الأربعاء، 12 أبريل 2017

المثل الاعلى داخل الانسان من جهة إعجاز البيان في القران


المثل الاعلى داخل الانسان من جهة إعجاز البيان في القران
المثل الاعلى داخل الانسان: تلاحظ ان صورة المثل الاعلى في داخل كل انسان او هدف في كل مجمتمع او دولة فمن خلال الاستقراء للمثل العليا تظهر على أنها ثلاثة أنواع وهي: أحدهما: نوع المثل الأعلى المنخفض (أو التكراري) والاخر: نوع المثل الأعلى المحدود, والثالث والأخير: هو نوع المثل الأعلى المطلق.
النوع الاول : المثل الأعلى المنخفض : 
فهو ذلك المثل المنتزع من الواقع الراهن آو منتزع من الماضي المنقول للحاضر (المجتمع). وفي هذه الحالة يتخذ أعتباره (المجتمع) من ماضيه أو حاضره فهذا عندهم هو المثل الأعلى الذي يجب على جميع الافراد المحافظة عليه والتحرك نحوه وضمن موجبه.
ومعنى هذا أن المثل الأعلى المنخفض هو عبارة عن حالة تكرارية لما عليه المجتمع، بل يعتبر هو عبارة عن تمجيد للواقع ونقله إلى المستقبل ومساير له. ويعتبر هذا هو حال المجتمعات (المحافظة) أو (الساكنة) بوجه عام.
وتلاحظ ان أتخاذ مجتمعات الافراد مثلا أعلى منخفضا (أو تكراريا) يقع ذلك لأحد سببين وهما:
سبب أحدهما : هي الألفة والعادة مع الخمول والضياع. وهو ما جاءت به العديد من آيات القرآن في معرض حديثها عن المجتمعات المحافظة التي تصدت لدعوات الأنبياء، كما في عبارة قوله تعالى: (قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)[1].
وعبارة قوله : قالوا: ( أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن بمسبوقين)[2].
 وعبارة قوله تعالى : ( أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آبائنا، وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)[3].
وعبارة قوله تعالى : قالت رسلهم: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى، قالوا: إن انتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا، فأتونا بسلطان مبين)[4].
وتجدها كذلك في عبارة قوله تعالى : بل قالوا: (إنا وجدنا آباءنا على آمة وإنا على آثارهم مهتدون)[5].
تلاحظ في كل هذه الآيات السابقة يستعرض القرآن الكريم السبب الأول لتبني المجتمع المثل الأعلى المنخفض، فهم بحكم الألفة والعادة وجدوا طبع وسِنة قائمة ووضع سائد فلم يسمحوا لأنفسهم بالتجاوز فجسدوه كمثل أعلى حتى وصلت الحالة الى معارضة دعوات الأنبياء.
أما السبب الثاني للالتزام بالمثل الأعلى المنخفض فهو التسلط الفرعوني، إن فراعنة التاريخ حينما يحتلون مراكزهم في أعلى قمة للهرم السياسي في المجتمعات يعتبرون أي تطلع جديد نحو المستقبل وأي تجاوز لواقعهم الذي سيطروا عليه, هو زعزعة لوجودهم وتهديد لمراكزهم.
فمن هنا تلاحظ من مصلحة أي فرعون أن يغمض عيون جميع الناس على هذا الواقع، ويحوله لمثل أعلى مطلق لا يمكن تجاوزه، فيحاول قدر الامكان أن يحبس افراد المجتمع في إطار نظرته الخاصة به، لكي لا يمكن لهذا المجتمع أن يفتش عن أي مثل أعلى آخر بديل ينقله من الحاضر إلى المستقبل، ومن واقعه المتجمد إلى طموح آخر أكبر واوسع منه.
وتلاحظ ايات الله تعالى عرضت في سور القرآن الكريم هذا السبب في أكثر من نص وهي كما في عبارة قوله تعالى: وقال فرعون: (يا ايها الملأ ما علمت لكم من آله غيري)[6].
وكذلك عبارة قوله تعالى : ( قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)[7].
هنا تلاحظ أن فرعون يريد أن يضع جميع الناس الذين هم تحت سيطرته ضمن إطار رؤيته هو، ومن ثم تحويل هذه الرؤية إلى شيء (مطلق) لا يمكنك ان تتجاوزه، جاعلا جميع افراد المجتمع تتبنى المثل الأعلى مستمدا من ذلك التسلط الفرعوني.
كما في عبارة قوله تعالى : ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * - فقالوا-: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)[8].
فيعتبر هذا التجميد للمجتمعات هو من ضمن إطار الواقع الفرعوني الذي يعيشه فينشا مع حرص أولئك المتسلطين على ضمان وجودهم ومصالحهم التي يحققها لهم هذا الواقع المفروض.
وتلاحظ قد سمى القرآن الكريم هذه القوى التي تحول ذلك الواقع المحدود إلى مطلق وتحصر المجتمعات في واقعه تجمل اسم (الطاغوت).
كما في عبارة قوله تعالى: ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا الى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب)[9].
وتجد التفاتة هنا وهي إن المثل الأعلى المنتزع من الواقع (التكراري والمنخفض) يحاول في أكثر الأحيان من أن يتستر بستار الدين وغالبا ما تتعمد أنظمة الفراعنة الى إسباغ طابع ديني او شرعي على نفسها من اجل إعطاء مثلها الأعلى القدسية الزائفة.
وذلك لكي تضمن بقاءها مع استمرارها وخضوع الناس لها، بل إن كل مثل أعلى من هذا النوع لا ينفك عن التلبس بثوب التدين، سواء برز بشكل صريح أو لا، وذلك لأن مثلهم الأعلى يحتل بأستمرار مركز الإله، هذا بحسب تعبير القرآن ودائما تستبطن علاقة المجتمعات بمثلها الأعلى نوعا من العبادة لهذا المثل.
ولكن عليك انت تعرف ان الدين بشكله العام هو علاقة عابد بمعبود، والمثل العليا في جوهرها هي عبارة عن أديان وعبادات، مهما حاولت أن ترفع من شعارات لغرض التمويه لكي تتستر بها عن حقيقتها.
ولكن هذه الأديان التي فرزتها المثل العليا المنخفضة (أو التكرارية) تعتبر أديان محدودة تبعاً لمحدودية هذه المثل، وبسبب هذه المحدودية للأديان فهي أبداً لا تستطيع توحيد المجتمعات، فهي تعتبر أديان تجزئة، في مقابل دين الله كما في عبارة قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)[10].
النوع الثاني : فهو المثل الأعلى المحدود 
التي قد تظهر في مجتمعات الافراد هي المثل الأعلى المحدود, ويعتبر هذا النوع الافضل بشكل نسبي من المثل الأعلى المنخفض، وذلك كونه مشتق من رؤية المستقبل، وليس من الماضي.
ولكن هذه الرؤية تشوبها ظبابية وليست كاملة وشاملة ومستوعبة لكل المسار المستقبلي للإنسان، وذلك بحكم محدودية مقدرة الإنسان على استشراف المستقبل بمعزل عن الخالق، ولهذا تلاحظ رؤية المستقبل في ضوء المثل الأعلى المحدود رؤية نسبية محدودة، فلا تغطي إلا مساحة صغيرة ضئيلة من المستقبل.
ومن باب المثال تلاحظ أن الأمة التي تعاني من تمزق سياسي تضع شعار (الوحدة القومية او الوطنية) كهدف أعلى لها، ولكن هذا الهدف محدود.
وذلك لأنه يغطي جزءا من مسيرة الإنسانية المتجهة نحو تحقيق وحدة أكبر من القومية أو الوطنية، وهي تلك الوحدة الإنسانية العالمية الشاملة ضمن إطار المجتمع المعصوم، التي لا تكتفي بالوحدات المنفصلة عن بعضها البعض.
كذلك تلاحظ أن فئات المجتمع المسحوقة اقتصاديا تجعل مطالبها المهنية المادية كهدف أعلى لها، ولكن تجد هذا الهدف محدود، وذلك لأن الهدف العام لمسيرة الإنسان هو تحقيق عدالة المجتمع التي تشمل بخيراتها ومنافعها جميع شرائح المجتمع وليس فقط في مجتمع إقليمي، أو قومي.
بل في مجتمع عالمي موحد. وهكذا تلاحظ مثلاً أن غاية ما توصلت إليه الماركسية، هو القول بدكتاتورية البروليتاريا، واعتبارها كمثل عليا للمسيرة الماركسية.
لتنطوي هذه المثل العليا المحدودة على تعميمين خاطئين بنفس الوقت، احدهما التعميم الأفقي، والثاني هو التعميم الزمني.
فأما الاول (التعميم الافقي) يحصل حينما يعتبر المثل الأعلى المحدود تصوراته المحدودة عن الكون والحياة والإنسان تصورات مطلقة.
وأما الثاني (التعميم الزمني) يحصل حينما يعتبر المثل الأعلى المحدود نظرته المحدودة إلى المستقبل ضمن نظرة مطلقة، ويعتقد أنها تستوعب كل الإمداد الزمني لحركة التاريخ في المستقبل.
 وتلاحظ ان القران الكريم قد رسم صورة لحال المجتمعات التي تتخذ مثل عالي محدود في أبلغ تصوير كما في عبارة قوله تعالى:
(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)[11].
فقد شبه الكتاب المجتمعات التي تبني على أساس هذه المثل مثل بيت العنكبوتكما في عبارة قوره تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت إتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)[12].
النوع الثالث : فهو المثل الأعلى المطلق 
فإن الله سبحانه وتعالى هو المثل الأعلى المطلق الحق كما في عبارة قوله تعالى: (ولله المثل الأعلى)[13]. وعبارة قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل)[14].
وانت عرفت في أثناء الحديث أن الله تعالى هو الطرف في صيغة العلاقات المعنوية الاجتماعية.
فمن خلال هذا يختلف الله تعالى عن النوع الول والثاني لان المثل المنخفضة والمحدودة كونها طرف موضوعي أصيل قائم في بناء المجتمع، وليست طرفاً مفروضاَ عليه بسبب التقاليد والأعراف أو بسبب التسلط الفرعوني، كان فردي أو عائلي أو حزبي أو طبقي على أزمة المجتمع.
وبالنتيجة، فإن أي مجتمع يتخذ من الله تعالى مثله الأعلى لكي يمتثل به فهو في قمة الاتساق بين الواقع الموضوعي التكويني للمجتمع وبين إرادة الاختيار له.
ويختلف الله تعالى تماماً عن المثل العليا الأخرى وذلك كونه ليس منتزع انتزاع تكراري من واقع اجتماعي قائم، أو إنتزاعاً محدوداً من نظرة مستقبلية نسبية او غيرها.
بالتالي الله سبحانه بمعزل عن الملابسات الاجتماعية الراهنة أو المستقبلية التي تكتنف عادة المثل العليا المنخفضة أو المحدودة، ومن هذا لا يحصل للمثل الأعلى المطلق (أي مصلحة خاصة) في بناء المجتمع المطلوب إقامته.
فالله تعالى ليس إمتداداً للتقاليد أو الماضي، وليس ممثل لمصالح فرد أو فئة أو عائلة، أو طبقة أو حزب، ومعنى هذا أن الله تعالى المثل الأعلى المطلق وأكبر ضمانة للبناء العادل للمجتمع الإنساني، فأفراد هذا المجتمع سيكونون متساوين في الحقوق والواجبات أمام المثل الأعلى المطلق وما يصدر عنه من شريعة.
فلا يختلفون أو يتميزون إلا بقدر تحقق كل فرد من قرب واقتراب من الله بالإيمان، والتقوى، والعمل الصالح فهو القائل عبارة قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[15] كما في بيعة غدير خم. وهذا هو السبب في شمولية الشريعة الإسلامية في جانبها الثابت والمتغير.


[1]- سورة البقرة الاية 170 .
[2]- سورة يونس الاية 78 .
[3]- سورة هود الاية 62 .
[4]- سورة ابراهيم الاية 10 .
[5]- سورة الزخرف الاية 22 .
[6]- سورة القصص الاية 38 .
[7]- سورة غافر الاية 29 .
[8]- سورة المؤمنون الاية 42 و 47 .
[9]- سورة الزمر الاية 17 و 18 .
[10]- سورة النجم الاية 23 .
[11]- سورة النور الاية 39 .
[12]- سورة العنكبوت الاية 41 .
[13]- سورة النحل الاية 90 .
[14]- سورة لقمان الاية 30 .
[15]- سورة المائدة الاية 3 .