ق1إعجاز البيان في سورة القيامة
تلاحظ ان القران والعترة هما حبل الله
الممدود من السماء فمن تمسك بهما نجا ومن تخلف عنهما ضل وان أي أمة أخذت بأحدهما
وتركت الآخر فتراها قد ركبت الجبال وامواج البحر كما في رزية يوم الخميس[1] كما جاء في كتاب الله العزيز سورة
(القيامة) وهي قوله تعالى:-
( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن
نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ
يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ*فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا
وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ
يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ * لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ * كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ *
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا
فَاقِرَةٌ * كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ * وَظَنَّ
أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ * وَلَـٰكِن كَذَّبَ
وَتَوَلَّىٰ * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ * أَوْلَىٰ لَكَ
فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن
يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ﴾.
هي سورة مكية كما في قول ابن عباس
والضحاك وهي أربعون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في البصري والمدنيين[2].
وهي تعالج العقيدة في موضوع البعث
والجزاء، الذي هو أحد أركان الإيمان، وتركِّز بوجه خاص على يوم القيامة وأهواله،
والساعة وشدائدها، وعلى حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من
المصاعب والمتاعب؛ ولهذا سمِّيت: السورة (سورة القيامة).
واما فضل هذه السورة كما عن أبي بن
كعب عن النبي o من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم
القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم
القيامة.
وكذلك عن أبو بصير عن أبي عبد الله A قال من أدمن قراءة لا أقسم وكان يعمل بها
بعثها الله يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة تبشر وتضحك في وجهه حتى يجوز
الصراط و الميزان[3].
تلاحظ انها تبدأ بالتلويح بالقسم في
يوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ، لا ريب فيه.
ثم تذكر طرفًا من ذلك اليوم المهول،
الذي يتحيَّر فيه البصر، ويُخْسَف فيه القمر، ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب
والجزاء.
وتتحدَّث السورة الكريمة عن اهتمام
رسول اللهo بضبط القرآن الكريم، عند تلاوة جبريلA فقد كان يركز في المتابعة ويحرِّك لسانه
الكريم معه[4].
وكذلك تقول ايات السورة انقسام الناس
إلى فريقين وهما: سعداء، وأشقياء. فالسعداء علامتهم وجوههم مضيئة، تتلألأ
بالأنوار، ينظرون إلى الرب تعالى. واما الأشقياء علامتهم وجوههم مظلمة قاتمة،
يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة.
ثم بعدها تتحدَّث السورة عن حالة
المرء عند الاحتضار، من حيث حصول الأهوال والشدائد، وما يلقاه الإنسان من الكرب
والضِّيق ما لم يكن في الحسبان. وبعدها تختم بإثبات الحشر والمعاد من خلال الأدلة
والبراهين العقلية الواضحة الدلالة.
وتلاحظ هذه السورة الكريمة حال حال
غيرها من سور الكتاب الكريم حافلة بأسرار البيان المعجز، الذي أعجز أهل الفصاحة
والبيان, فأول ما تلاحظه في هذه الأسرار البديعة المعجزة هي كما يلي:-
( أ ) – دخول ( لا ) النافية
على الفعل: تلاحظ
دخول لفظة ( لَا ) النافية على لفظة الفعل ( أُقْسِمُ ) في الآية الأولى والثانية
من سورة القيامة كما في قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[5].
والعلماء- قديمًا وحديثًا- قريبين من
قول الاجماع على القول من أن لفظة (لَا) هذه زائدة لغرض توكيد القسم، ولكن ذهب
بعضهم إلى القول من أنها نافية للقسم، وآخرون ذهبوا إلى أنها نافية لكلام ثم
ابتدىء بالقسم، إلى غيرها من الأقوال التي جاءوا بها.
وفيها بعض اللمسات البيانية[6] من سورة (البلد) ولو سأل ما دلالة
لفظة (لا) في القسم. جوابه: لم تأتي في ايات القرآن كلّها عبارة (أقسم بـ).
فجميع القسم في كتاب الله جاء من خلال
استخدام لفظة (لا)؛ كما في عبارة قوله تعالى: (لا أقسم بمواقع النجوم)
وعبارة قوله تعالى:(ولا أقسم بالخنّس) وعبارة قوله تعالى: (فلا
وربّك لا يؤمنون ) وهكذا في جميع ايات القرآن الكريم.
فما هي لفظة ( لا ) : فقد اختلف
النحاة في دلالة لفظة (لا): هل هي كلام عام من عبارة (لا أقسم) عمومًا، وهم كما
يقولون لفظة: (لا) زائدة لغرض توكيد القسم بمعنى لفظة: (أقسم) كما في قولنا عبارة:
(والله لا أفعل)، معناها هي عبارة: (لا أفعل).
فلو قلنا عبارة : (لا والله لا أفعل)،
معنى العبارة: (لا أفعل). تجد انه لا يختلف المعنى، والقسم دلالة واحدة.
ولكن قسم اخر يقولون : هي للنفي. أي
بمعنى: نفي القسم. والغرض من ذلك أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه، فلا داعي هنا
للقسم.
وقسم اخر قال : إنها تنفي لغرض الاهتمام؛ كأن
تقول في عبارة: (لا أوصيك بفلان)، أي بمعنى عبارة: (لا أحتاج لأن أوصيك).
ولكن في السورة عبارة قوله: (لا أقسم
بهذا البلد) فهي تدور حول لفظة (لا) في جميع هذه الأمور، من أنها توكيد للقسم، أي
بمعنى عبارة: (أقسم بهذا البلد) إذن الغرض هو للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية
واهتمام.
فهذا الكلام يحتاج إلى تأمل، لكي
تستطيع فهمه بصورة جيدة؛ وإلا كيف يمكن أن تفهم قولهم في عبارة: (والله لا أفعل،
أي ان معناها: لا أفعل. ولو قلنا في عبارة: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا
يختلف المعنى ولكن القسم دلالة واحدة).
أو كيف يمكنك أن تفهم العبارة في قولهم:
كما بالسورة (لا أقسم بهذا البلد) فتلاحظ ان لفظة (لا) تدور في كل هذه الأمور، على
أنها توكيد للقسم، أي بمعنى في عبارة: (أقسم بهذا البلد). إذن الغرض هو للتوكيد؛
لأن الأمر فيه عناية واهتمام.
وتلاحظ أن هذا فيه خلط واضح فيما بين
نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم. وبين عبارة قوله تعالى: (لا أقسم) وعبارة قوله
تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون).
ويعتبر هذا التعبير هو لون من ألوان
الأساليب في اللغة العربية، وهو ان تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج
إلى قسم لغرض توكيده، لكنك تقول له عبارة: لا داعي أن أحلف لك على هذا.
أو عبارة اخرى وهي: لا أريد أن أحلف.
لأن الأمر على هذه الحال، ونحوه قد أستعمل في الدارجة عندما نقول في عبارة: ما
أحلف لك أن الأمر كذا وكذا.
أو عبارة: ما أحلف لك بالله- لأن
الحلف عظيم- إن الأمر على غير ما تظن، فأنت تخبره بالأمر، وتقول له في عبارة: لا
داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر. أو كما ذهبوا اليه وهو أن القصد من ذلك هو
التأكيد.
ونفس هذا الخلط تلاحظة عند ابن عاشور،
ويدلك على ذلك قوله عند تفسير اية قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ)[7] حينها قال:
و(لا أقسم ) بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة
للتوكيد. وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية
سوء عاقبة الكذب في القسم.
وبمعنى اخر أنه غير محتاج إلى القسم؛
لأن الأمر واضح الثبوت. ثم بعدها كثر هذا الاستعمال، فصار مرادًا تأكيد الخبر،
فساوى القسم، بدليل قوله عقبه: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم).
وتلاحظ من انه بالرغم من ان محتوى
السورة كما هو واضح من اسمها فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم
القيامة إلاّ بعض في الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأمّا الآيات
المرتبطة في يوم القيامة فهي تجتمع[8] في أربعة محاور وهي:
1
ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.
2
ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.
3
ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والإنتقال إلى العالم الآخر (عالم
البرزخ).
4
- الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.
وقال ابن عاشور : قوله في سورة البلد:
و(لا أقسم) صيغة تحقيقِ قَسَم، وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن
يحلف بالمُقْسمِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر
حرف (لا) كالمزيد كما تقدم عند قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم)[9].
فلاحظ عبارة قوله: و( لا أقسم ) أي
بمعنى: أقسم، ولفظة (لا) هي مزيدة للتوكيد.
ثم بعدها لاحظ وتأمل عبارة قوله:
وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية من سوء
عاقبة الكذب في القسم.
وكذلك لاحظ قوله : (وأصلها: أنها امتناع من
القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسمِ به خشية الحنث) وتذكروا أن المقسم-
هنا- هو الله تعالى.
والله جل شأنه عندما يقول: (لَا
أُقْسِمُ بِكَذَا) فهو لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط لاغير، وهو أن الله تعالى ليس
في حاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما كان ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه
حقٌّ، لا ريب فيه؟.
وذلك لأن كونه هو الحقّ فلا يحتاج إلى
يمين لكي يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته؛ مثل البعث والنشور في هذه السورة الكريمة.
وتلاحظ ان الفرق واضح فيما بين أن
نقول عبارة: (أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق) وبين أن نقول عبارة: (لا أقسمُ
بيوم القيامة على أن البعث حق).
فالعبارة الأولى تجعل من البعث أمرًا
مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند ذهن المخاطب، وهذا بخلاف العبارة الثانية.
وحينما تعلم الفرق فيما بين الجملتين
تدرك سبب دخول لفظة (لَا) النافية على فعل القسم في هذه السورة، وكذلك في غيرها من
سور القران، التي يكون فيها ضمير الفعل عائدًا على لفظ الجلالة (الله) جل وعلا،
ليكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة.
فمن هنا يمكنك ان تقول من أن عبارة
قوله: (لَا أُقْسِمُ) في القرآن الكريم، ليس هي بقسم مباشر، ولا هو نفي للقسم أو
نفي لغيره؛ بل يعتبر هو تلويح بالقسم، وعدول عنه لعدم الحاجة إليه.
وتلاحظ هذا التلويح في القسم مع
العدول يكون أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر، وهذا الأسلوب، له تأثير في
تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها تعتبر ثابتة وواضحة. وهو السبب في
البيان بهذا التركيب القرآني، الذي ما زالوا الناس في تفسيره يختلفون.
وتجد ان الفرق بين لفظة ( لَا ) كما
في عبارة قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِكَذَا) وبين لفظة (لا) في عبارة قوله تعالى:
(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ)[10].
فالفرق أن لفظة (لا) في الاية الأولى
موصولة بالقسم، وأن لفظة (لا) الثانية منفصلة عنه، والدليل عليه دخول الواو
بينهما.
وتجد ان الفرق بين نفي القسم، ونفي
الحاجة إلى القسم، فقد أجابوا عنه[11] كما في قولهم فرق بعيد أقصى البعد بين
أن تكون لفظة (لَا) لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى
القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني.
ولاحظ انه من نفي الحاجة إلى القسم
يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام.
وتجد ان السر البياني في هذا الأسلوب
يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- فيما بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى
الانتباه، وما زلنا من خلال سجيتنا اللغوية تؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى
القسم.
فنقول لمن نثق فيه عبارة: لا تقسم. أو
عبارة اخرى وهي: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم
لنا.
وأما القول من أن عبارة ( لا أقسم )
بمعنى لفظة: ( أقسم ) بدليل عبارة قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[12].
فقد أجيب عنه مسبقاَ في دخول لفظة
(لا) النافية على فعل القسم ففيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني
ما يكفيك.
( ب ) – نفي الفعل بـ( لن ) : وهو السبب الاخر من أسباب هذه السورة
الكريمة هو نفي لفظة الفعل (نَجْمَع) بلفظة (لَنْ) وتخيصه بلفظة (العظام) في عبارة
قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)[13].
وحينمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر في
يوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفى بالتلويح به فقط، بعدها عُدِلَ عن ذكر المقسَم
عليه، ولكن ظاهر الكلام كان يقتضي أن يقال عبارة: [لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ- (لَتُبْعَثُنَّ)].
ولكنه تلاحظ انه عُدِلَ عن هذا للعلة
السابقة، ومن ثم قد جيء به ولكن في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، وهو بعد
التنبيه إليه، من خلال هذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر بقوله تعالى:
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)[14].
فقد كانت المشكلة الشعورية عند جميع
المشركين هي صعوبة تصورهم جمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في
الثرى، لإعادة بعث الإنسان على شكل حي.
وتلاحظ انها تعتبر هذه مشكلة لا تزال
عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا.
كما قال الكاشاني[15]u : (أيحسب الأنسان ألن نجمع عظامه) بعد
تفرقها. قيل: نزل في عدي بن ربيعة، سأل رسول اللهo عن أمر القيامة، فأخبره به، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، أو يجمع
الله هذه العظام[16]. (بلى): نجمعها (قادرين على أن نسوي
بنانه) بجمع سلامياته[17] وضم بعضها إلى بعض، كما كانت عندك
بالحياة مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام.
وقوله (بل يريد الأنسان ليفجر أمامه):
لكي يدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان. وقد ذكر القمي قال: يقدم الذنب ويؤخر
التوبة، ويقول: سوف أتوب[18].
وتلاحظ انه تردد ذكرها في القرآن
كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى من باب الحكاية عنهم: (وَكَانُوا
يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
* أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ)[19].
ولكن ايات القرآن الكريم تردُّ عليهم،
كما في قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ *
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)[20] ومثل ذلك قوله تعالى: ( وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)[21].
ومن ثم يأتي الرد من الله تعالى
بقوله: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ)[22] وتجد مثل ذلك قوله تعالى:
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)[23].
فوردت الآية على جهة التوبيخ لهم، في
اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، ولكن ردَّ عليهم تعالى كما في قوله
مؤكدًّا وقوعه: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)[24].
والمعنى قد ذكره الشيخ الطوسيu في التبيان فقال: قال ابن عباس: يجعل بنانه
كالخف والحافر فيتناول المأكول بفيه، ولكننا مننا عليه. وقال قتادة كخف البحير او
حافر الدابة.
ونصب ( قادرين ) على أحد وجهين:
احدهما - على تقدير بلى نجمعها قادرين. والاخر - بلى نقدر قادرين إلا أنه لم يظهر
(نقدر) لدلالة (قادرين) عليه، فاستغني به.
ولكن قد قيل : معناه بلى قادرين على
ان نسوي بنانه لكي نعيده على ما كان عليه خلقا سويا. أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه
من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه؟.
بلى : إننا لقادرون على أن نسوِّيَ
أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار. وقد أعاد
الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:
( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)[25].
ولاحظ الاستفهام في عبارة قوله تعالى:
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في
لفظة (الْإِنْسَانُ) تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.
وأما سبب تخصيص فعل الجمع بالعظام
فلأن العظام هي قالب النفس، لا يستوي الخَلْقُ إلا من خلال استوائها، وأنها أبعد
شيء عن الحياة بعد البلى.
وجمعها بعد ان انبلت لا قدرة لأحد على
اعادتها سوى الله، فهو الذي خلقها أول مرة، سبحانه وتعالى عما يصفون.
وقيل[26]: الذي أحصاه المشرحون من العظام في
البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا، سوى الصغار السَّمسَميَّات، التي أحكمت بها
مفاصل الأصابع، والتي في الحنجرة وقد أخبر النبيo أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً.
فإن كانت المفاصل هي العظام، فقد
اعترف جالينوس وغيره من أن في البدن عظامًا صغارًا، لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم.
وإن كان المراد بالمفاصل المواضع،
التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام.
( ج ) - اختيار لفظ البنان
وتخصيصه بالتسوية: ويعتبر
من أسباب هذه السورة الكريمة هو سبب اختيار لفظ البنان وتخصيصه بالتسوية كما في
قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)[27].
ولفظة ( بَلَى ) حرف جواب، ولها
موضعين: موضع أحدهما: أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها؛ كما في قوله تعالى: (مَا
كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[28]. أي بمعنى: بلى قد عملتم السوء.
وموضع ثانيهما أن تقع جوابًا
لاستفهام، قد دخل عليه نفي حقيقة، لكي يصبح معناها التصديق لما قبلها.
كما قولك في عبارة: (ألم أكن صديقك ؟
ألم أحسن إليك) فتقول: بلى. أي بمعنى: انت كنت صديقي. ومثله عبارة قوله تعالى:
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) وعبارة قوله تعالى: (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا
نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا)[29].
ففي هذا الموضع تعتبر تصديق لما
قبلها، واما في الأول ردُّ لما قبلها، وتكذيب.
وتلاحظ انه يجوز أن يقرن النفي
بالاستفهام مطلقًا؛ سواء حقيقي كان، أو مجازي. فعبارة المجازي كما في قوله تعالى:
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) قوله: (قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا)[30].
ومعنى ذلك بلى أنت ربنا فالاستفهام
هنا ليس على حقيقته؛ بل هو وارد للتقرير. لكنهم اجروا النفي مع التقرير مجرى النفي
المجرد في رده بلفظة( بَلَى).
كا هو قول ابن عباس: (لو قالوا: نعم،
لكفروا). ووجهه أن لفظة (نعم) هي تصديق لما بعد الهمزة؛ نفيًا كان، أو كان
إثباتًا.
بعد ان عرفت المجازي نأتي الى الحقيقي
وهو كما في قوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْوَاهُم) (بَلَى)[31]. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ) (بَلَى قَادِرِينَ)[32].
ومن ثمَّ قالوا التقدير : بلى نجمعها
قادرين؛ وذلك لأن الحسبان؛ إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام، ولفظة (بَلَى)
إثبات فعل النفي، فحينها ينبغي أن يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب.
ولفظة قوله تعالى: (قَادِرِينَ) هي
حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر، وفيه بعد الدلالة على التقييد، وهي تأكيد لمعنى
الجمع؛ لأن الجمع من الأفعال، التي لا بدَّ فيها من القدرة، فإن قُيِّد بالقدرة
البالغة، فقد أُكِّدَ.
ولفظة البنان كما في قوله تعالى:
(عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) يطلق في اللغة، ويراد به: الأصابع، وأطرافها.
وقد قيل : سمِّيت الأصابع بذلك؛ لأن
فيها صلاح الأحوال، التي يمكن للإنسان أن يَبْني بها. وهو كما قال تعالى: (وَاضْرِبُواْ
مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)[33].
أي بمعنى: الأصابع، أو أطرافها؛ وذلك
لأجل أنهم يقاتلون بها؛ فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا من خلال ضرب بنانه. والمراد
بها كما في قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)[34]. أي أطراف الأصابع.
وتعتبر هذه الآية الكريمة هي من أقوى
الأدلة على جمع الأجزاء المتفرقة لهذا المخلوق وهو الإنسان، وكذلك هي أبلغ دليل في
تصوير القدرة الإلهية على ذلك؛ إذ تؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى صورة من
مجرد جمعها.
وهي تسوية البنان، ومن ثم تركيبه في
موضعه كما كان، وكناية عن إعادة التكوين الإنساني من خلال أدق ما فيه، وإكماله من
حيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها؛ بل تُسوَّى تسويةً كاملة، مهما صغُرت
ودقَّت ومن هذا يُعلَم سبب تخصيص لفظ (البنان) بالذكر- هنا- من دون غيره.
واليوم قد أكتشفت العلوم الحديثة هذا
السر؛ فقد تبين من أن البشرية بأجمعها، تجدها قد ميَّز الله العليم القدير فيما
بين جميع أفرادها من خلال ميزة، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب او
الام مع ابنهم.
وتلك الميزة هي اختلاف طبعات البنان،
تلك الخطوط الدقيقة في الأنامل عند كل إنسان. فيثبت عند الحكومات أن أصابع الإنسان
هي التي تحدد شخصيته، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية،
ونشأ عن ذلك علم، سمِّي: (علم البصمات الشخصيَّة).
تلاحظ انه قد أخبر الله تعالى عن نفسه
أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته التي ركبها،
فكيف يستبعد ذلك الجاحد على من له هذه القدرة، وهي إعادته إلى الحياة مرة أخرى.
بالنتيجة معاني كلمات الآية نصٌّ
صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة، حتى أصغر وأدق جزء منها، وهذا دليلٌ على أن بدن
الإنسان يتفرق، ولا ينعدم.
فهكذا تعلم أن قول الله تعالى: ( أَنْ
نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) يدل على انه هناك معنى، لم يكتشف العلم سببه، إلا من بعد
نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة ونيف سنة، حينما عرفوا أن لكل بنان بصمة خاصة
به تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافً واضح فيما بين فرد وآخر.
وقد صدق العزيز الحكيم حينما قال:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ)[35].
[1]- قصة «القلم والدواة» « لمّا حُضر رسول اللهJ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبيJ: هلمّ اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول الله قد
غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم
من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من يقول ما قال
عمر فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا» (الأمثل ج16
ص522). ورفع الخليفة شعار
(سنة النبي) التي رفضها بالامس وعدل شعار (حسبنا كتاب اللّه) الى شعار (حسبنا كتاب
اللّه وسنة نبيه) اي كتاب اللّه كما يفهمه الخليفة عمر , وسنة رسوله التي يرويها
او يمضيها.(تدوين السنة الشيخ علي الكورانيK).
[2]- التبيان في تفسير القرآن لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن
الطوسيu تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي ج10 ص181.
[3]- تفسير مجمع البيان لامين الاسلام أبي على الفضل بن الحسن الطبرسيu طبعة: المجمع العالمي لأهل البيتD ج10 ص169.
[4]- زيتوني : رفاه محمد علي - من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في
سورة القيامة.
[5]- سورة القيامة الاية 1 و 2.
[6]- الدكتور فاضل السامرَّائي : لمسات بيانية في نصوص من التنزيل.
[7]- سورة الواقعة الاية 75.
[8]- تفسير الامثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل الشَيخ نَاصِرمَكارم
الشِيرازيK ج19 ص199.
[9]- سورة الواقعة الاية 75.
[10]- سورة النساء الاية 65.
[11]- هي بنت الشاطيء.
[12]- سورة الواقعة الاية 76.
[13]- سورة القيامة الاية 3.
[14]- سورة القيامة الاية 3.
[15]- التفسير الأصفى - تاليف : الفيض الكاشاني ج2 ص1378.
[16]- تفسير البيضاوي 5: 162.
[17]- السلاميات: هي عظام الأصابع. الصحاح 5: 1951 (سلم).
[18]- الغيبة: 266، ذيل
الحديث: 228، عن المهدي A.
[19]- سورة الواقعة الاية 48 – 47.
[20]- سورة الواقعة الاية 49 – 50.
[21]- سورة يس الاية 78.
[22]- سورة يس الاية 79.
[23]- سورة القيامة الاية 3.
[24]- سورة القيامة الاية 4.
[25]- سورة القيامة الاية 36 – 40.
[26]- هو ابن قيم الجوزية .
[27]- سورة القيامة الاية 4.
[28]- سورة النحل الاية 28.
[29]- سورة الملك الاية 8 و 9.
[30]- سورة الاعراف الاية 172.
[31]- سورة الزخرف الاية 80.
[32]- سورة القيامة الاية 3 و 4.
[33]- سورة الانفال الاية 12.
[34]- سورة القيامة الاية 4.
[35]- سورة فصلت الاية 53.