خاطره.
وهذا كمن قال في قوله تعالى ( من ذا الذي يشفع ) من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث : عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه.
فإذا أخذوا من قوله تعالى: (فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم[1].
وهذا يرجعنا الى التفسير بالمأثور وهو أن يقتصر المفسر على ما ورد في تفسير الآيه من الأثار عن النبيJ أو عن الصحابه و التابعين بحيث تنقل بغض النظر عن الزيادة عليها إلا الزيادة اللغوية أو التوفيق بين الأقوال أو الجمع بينها من الأثار الواردة في معنى الأيه من الإستنباط والإستنتاج بالراي.
وله أربعة أقسام إذ يعتمد على المنقول من تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة النبوية أو بما روى عن الصحابة أو بما قاله التابعين.
كما في تفسير القرآن بالقرآن في قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً *إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)[2] ففسر لفظة هلوعا بما بعدها.
وهذا التفسير (القرآن بالقرآن) هو مما لا خلاف فى قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف ولا يجد الشك إليه سبيلاً.
واما تفسير القرآن بالسنة: كما قال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي أختلفوا فيه هدى ورحمه لقوم يؤمنون)[3] فالسنة شارحة للقرآن ومبينة وموضحة له كتفصيل الصلاة والحج وغيرها.
واما تفسير الصحابة فهو في المرتبه الثالثة لكونهم سمعوا القرآن من من فم رسول اللهJ ولكن المشكلة بوسائط النقل التي وصلت الينا عبر الزمن. وقد اعتبر بعض العلماء تفسير الصحابة في حكم الحديث المرفوع إلى رسول اللهJ.
وأسباب الاختلاف فهي كثيرة جداً ونذكر منها حينما وضعوا تعدد القراءات وهو مما سبب مشكلة من أن يكون في الآية أكثر من قراءة فيفسر كل منهم الآية على حسب القراءة أو أن يكون الاختلاف في وجوه الإعراب.
وبلا شك أن الإعراب له تأثير في المعنى أو أن يكون للفظ أكثر من معنى ثم الاختلاف في الحديث عن رسول اللهJ فقد يبلغ أحدهم حديث الرسولJ ولا يبلغ الآخر فيختلف تفسير كل مفسر عن الآخر.
واما تفسير التابعين فقد اعتبر بعضهم أقوال التابعين حجة لأنهم أخذوها عن صحابة رسول اللهJ وعند الجمهور العلماء أعتبروها حجه وقد أجمعوا عليها ومن أهم الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور هي:
التفسير المنسوب إلى ابن عباس. وتفسير ابن عيينيه. وتفسير ابن أبي حاتم. وتفسير ابن حبان. والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية.
وجامع البيان عن تأويل القرآن لابن جرير الطبري. وبحر العلوم لأبي الليث، نصر بن محمد السمرقندي. ومعالم التنزيل، لأبي محمد الحسن بن مسعود البغوي. وتفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير.
فتح القدير، الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، وكما هو ظاهر من عنوانه شامل للتفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي.
وقد يضيف البعض إلى التفسير بالمأثور ما يلي:
تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن، لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الثعالبي. وتفسير الدر المنتور في التفسير بالمأثور، للحافظ جلال الدين بن أبي بكر عبد الرحمن السيوطي.
وتفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. ولعله من أشهر التفاسير بالمأثور الطبري وابن كثير والشوكاني.
ويُرجِعْون أسباب الضعف فى رواية التفسير المأثور إلى أُمور ثلاثة وهي أولها - كثرة الوضع فى التفسير ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة من أهمها التعصب المذهبى.
ثانيها - دخول الإسرائيليات فيه، ومن يتصفح كتب التفسير بالمأثور يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات يأتي عن طريق أربعة أشخاص، هم:
الراوي عبد الله ابن سلام، وكعب الأحبار ووهب بن منبه اليماني الصنعاني وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الاصل وهم عند اهل السنة ثقة وعليه جميع ما روي عنهم من الاسرائيليات في كل كتب المسلمين ومنها الصحاح الستة تعتبر صحيحة بالاجماع.
وهو كما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِJ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا)[4].
 ( 3 ) - شروط قبول التفسير الصوفي : جاء انه ذكر صاحب كتاب (التصوف) من أن العلماء الذين جوزوا التفسير الإشاري اشترطوا شروطا لكي يكون لونا من التفسير بالرأي المحمود.
ويرى الدكتور محمد كمال جعفر أنه لا بد قبل تقرير شروط قبول التفسير الصوفي وهو التنبه إلى أن التفسير الصوفي يرتبط بنوعية اعتقاد المفسر.
ويرى في شرطه لقبول التفسير الصوفي أن تأويل الصوفية للقرآن أو الفهم الخاص له إذا خلا من أي هدف سياسي أو اجتماعي.
سواء كان لرد اعتبار أو كوثيقة أمن أو بسط سلطان أو كسب ثروة أو احتفاظ بمراكز نفوذ تتعلق بأشخاص أو بجماعات، إذا لم يكن له مثل هذا الهدف.
وإذا كان لا يعارض نصا قرآنيا آخر، ولا يعارض الاستعمال العربي، ولا يؤدى إلى تحريف أو انحراف، وإذا كان وجوده يضيف ثروة روحية أو عقلية.
وإذا كان لا يدعى من السلطة ما يجعله أمرا ملزما، بفرض واحديته في الأحقية، إذ كان كذلك فهو تأويل مقبول، ليست له غاية إلا تعميق الفهم عن الله الذي ما زال كتابه منبعا لا يغيض ومعينا لا ينضب للحقائق والأسرار[5].
فمما سبق من الاقوال والتعليقات والردود يمكنك تقرير الشروط التي يقبل بها التفسير الصوفي في العناصر التالية وهي كما يلي:-
1-                    ألا يصبح التفسير الصوفي منافي لظاهر القرآن.
2-                    أن يحمل له شاهد شرعي يؤيده.
3-                    ألا يكون له اي معارض شرعي أو عقلي.
4-                    ألا يدعى التفسير الصوفي وحده المراد من الظاهر.
5-                    ألا يكون تأويل بعيد ولايحتمله اللفظ تلبيس أفهام الناس.
فإن توفرت هذه الشروط، وليس هناك للتفسير ما ينافيه أو يعارضه  من الأدلة الشرعية، يمكنك الأخذ به أو تركه، لأنه من قبيل الوجدانيات، وهي لا تقوم على دليل نظري.
بل هي أمر يبعث على تنمية المشاعر وتحصيل مكارم الأخلاق، فيجده الصوفي من نفسه ويسرَّه بينه وبين ربه، فله أن يأخذ به أو يعمل بمقتضاه من دون أن يلزم به أحدا من الناس.
والأحرى ألا يسمى هذا اللون من الفهم تفسيرا وإنما يسمى ذكر النظير بالنظير الذي يعتبر صحيحا[6].
ثالثاً : شروط قبول التفسير الإشاري : لاحظ ان تفسير الناس يحاور على ثلاثة محاور أصولية:
1 - تفسير على اللفظ وهو الذي عند المتأخرين.
2 - تفسير على المعنى وهو الذي ذكره السلف.
3 - تفسير على الإشارة والقياس وهو الذي عند الكثير من الصوفية وغيرهم.
وهذا كله في أربعة شرائط  وهي:
1-          من أن لا يناقض معنى الآية.
2-          أن يكون معنى صحيح في نفسه.
3-          أن يكون في اللفظ إشعاراً به.
4-          أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
فإن اجتمعت هذه المحاور الأربعة كان يسمى عندهم استنباطا[7].
ولكن في كتاب مناهل العرفان قال أن التفسير الإشاري لا يكون مقبولاَ إلا بشروط خمسة وهي :
1- ألا يتنافى وما يظهر من معنى النظم الكريم.
2- ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.
3- ألا يكون تأويل بعيد وسخيف مثلاَ تفسير بعضهم قوله تعالى: (وإن الله لمع المحسنين ) بجعل كلمة لمع فعل ماضي وكلمة المحسنين مفعوله.
4- ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.
5- أن يكون له شاهد شرعي يؤيده[8].
رابعاً : سمة المنهج الإشاري في تفسير مواهب الرحمن : انت تلاحظ على تفسير مواهب الرحمن أنّه اعتمد صبغة او سمة المنهج الإشاري, فكان طابعاً مُميزا عَكَس عرفانية السيد السبزواريu لهذا نحاول ان نسلط الضوء على بعض من لمحات هذا المنهج في تفسيره.
من حيث أن البحث الإشاري العرفاني لدى السيد السبزواريu تجده متناسق مع بحوثه الأُخرى من حيث الطرح والمنهج.
ومما لا غبار فيه أنّ القارئ قد يتحسس من تناول السيد عبدالاعلى السبزواريu لهذا الجانب وخصوصاً حينما يقترن تفاعله مع المادة المطروحة.
أي انك تشعر بعرفانيّة السبزواري u بحيث تراه عاش القرآن الكريم في سلوكياته وأخلاقه واتخذه كمنهج في حياته العلمية كما في تعقيبه على آيات الإنفاق يقول u:
إنّ استغراق العبد في العبودية المحضة تلذذ من الجمال المطلق الأتّم, واستشعار بالكمال الأرفع الأهمّ ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[9].
وفي مثل هذه المرتبة تتّحد الحقيقة والفعل والفاعل وحينئذٍ يقصر القلم عن البيان, ويكلّ اللسان عن الكلام.
والعبودية الحقيقية هي التي تظهر آثارها على العبد, فلا تصدر عن معصية ولا يخطر في باله غير رضاء الرب وفيها قال الامام عليA:
( اعبد الله كأنك تراه, فإنْ لم تراه فإنّه يراك, واحذره أن يراك حيث نهاك), وأنّها إذا استولت على القلب فلا يشغله شاغل من الشواغل الماديّة الدنيوية, ولا يمنعه مانع من الإنفاق في سبيل الله تعالى[10].
ولاحظ في تعقيبه u العطر على آية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[11] ولكلام الحق تعالى جذبات وللقرآن كذلك, وللموعظة الصادرة عن أهلها جذبات بمراتبها المختلفة, التي لا حدَّ لها, ومع تحقّق تلك الجذبة كيف يتصور الإكراه؟[12].
وفي تعليقه u على آية البرّ كما في قوله تعالى: ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[13] من أفضل البرّ وأهمّه هو الانقياد لأوامر الله تعالى وإطاعته في كلّ ما شاء وأراد, والتفاني في مرضاته (عزّ وجلّ).
الذي هو آخر حدّ الإمكان وأوّل حدّ الوجوب, كما أنّ أعلى المحبوبات عند الناس هو حبّ الجاه والشرف والعزّة, ولا بدّ من إنفاق هذا المحبوب في ساحته (جلّ جلاله) لينال العبد الغاية القصوى من البرّ بالمعنى المطلق, وعليه سيرة أولياء الله المخلصين[14].
انهH أراد من خلال هذا المقطع أنْ يشير الى أنّ إطاعة العبد لأوامر مولاه فيها صلاح للنفس والمجتمع وبعكسه يحصل الفساد والإفساد كما في قوله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[15].
والمحصل من هذه الطاعات هو (البر) الذي هو مطلق الطاعة, فكل ما يدخل في طاعة الله ويمكن أن يكون عنواناً لها فهو يعد براً.
كما أشار H وتمامية الطاعة لله تعالى بكل أنواع البر لابد انْ يصل العبد فيها إلى درجة التفاني في مرضاة مولاه وهو الله تعالى.
والذي عبر عنه من أنه آخر حد الإمكان وأول حد الوجوب, من حيث فرض الله تعالى الطاعة على الإنسان في الميثاق وهو أول عوالمه وأراد منه السعي لغرض نيل مرضاته فخلق فيه الإمكان, اي بمعنى أنّه مكنّه لتحصيل رضى الله سبحانه عن طريق الطاعة.
كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)[16] فكان غاية التمكين هي رضاه ولا غاية لعاقل سواها كما قال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ)[17].
فكان على الانسان من أنْ يتدرج في مرضاة الله حتى يصل إلى حد الفناء فيه سبحانه وهو أقصى حدود الإنسان, فإنّ لكل مخلوق من خلق الله حد يحده  لا يمكنه تجاوزه مطلقا, فهذا من جهة حد الإمكان.
وأمّا من جهة حد الوجوب فالمنوط بالإنسان هو الفناء وما كان قبله يعتبر مقدمة له فالتدرج بالكمالات في حد نفسه ليس واجباً؛ لأنه ليس هو الغاية بل الغاية هي الوصول إلى تمام الكمال وهو الفناء في الذات الإلهية المقدسة.
وبعد بيان من أنّ أعلى المحبوبات لدى الناس تنحصر بحب الجاه والشرف والعزة أراد بيان أنّه من الواجب على العبد من إنفاق هذا المحبوب في مرضاة الحق (جلّ جلاله).
فلا إشكال في أن ما ذكروا من حب الجاه والشرف والعزة يعتبر من الأمور الوهمية في هذه الدنيا الموهمة, فلا بد من إنفاق جميع القدرات في طريق الآخرة.
وأجمل ما في الإنسان من أن ينفق اثمن وأجمل وأنفس ما عنده. ففي الواقع لم يكن ذلك إنفاقاً بل ادخار, فالدنيا مزرعة الآخرة, كما قال تعالى: (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)[18].
كما أنّ السيد العارف السبزواري u تكلم عن مقام الشهداء والمجاهدين في سبيل الله, وذلك من خلال تعليقه على قول الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[19].
حيث قال u يستفاد من قوله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) كمال العناية بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله, فقد أرادوا من جهادهم وبذل أرواحهم الغالية في إعلاء كلمة الله وإحياء الحق وإماتة الباطل.
فأعطاهم الله تعالى الأجر الجزيل, والثناء الجميل والذكر الحميد, ومنحهم السعادة الكبيرة أنْ جعلهم عنده يرزقون ويستبشرون ويفرحون, قد خلت حياتهم عن كل ما ينغصّها من الخوف والحزن والآلام[20].
وبعد أنْ بين مقام الشهداء وما منحهم إياه الحق سبحانه وتعالى من الأجر والثواب والدرجة العالية والمنزلة الرفيعة, أراد السيدH الانتقال من الكلام حول الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس فقال:
فإن كان الجهاد الأصغر له هذه الحظوة عند خالق الأرواح, فما ظنك بالجهاد الأكبر مع النفس الأمارة لكسر سورتها, وقمع الهوى بالصبر والاصطبار.
وكان العبد معه مطيعا لمولاه مخالفا لهواه مراقبا لنفسه وأعماله وأقواله فإنّ له الفضل العظيم والمنزلة الكبرى عند الله (عز وجل) قال تعالى:
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) والجهاد الأصغر وان كان في وقت معلوم, أمّا الجهاد الأكبر فإنّ مدته أطول ومعاناته أشد وأعظم[21].
فهنا أراد u بيان من أنَّ السبيل الوحيد لكسر الأصنام الجاثمة على قلب الإنسان إنّما يكون من خلال جهاد النفس, لكي يهوي الشرك والكفر تحت أقدام المؤمنين كما في قوله تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[22].
ولاحظ في تعقيبه على مقطع قصة تقطيع الطيور بالنسبة إلى رسمه لشخصية النبي إبراهيمA قال السبزواريH: فشرقت على قلبه الأنوار القدسية, فاتّخذه الله خليلاً وجعل الحبيب من نسله.
فصار الخليل يفتخر بالحبيب والحبيب يفتخر بالخليل, لما بينهما من الجامع القريب, من شروق النور الأزلي على قلبيهما والوصول إلى مقام الوصال, والينبوع الذي لا يعقل فيه النفاد, وبمدبّر حكيم لا يتصّور فيه التغيّر والفساد..
وصدر منه العجائب والغرائب؛ لأنّه مستمد من مدد الغيب الذي لا حدّ له, فيكون إحياء الموتى على يديه أيسر شيء[23].
وقد حاول الدكتور عبد الرؤوف إيجاد عملية ربط لمثل هكذا مقاطع حيث قال: نجد من النماذج المتقدمة أنّ الباحث يتفاعل أولا مع كتابه, ويربط ذلك ثانيا بالمناسبة التي تفرزها.
فقد ربط بين قرانية آيات الإنفاق وبين العبودية الحقيقية التي لا يشغلها شاغل دنيوي عن الإنفاق في سبيل الله تعالى.
وكذلك ربط بين فقرة ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) وبين جذبات الحب التي لا يتصور الإكراه فيها وكذلك ربط بين مقطع تقطيع الطيور, وبين شخصية النبي إبراهيمA من حيث استيلاء العبودية على قلبهA.
وإمحاء المسافة بينه وبين الله تعالى, ومن ثم بين ذلك وبين العملية اليسيرة بالنسبة إليه وهي: إحياء الطيور[24].
فمما سبق عليك ان تعرف من أن البعض من الكتّاب أعتبر الإشارات منهجاً للصوفية فقط فجعل ذكرها مقارنا للصوفية ولهذا حينما تذكر المنهج الصوفي فيعني به هو نفسه الإشاري والعكس.
والبعض الآخر قد فرّق بين المنهج الإشاري الصوفي والمنهج الإشاري بصورة عامة المجملة وذلك من ملاحظة أن بعض التفاسير لغير الصوفية أنتهج مفسريها منهج الإشارت في تفسير البعض من آيات كتاب الله الحكيم.
كما في مثل تفسير النيسابوري , وتفسير الألوسي , وتفسير التستري, واما من تفاسير الشيعة الإمامية تفسير مواهب الرحمن , والميزان.
وكلمة اخيرة فلا يكون العارف بالله عارفاً حتى يتلمس معنى القرب الالهي ولهذا القرب الالهي مناهج وطرق تختلف من شخص لآخر ومن هؤلاء الاشخاص هم العرفاء الذين تفانوا في الخالق عز وجل ومعرفة الله تعالى تختلف من شخص الى اخر.
وهذا مما لا شك فيه لأن معرفة الله تعالى بعدد انفاس الخلائق أو ان طرق الوصول اليه تبارك وتعالى هي بعدد أنفاس الخلائق والساعي في هذا الطريق يصل الى نحو من العلم والمعرفة بلا شك.
فمن خلال البحث والاطلاع فإن هناك مناهج في العرفان عديدة ومنها المنهج الإشاري وهو الذي له سمة بارزة منتهجة في تفسير السيد السبزواريu في كتابه مواهب الرحمن في تفسير القرآن.
وهذا منهج واسع وناظر إلى الجهة الأخرى للآيات القرآن التي قد لا ينال معرفتها إلا ذو حظ عظيم.
ولازم هذا الكلام قبول المنهج الاشاري بهذه الصبغة التي تعطي لآيات كتاب الله تعالى معاني حقة مستمدة من توصيات أئمة أهل بيت العصمة الأطهارD, والله العالم.

[1]- تفسيرالتحرير والتنوير . أبن عاشور 1: 16.
[2]- سورة المعارج الاية 19 – 21.
[3]- سورة النحل الاية 64.
[4]- سورة البقرة الاية 136 وسورة المائدة الاية 59.
[5]- التصوف الدكتور محمد كمال جعفر ص26.
[6]- كتاب التصوف.د محمد كمال جعفر ص160.
[7]- التبيان في أقسام القرآن . ابن القيم الجوزية ص 49.
[8]- مناهل العرفان . الزرقاني : 2: 58.
[9]- سورة السجدة الاية  17.
[10]- مواهب الرحمن في تفسير القرآن 4: 423ـ424.
[11]- سورة البقرة الاية 256.
[12]- مواهب الرحمن في تفسير القرآن  4: 308.
[13]- سورة آل عمران الاية  92.
[14]- مواهب الرحمن في تفسير القرآن  6: 155.
[15]- سورة الأعراف الاية  56.
[16]- سورة الأعراف الاية 10.
[17]- سورة الأحقاف الاية 26.
[18]- سورة البقرة الاية 272.
[19]- سورة آل عمران الايات  169ـ170.
[20]- مواهب الرحمن في تفسير القرآن 7: 84.
[21]- العارف السيد عبد الاعلى السبزواري u كتاب تفسير مواهب الرحمن في تفسير القرآن 7: 84ـ85 , سورة العنكبوت 69.
[22]- سورة الجاثية الاية 23.
[23]- مواهب الرحمن في تفسير القرآن 4:  352.
[24]- منهج السيد عبد الأعلى السبزواريu في التفسير: 85ـ86 , سورة البقرة:  256.