الأربعاء، 12 أبريل 2017

أعجاز البيان في سورة الكهف


أعجاز البيان في سورة الكهف
جاء انه ذكر في كتابه العزيز عبارة قول الله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)[1].
تلاحظ في الاية الثالثة من سورة الكهف عبارة قوله تعالى : (ماكثين فيه أبدا) لماذا لم تستخدم لفظة كلمة (خالدين) بدلها.
تجد ان المكث في اللغة: هو الأناة واللبث والإنتظار وليس هو بمعنى الخلود كأصل المكث. هنا الله تعالى يقصد الجنّة في عبارة: (إن لهم أجراً حسنا) وذلك الأجر الذي يُدفع في مقابل العمل وننظر ماذا يحصل بعد الأجر.
فالجنّة تحصل بعد أن يوفّى الناس أجورهم واما في الآية عبارة قوله تعالى: (أجراً حسناً) فمقامنا هنا مقام انتظار وليست خلود بعد وعلى قدر ما تأخذه انت من الأجر لكي يكون لك الخلود فيما بعد الأجر الذي اخذته وهو الخلود في الجنّة.
ومن جهة الدلالة اللغوية ان الأجر ليس هو الجنّة لهذا ناسب من أن يأتي بالمكث وليس الخلود للدلالة على الترقّب لما بعد الأجر.
وتلاحظ البيان في استخدام لفظة كلمة (فأردت) ولفظة كلمة (فأردنا) عبارة قوله: (فأراد ربك) في سورة الكهف ضمن قصة النبي موسىA والعبد الصالح الامام الخضرA.
تجد في ايات الكتاب كلها أن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه ابداً؛ وأما الخير والنِعم فكلها منسوبة إليه وحده تعالى كما في عبارة قوله: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسّه الشر كان يؤوسا).
فلا نجد في ايات القرآن عبارة: (فهل زيّن لهم سوء أعمالهم) أبدا بل نجد عبارة قوله: (زُيّن لهم سوء أعمالهم) وكذلك مثلهِ في قول الله سبحانه على لسان النبي إبراهيمA عبارة قوله تعالى: (الذي يميتني ثم يحيين).
ومثلهِ كذلك عبارة قوله تعالى: (وإذا مرضت هو يشفين). فلم يقل النبي ابراهيمA لفظة كلمة (يمرضني) تأدباً مع الله تعالى.
ولاحظ عبارة قوله تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)[2] ففي هذه الآية تجد ان الله تعالى لا ينسب العيب إلى نفسه أبداً فكان الخضرA هو الذي عاب السفينة فورد الفعل مفرداً بالاية.
وكذلك لاحظ عبارة قوله تعالى : ( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)[3] ففي هذه الآية تجد اشتراك في العمل قتل الغلام المذكور بالاية والإبدال بخير أحسن منه فورد الضمير الدالّ على الاشتراك. ففي الآية تلاحظ جانب القتل وجانب الإبدال فجاء جانب القتل من الخضرA وجاء الإبدال من الله تعالى لهذا تلاحط مجيء الفعل مثنّى.
وعبارة قوله تعالى : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)[4].
 بهذه الآية تلاحظ ان الجدار كلّه خير فنسب الفعل لله وحده وهذا دليل على أن الله تعالى هو وحده علاّم الغيوب وسبق في علمه من أن هذا الجدار تحته كنز لهما فلو سقط سيأخذ المال من هؤلاء الأولاد اليتامى ويعتبر ظلم لهم والله تعالى ينسب الخير لنفسه سبحانه.
وحركة الفعل بالآية ليست فيها اشتراك بل هو خير محض للغلامين وأبوهما الصالح والله تعالى هو الذي يسوق ذلك الخير المحض. وقد جاء بلفظة كلمة (رب) في الآيات بدل من لفظ الجلالة (الله) وهو لغرض الدلالة من أن الرب هو المربي والمعلِّم والراعي والرازق وجميع الآيات في معنى الرعاية والتعهد والتربية لهذا ناسب بين ذلك الأمر المطلوب واسمه الكريم سبحانه وتعالى.
وتجد ان لفظة كلمة (قرية) ولفظة كلمة (مدينة) في ايات القرآن الكريم كما وردتا في سورة يس وسورة الكهف فتلاحظ ان هناك فرق فيما بينهما.
فقد جاء في اللغة : انه إذا اتّسعت القرية تُسمى مدينة، والقرية يمكن ان تكون صغيرة وقد تكون كبيرة نسبياً. ففي سورة يس جاءت الكلمتان في عبارة قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ)[5] وعبارة قوله تعالى: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[6].
أي بمعنى أن أصحاب القرية أجتهدوا في التبليغ حتى وصل إلى أبعد نقطة بالمدينة كما في عبارة قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) أي بمعنى أن هذا الرجل جاء يحمل هموم دعوة التبليغ. وقد وصل لأقصى مكان بالمدينة مع أنها متّسعة.
وهو كما جاء في سورة الكهف عبارة قوله تعالى: ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).
وجوابه في عبارة قوله تعالى : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً).
كلام الاية واضح وهو استطعم النبي موسىA والخضرA أهل القرية على سعتها أي بمعنى أنهما جالا فيها كلها حتى بلغ بهم الجوع كثيراً حتى استطعموا أهلها فأبوا ذلك.
ولكن في ايات سورة الكهف دلالة حرف العطف وهو الـ(واو) في عبارة قوله تعالى: (سبعة وثامنهم كلبهم) مع أنها لم تأـي فيما قبلها وهي عبارة قوله تعالى: (ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم).
هنا لفظة (الواو) تفيد التوكيد والتحقيق أي بمعنى كأنها تدل على أن الذين قالوا أن أصحاب الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم هم الذين قالوا القول الاصح والاصوب فمنهم الزمخشري.
اذاً لفظة حرف (الواو) هي واو الحال ولكنها أفادت التوكيد والتحقيق من أن هذا الكلام صحيح لأن حرف الواو يؤتى بها إذا تباعد معنى الصفات للدلالة على التحقيق والإهتمام كما في عبارة قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) واما إذا اقترب معنى الصفات فلا يؤتى بحرف (الواو) كما في عبارة قوله تعالى: (همّاز مشّاء بنميم) هنا الصفات متقاربة فلم يؤتى بلفظة حرف (الواو).
واما في عبارة قوله تعالى في سورة التوبة : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[7].
تجد أن حرف الواو ذكرت مع الصفة الأخيرة وتعتبر هي الأشد على النفس والآخرين وباقي الصفات الأولى كلها متقاربة لكن النهي عن المنكر يكون أشدّ على الإنسان وقد يؤدي للإهانة ا والى القتل أحياناً.
وتلاحظ ان الفرق من الناحية البيانية بين عبارة قوله تعالى في سورة الكهف: (فأتبع سببا) وعبارة قوله تعالى: (ثم أتبع سببا). راجع الى الحكم العام في النحو: من ان الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. ومن ثمّ تفيد الترتيب والتراخي أي بمعنى تكون الفترة أطول.
ففي اية سورة الكهف الكلام عن ذي القرنينA وهو كما في الآية الأولى من عبارة قوله تعالى: (فأتبع سببا) ولم يذكر قبل عبارة هذه الآية أن ذي القرنينA كان في حملة أو كان بمهمة معينة وإنما ورد قبلها الآية في عبارة قوله تعالى:
(وآتيناه من كل شيء سببا) هذا كله في العبارة الأولى فلم يكن قبلها أي شيء إنما حصل هذا الشيء بعد التمكين لذي القرنين مباشرة.
وأما في العبارة الثانية وهي قوله تعالى: (ثم أتبع سببا) فهذه حصلت بعد حالة العبارة الأولى بفترة وقد ساق ذو القرنينA حملة إلى مغرب الشمس وحملة أخرى إلى مطلع الشمس وحملة ثالثة إلى ما بين السدين فهذه الحملات كلها تأتي الواحدة بعد الأخرى بفترة من الزمن ولذا تجد الاستعمال بلفظة (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي في الزمن.
وأما دلالة عبارة قوله تعالى : ( ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً) وأستخدم اللام في لفظة (لشيء) ولم يقل عبارة: (عن شيء).
انت تعرف ان في اللغة مجيء لفظة (اللام) بعد الكلام له أكثر من دلالة وهو ليس دائماً للتبليغ بل تأتي لبيان العِلّة إما بمعنى عن أو بسبب أمر ما في عبارة: (قال له). وهو كما جاء في سورة الكهف من قصة الخضرA مع النبي موسىA كما في عبارة قوله تعالى:
( ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا)، وكما يقال في اللغة: قلت له كذا وكذا. وقد تأتي لفظة (اللام) مع القول لغير التبليغ وكذلك تأتي بمعنى (عن).
كما جاء في قول الشاعر حينما أنشد: (كضرائر الحسناء قلن لوجهها إنه لدميم) وعبارة (قلن لوجهها) أي بمعنى عبارة: عن وجهها. وقد تأتي لفظة (اللام) بعد فعل قال للتعليل أي بمعنى لأجل ذلك أو بسبب ذلك.
وأما إعراب لفظة كلمة (كلمة) في سورة الكهف كما بعبارة قوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) تعتبر لفظة (كلمة) هي تمييز، الفاعل ضمير مستتر ويأتي التمييز هنا لكي يفسرها وتسمى في النحو: الفاعل المفسّر بالتمييز.
وأما إعراب لفظة (أيّ) في سورة الكهف بعبارة الآية قوله تعالى: (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا) هنا لفظة (أي): هي مبتدأ. من أسماء الإستفهام وكل الأسماء التي تأخذ لها صدر في الكلام لا يعمل بها ما قبلها إلا فقط في حروف الجرّ ولكن يعمل فيها ما بعدها في عبارة قوله: (ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى).
وأما سبب تنكير الغلام وتعريف السفينة في اية سورة الكهف في عبارة قوله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً) وعبارة قوله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً)[8].
قيل أن الخضرA والنبي موسىA لم يجدوا سفينة حينما جاءا إلى الساحل ثم بعدها جاءت سفينة مارّة فنادوهما بأسمائهم فعرفا الخضر فحملوهما من دون أجر ولذا ذكرت السفينة معرّفة لأنها لم تكن أية سفينة. وأما الغلام فهم لقياه في طريقهم وليس غلام محدد.
واما البيان في إختيار لفظة كلمة (الأخسرين) في عبارة قوله تعالى من سورة الكهف: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)[9]؟ والفرق بين لفظتي (الخاسرون والأخسرون).
فقد جاء في ايات القرآن الكريم استخدام لفظة كلمة (الخاسرون) كما جاء عبارة في سورة النحل: (لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ)[10].
ولفظة كلمة (الأخسرون) جاءت في عبارة سورة هود قوله تعالى: (لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ)[11].
وجاءت في عبارة سورة النمل قوله تعالى: (أوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)[12] وآية سورة الكهف كذلك في عبارة قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً).
وتلاحظ في اللغة لفظة كلمة (الأخسر) هو أكثر خسراناً من الخاسر، وسبب إختيار لفظة كلمة (الأخسرون) في سورة هود وهو حينما تلاحظ سياق الآيات في سورة هود تجد أنها تحدثت عن الذين صدوا عن سبيل الله وصدّوا غيرهم أيضاً.
ولكن سياق الاية في سورة النحل تجده فيمن هو صدّ عن سبيل الله وحده ولم يصُدّ أحداً غيره فمن المؤكّد أن الذي يصدّ نفسه وغيره عن سبيل الله يعتبر أخسر من الذي صدّ نفسه فقط عن سبيل الله لوحده كما في عبارة قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[13].
وحينما تقارن بين نص آية سورة هود ونص آية سورة النمل وهو عبارة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)[14].
تجد أن في سياق سورة هود جاء التوكيد بعبارة (لا جرم) وعند النحاة تعني القسم أو بمعنى حقاً أو حقَّ وكلها تدلك على التوكيد ولكن إذا لاحظنا سياق آيات سورة هود وهي عبارة قوله تعالى:
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)[15].
وأما في سياق ايات سورة النمل فهي تدل على أنهم لا يؤمنون بالآخرة فقط أما في سياق سورة هود فقد زاد على ذلك بعبارة:
أنهم يصدون عن سبيل الله وأنهم يفترون على الله الكذب. وتجد فيها خمسة أشياء إضافية عن سياق آية سورة النمل لذلك كان ضرورياً أن يؤتى بالتوكيد في سياق سورة هود باستخدام لفظة (لا جرم) والتوكيد بلفظة (إنهم) ولم يأتي التوكيد في سياق ايات سورة النمل.
ونرجع إلى سياق آية سورة الكهف كما في عبارة قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)[16].
تلاحظ ان استخدام لفظة كلمة (ضلّ) مع لفظة كلمة (سعيهم) ولم يقل عبارة: ضل عملهم وذلك لأن السعي هو العدو أو المشي الشديد من دون العدو، وقال عبارة: في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يُحسن صنعا، ومعنى الإحسان هو الإتقان وليس العمل العادي، في اللغة لدينا: فعل وعمل وصنع.
أما الفعل يمكن ان تقال للجماد كما في عبارة: نقول (هذا فعل الرياح) والعمل ليس بالضرورة صنعاً فيمكن ان يعمل الإنسان من دون صنع، أما الصنع فهو لفظ أدقّ وهو من الصَّنعة كما في عبارة قوله تعالى: (صُنع الله الذي أتقن كل شيء) ولفظة كلمة الصنع لا تستعمل إلا للعاقل الذي يقصد العمل بإتقان.
إذاً سياق آية سورة الكهف ورد بها ضلال وسعي وصُنع لهذا استوجب أن يؤتى بعبارة: (الأخسرين أعمالاً) ومن الملاحظ على ذلك أن في القرآن كله لم يُنسب جهة الخُسران للعمل إلا فقط بهذه الآية. وتلاحظ ان سياق هذه الآية الوحيدة التي وقعت ضمن سياق الأعمال من أولها لآخرها كما في عبارة قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
ولفظة كلمة (الأخسرين): هي اسم تفضيل أي بمعنى أنه هناك اشتراك في جهة الخُسران، تجد خاسرون كُثُر واما الأخسرين بعضهم أخسر من بعض أي التفضيل فيما بين الخاسرين أنفسهم.
واما الفرق من ناحية البيان بين الفعل في لفظة كلمة استطاعوا اسطاعوا والفعل في لفظة كلمة تسطع وتستطع من سياق سورة الكهف كما في عبارة قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً)[17].
هي زيادة حرف (التاء) في فعل استطاع تجعل الفعل مناسباً للحث وزيادة المبنى واما في اللغة تفيد زيادة المعنى.
واما الصعود على السدّ أهون من إحداث نقب فيه وذلك لأن السدّ قد صنعه ذو القرنينA من زبر الحديد والنحاس المذاب ولهذا استخدم لفظة كلمة (اسطاعوا) مع الصعود على السد ولفظة كلمة (استطاعوا) مع النقب.
فحذف مع الحدث الخفيف أي بمعنى الصعود على السد ولم يحذف مع الحدث الشاق الطويل بل منحه أطول صيغة له، ومثلهِ كذلك إن الصعود على السدّ يتطلّب زمن أقصر من إحداث النقب فيه فحذف من الفعل وقصّر منه لكي يجانس النطق الزمني الذي يتطلبه كل حدث.
وأما عدم الحذف في عبارة قوله تعالى : ( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)[18] وحذف التاء في سياق الآية كما في عبارة قوله تعالى: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)[19].
وذلك لأن المقام في الآية الأولى وهي (78) مقام شرح وإيضاح وتبيين فلم يحذف من الفعل أما في الآية الثانية وهي (82) فهي في مقام مفارقة ولم يتكلم بعدها الخضرA بكلمة وفارق النبي موسىA وهنا اقتضى الحذف من الفعل.
واما تقديم لفظة كلمة (البصر) على لفظة كلمة (السمع) في سياق آية سورة الكهف ومثلها في سياق سورة السجدة. وهو كما في عبارة قوله تعالى في سورة الكهف:
 (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)[20] وفي عبارة سورة السجدة قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)[21].
ومن المعروف أن الأكثر في سياق ايات القرآن تقديم السمع على البصر كما ذكرنا مسبقاً وذلك لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ لأن فاقد البصر الذي يسمع يمكن ان تبلغه.
وأما فاقد السمع فصعب جداً تبليغه وانت تعلم إن مدى السمع أقل من مدى (المسافة) البصر فمن نسمعهم يكونون عادةً أقرب ممن نراهم، هذا بالإضافة إلى أن السمع نشأ في الإنسان قبل البصر في تكوين الخلقة؛ وأما سبب تقديم البصر على السمع في الآيتين.
فهو راجع لأن السياق في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يشاهدهم أحد ولجأوا إلى ظلمة الكهف ولكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف ومن ثم طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه قومهم.
فمسألة البصر بالاية هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في سياق هذه الآية. وكذلك في سياق آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمين الذين كانوا بالدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها فلا يبصرون ولكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ فلو تيقنوا لآمنوا.
أما بالآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه وذلك لأنهم أصبحوا في مجال اليقين ويعتبر هو ميدان البصر أي بمعنى (عين اليقين) والآخرة تعتبر ميدان الرؤية وليست ميدان السمع وكما يقال في عبارة: ليس الخبر كالمعاينة.
فعندما شاهدوا بالآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولهذا هنا اقتضى تقديم البصر على السمع.
واما ما دلالة لفظة كلمة (لنعلم) في سياق آية سورة الكهف في عبارة قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً)[22] فالعلم هنا قسمين أحدهما: تعلق بالجزاء والاخر: يعلمه الله ابتداء لا يتعلق بالجزاء.
وما يفعله الإنسان هو يعلم الله به ولكن حينما نبدأ بفعله يتعلق بالجزاء وتجد هناك علم آخر وهو العلم الذي قضاه الله تعالى وما يفعله الإنسان هو تصديق لعلم الله هذا.
عبارة وقوله تعالى : ( لنعلم أي الحزبين ) معناه لنعلم أي منهم يعلم الحقيقة وذلك لأن كل قسم قال شيئاً فمن الذي يعلم الحقيقة هو الله تعالى وحده. فهناك علمان وهما علم سابق الذي سجّل فيه الله تعالى القدر والاخر علم لاحق يحقق هذا العلم وهو الذي تعلق به الجزاء.
واما عن ربط المستقبل بلفظة (غد) فقط كما في عبارة قوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا)[23] فأن سبب نزول سياق الآية هو الذي يحدد الجواب وذلك حينما سُئل رسول اللهn عن ثلاثة أسئلة من قبل الكفار فكان من ضمنها عن أصحاب الكهف.
ومثلاً في مسألة عبارة قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[24].
وماذا إن لم يردن تعففاً؟ فهذه الحادثة التي حصلت أن شخص أراد إكراههن وهن يردن التحصّن فذكر القضية كما هي واقعة ثم تأتي أمور أخرى بينت المسألة.
ولفظة كلمة (غداً) في سياق الآية وهي موضع السؤال لا تعني بالضرورة لفظة كلمة (الغد) أي اليوم الذي يلي وإنما (قد) تفيد المستقبل وهي مناسبة لما وقع وما سيقع.
ومن ناحية البيان الفرق في عبارة قوله تعالى : (شيئاً إمرا) وعبارة قوله تعالى: (شيئاً نُكرا) كما هو الحال في سورة الكهف على لسان النبي موسىA للرجل الصالحA حينما خرق السفينة وهو في عبارة قوله تعالى:
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)[25] وعبارة قوله تعالى عندما قتل الرجل الصالحA الغلام: قال:
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)[26].
وهنا قد وصف خرق السفينة من أنه شيء إمر وهناك وصف قتل الغلام بأنه شيء نُكر والسبب لأن خرق السفينة ونزع لوح خشب منها من دون قتل الغلام شناعة فإنه إنما هو خرق السفينة لكي تبقى لمالكيها.
وهذا لا يبلغ مبلغ موضوع قتل الغلام من غير سبب ظاهر. فالإمر دون النُكر فوضع التعبير في كل موضع بما ناسب كل فعل مكانه.
كما جاء عن قتادة: النُكر أشدّ من الإمر. فجاء كل على ما لائم ولم يكن يحسن مجيء أحد الوصفين بموضع الآخر.
وتجد هذا الاختلاف داخل في فواصل سياق الآيات بسور القرآن, والله العالم.

[1]- سورة الكهف الاية 1 -3 .[2]- سورة الكهف الاية 79 .[3]- سورة الكهف الاية 81 .[4]- سورة الكهف الاية 82 .[5]- سورة يس الاية 13.[6]- سورة يس الاية  20.[7]- سورة التوبة الاية 112 .[8]- سورة الكهف الاية 74 و71.[9]- سورة الكهف الاية 103.[10]- سورة النحل الاية 109 .[11]- سورة هود الاية 22 .[12]- سورة النمل الاية 5 .[13]- سورة النحل الاية 107  .[14]- سورة النمل الاية 4و5.[15]- سورة هود الاية 18 – 21 .[16]- سورة هود الاية 103 - 104 .[17]- سورة الكهف الاية 97 .[18]- سورة الكهف الاية 78 .[19]- سورة الكهف الاية 82 .[20]- سورة هود الاية 26 .[21]- سورة السجدة الاية 12 .[22]- سورة الكهف الاية 12 .[23]- سورة الكهف الاية 23 .[24]- سورة النور الاية 33 .[25]- سورة الكهف الاية 71 .[26]- سورة الكهف الاية 74 .