الأربعاء، 12 أبريل 2017

صور تمثيل الظلمات والنور من الإعجاز البياني بالقران الكريم



صور تمثيل الظلمات والنور من الإعجاز البياني
صور تمثيل الظلمات : هو كما في عبارة قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)[1].
وهو نموذج آخر من تصور أعمال الذين كفروا بالدنيا من حيث خلوها عن نور الحق من خلال صورة ظلمات متراكبة من لجج البحر والأمواج والسحاب، من بعد أن صُوِّرت في الأولى بصورة السراب الخادع.
وقد قيل في الفرق بينهما : من أن النموذج الأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا التصور فيما هم عليه في حال الدنيا.
كما قال أبو حيان في البحر: وبدأ بالتشبيه الأول؛ لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، والعذاب السرمدي.
ثم أتبعه بهذا التمثيل، الذي نبَّهَهم على ما هي أعمالهم عليه؛ لعلهم يرجعون إلى الإيمان، ويفكرون في نور الله، الذي جاء به الرسولn.
وظاهر التشبيه في التمثيل هي لأعمالهم. وقد ادعى الجرجاني من أن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، واما الاية الثانية في ذكر كفرهم. ونسق الكفر على أعمالهم؛ وذلك لأن الكفر من أعمالهم كذلك.
ودليل ذلك عبارة قوله تعالى: ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ)[2] أي بمعنى: يخرجهم من الكفر إلى الإيمان.
كما قال أبو علي الفارسي: التقدير: أو كذي ظلمات. قال: ودل على هذا المضاف عبارة قوله تعالى: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف.
فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، لا للأعمال. وكلاهما خلاف الظاهر.
وأما لفظة عبارة (أَوْ) فقد قيل: هي للتخيير؛ فإن أعمالهم لكونها لاغية، فلا منفعة لها مثل السراب، وذلك كونها خالية عن نور الحق مثل الظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
وكما قيل: هي للتنويع؛ فإن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب، وإن كانت قبيحة فهي كالظلمات.
وكما قيل : هي للتقسيم باعتبار وقتين؛ فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة.
وكذلك قيل : هي للإباحة، على تقدير : إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل له بالظلمات.
وقد اختار الكرماني كون لفظة كلمة (أَوْ) هي للتخيير، على تقدير: شبه أعمال الكفار من أيهما شئت.
وقد اختار أبو السعود كونها للتنويع، على تقدير: إِثْرَ ما مثِّلت أعمالهم، التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد، ويفتخرون بها في كل واد وناد، بما جاء من حال السراب مع زيادة الحساب والعقاب، مثِّلت أعمالهم القبيحة، التي ليس بها شائبة خيرية، يغتر بها المغترين، بظلمات كائنة في بحر لجي.
وقد اختار ابن عاشور من كونها للتخيير؛ لأن شأن لفظة (أَوْ)- هذا قوله- إذا وردت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع من أن يشبه بما قبلها، وبما بعدها. وقد اختار طنطاوي كونها للتقسيم.
وتلاحظ ان لفظة (أَوْ) [3] هي موضوعة لأحد الشيئين المذكورين معها. فدل وجودها عاطفة فيما بين التمثيل على أن أعمال الذين كفروا مثل السراب، أو مثل الظلمات.
فهي لا تخلو من أحد المثلين وهما: أما ما ذكروه من دلالتها على (الإباحة، أو التخيير، أو التنويع، أو التقسيم)، فذلك مستفاد من السياق، لا من لفظة (أَوْ) نفسها.
ومما سبق الظاهر أنه عطِف بلفظة (أَوْ) هنا؛ وذلك لأنه قُصِد التنويع. ويفهم من السياق في المثلين أن التنويع وليس من تنوع الأعمال؛ بل هو لغرض تنوع الأحوال الداعية إلى تشبيهها بالسراب الكاذب، وأخرى من خلال الظلمات الكثيفة.
كما حكى ذلك الشوكاني في مصنف (فتح القدير) عن الزجاج قوله: أعلَمَ الله سبحانه أن أعمال الكفار، إن مثلت بما يُوجَد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يُرَى، فهي كهذه الظلمات التي وصف.
ولكن قال الفيض الكاشاني u أو كظلمات (أو) للتخيير، فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع.
فأعمالهم إن كانت حسنة فهي مثل السراب، وإن كانت قبيحة فهي مثل الظلمات. وعبارة (في بحر لجي): معناه عميق منسوب إلى اللج، وهو معظم الماء يغشاه موج من فوقه موج.
أي بمعنى : انه امواج مترادفة متراكمة يتصف ان (من فوقه سحاب) وقد غطى النجوم وهو مما حجب الانوار  كما في عبارة قوله: (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده) معناه من كان هناك لم يكد يراها فضلا أن يراها.
فمن لم يجعل الله له نورا: لم يقدر له تلك الهداية، ولم يوفقه لأسباب نيلها فما له من نور وهذا على خلاف الموفق الذي له نور على نور, كما جاء في تأويلهم عبارة قوله: (أو كظلمات):
 واما الأول والثاني، في عبارة قوله: (يغشيه موج): والثالث، داخل في عبارة قوله: (من فوقه موج): هما بعض المنافقين.
واما عبارة قوله تعالى: (ظلمات بعضها فوق بعض): فهما معاوية ويزيد وفتن بني أمية، وعبارة قوله تعالى: (إذا أخرج يده): في ظلمة فتنتهم عبارة قوله: (لم يكد يراها)، وعبارة قوله: (ومن لم يجعل الله له نورا). معناه إماما من ولد السيدة فاطمةB.
وعبارة قوله تعالى: (فما له من نور): من إمام يوم القيامة يمشي بنوره، كما في عبارة قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)[4] قال: عبارة إنما المؤمنون يوم القيامة كما في عبارة قوله تعالى: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم)[5] حتى ينزلوا منازلهم من الجنان[6].
وعبارة : ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات: واقفات[7] في الجو، مصطفات الأجنحة في الهواء كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما، يفعلون.
وكذلك ورد في عبارة: (ما من طير يصاد في بر ولا بحر[8] ولا يصاد شئ من الوحش، إلا بتضييعه التسبيح) [9]. وهو معنى[10] تسبيح الحيوان والجماد. ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير[11].
ولاحظ انه تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية، أو جاورها. وهو كما في هذا التشبيه قد تجلى سطح الصحراء العربية المنبسط، فتجد الخداع الوهمي للسراب الذي لا يدركه إلا أبناء البيئة الصحراوية.
وغني عن البيان لكي نقول: من إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء، واختفائه على عمق معين في داخل الماء.
فعليه فما كان من أن ننسب هذا القول إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية قد صاغتها بيئة قاريَّة؛ مثل التي عاش بها محمد بن عبداللهn وبين يديك إعجاز جاء به القرآن الكريم إلى جانب إعجازاته الكثيرة.
واما عبارة قوله تعالى : ( كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ).
وعبارة قوله: (بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) هو منسوب إلى اللجُّة؛ والذي لا يكاد يدرك قعره. واما لُجَّة البحر: فهي تردُّد أمواجه. كما في عبارة قوله تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً)[12] وهنا الجمع: لجج. كما تقول العرب: إلتجَّ البحر . أي بمعنى: تلاطمت أمواجه.
وعبارة قوله تعالى : ( يَغْشَاهُ مَوْجٌ ). أي بمعنى: يستره ويغطيه. في عبارة قوله تعالى: (وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[13] أي بمعنى: علاهم موج كالجبال.
ومثله عبارة قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)[14] وكلمة الموج في البحر هي ما يعلو من غوارب الماء.
وعبارة قوله تعالى : ( مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ) أي بمعنى: من فوق ذلك الموج، الذي يغشى البحر اللجي موج آخر، وتجد من فوق هذا الموج الآخر سحاب.
ولفظة (السحاب) هي الغيوم، سواءاً كان فيه ماء، أو لم يكن. ولهذا يقال: سحاب جَهَامٌ. أي بمعنى: لا ما فيه. وقد يقال عكسه: سحاب ثِقال. كما في عبارة قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)[15].
أي بمعنى : هو المملوء او المحمل بالمطر. وقد يذكَّر لفظه، ويراد به الظلُّ او الظلمة؛ كما بهذه الآية في عبارة قوله تعالى: (مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ).
وتلاحظ انه قد قرأ جمهور العامة السبعة: لفظة كلمة (سَحَابٌ) بالرفع والتنوين، ولفظة كلمة (ظُلُمَاتٌ) بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ.
وقد قرأ ابن كثير تلميذ بن تيمية في رواية قنبل: لفظة كلمة (سَحَابٌ) بالرفع والتنوين، ولفظة كلمة (ظُلُمَاتٍ) بالخفض على البدل من لفظة (ظُلُمَاتٍ) الأولى.
وتجد انه قرأ ابن محيصن والبزي: عبارة (سَحَابُ ظُلُمَاتٍ) من خلال إضافة سحاب إلى ظلمات. ووجه الإضافة هي أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.
وهو ما قاله الطبرسي u من قرأ « سحاب ظلمات » فرفع ظلمات كان خبر مبتدإ محذوف تقديره هذه ظلمات بعضها فوق بعض.
ومن قرأ سحاب ظلمات جاز أن يكون تكريرا وبدلا من ظلمات الأولى ومن قرأ سحاب ظلمات بإضافة سحاب إلى الظلمات.
فالظلمات هي الظلمات التي تقدم ذكرها فأضاف السحاب إلى الظلمات لاستقلال السحاب وارتفاعه في وقت كون هذه الظلمات كما تقول سحاب رحمة وسحاب مطر إذا ارتفع في الوقت الذي يكون فيه الرحمة والمطر[16].
وتلاحظ انه بالرغم من سرعة الضوء الفائقة فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر ويبقى هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسارات والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى بالتمام.
فتلاحظ ان الله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي كما في عبارة قوله تعالى: (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ).
ثم بعدها يقول سبحانه في عبارة قوله تعالى: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) وبعبارة اخرى كأنه يقول لنا: ان هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز.
فمن المتعارف لدى الجميع من أن لفظ كلمة (ظُلُمَاتٌ) هي من جموع القلة. وجمع القلة هو من ثلاثة إلى عشرة.
فتلاحظ أنت عندما تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات من ثم إلى عشر ظلمات. وهذه الظلمات التي تحدثت عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: تجد سبعة منها للألوان، وثلاثة منها للحواجز وهي مثل: (الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم بعدها عقب سبحانه على ذلك في عبارة قوله تعالى: ( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) وهي من باب المبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها ابدا.
وفي مقامنا هنا جاز إضمار الفاعل من دون أن يتقدم ذكره، ذلك لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وتجد ان تقدير ضمير يرجع إلى لفظة كلمة (ظلمات). واحتيج إليه؛ وذلك لأن الجملة في موضع الصفة للفظة (ظلمات)، ولا بد لها من رابط.
وقد قيل: ان ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي بمعنى: انه إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.
وقد اختلف اهل اللغة والتفاسير في عبارة قوله تعالى: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) هل معنى مقتضاه من أن هذا الفرد المقدر في هذه الأحوال، حينما أخرج يده من كمِّه، لم يرها البتة. أو لا يمكن ان رآها بعد عسر وشدة؟.
قال الشيخ الطبرسي u اختلف في معناه فقيل لا يراها ولا يقارب رؤيتها فهو نفي للرؤية وعن مقاربة الرؤية لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها عن الحسن وأكثر المفسرين ويدل عليه قول ذي الرمة.
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة[17] الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أَمَنْزِلَتَيْ مَيَ سلام عليكم ... على النَّأْي والنَّائِي يَوَدُّ وينصَح
حتى بلغ قوله فيها :
إذا غير النأي المحبين لم يكد * رسيس الهوى من حب مية يبرح
وقال آخر (ما كدت أعرف إلا بعد إنكاري) وقال الفراء كاد صلة والمعنى أنه لم يرها.
وقيل لا يراها إلا بعد جهد و مشقة رؤية تخيل لصورتها لأن حكم كاد إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن تكون نافية وإذا دخلها دلت على أن يكون الأمر وقع بعد بطء[18].
فقالت فرقة : لم يرها البتة؛ وذلك أن ( كاد ) معناها: قارب؛ فكأنه قال: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ) لم يقارب رؤيتها. وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة.
وقالت فرقة : بل رآها بعد عسر وشدة، وكاد أن لا يراها. ووجه ذلك: أن لفظة (كاد) إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها. وإذا لم يصحبها، انتفى ذلك الفعل.
وهذا القول يكون لازمًا، إذا كان حرف النفي بعد لفظة (كاد) داخلاً على الفعل، الذي بعدها. كما تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي. فإذا قلت: كاد زيد أن لا يقوم، فهنا القيام واجب واقع.
وتقول عبارة : ( كاد النعام يطير ) فهذا يقتضي نفي الطيران عنه. فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له.
وأما إذا كان حرف النفي مع لفظة ( كاد ) هنا الأمر محتمل، مرة يوجب الفعل، ومرة اخرى ينفيه. وهو كما تقول: المريض لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، تضمن نفي السكون.
ومثلهِ تقول عبارة : رجل متكلم لا يكاد يسكن. فهنا كلام صحيح، قد تضمن إيجاب السكون من بعد جهد. ويشهد لذلك في عبارة قوله تعالى: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)[19] أي بمعنى: لا يكاد يظهر كلامه للثغته بالجمرة. التي قد تناولها في صغره. كما شعر تأبط شرًّا حينما انشد فقال:-
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيِبًا * وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
ومعنى ما يقول الشاعر : اني قد رجعت إلى قبيلتي وقومي فَهْمٍ، وت وقعت اني لا أرجع لعشيرتي؛ وذلك لأنني شافهت التلَفَ.
وتلاحظ انه مما يحمل على الاحتمالين عبارة قوله تعالى: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)[20] أي بمعنى: وما كادوا يذبحون. فتجد انه قد كنَّى عن الذبح من خلال الفعل؛ وذلك لأن الفعل يكنَى به عن كل فعل. واما النفي مع لفظة كلمة (كاد) قد تضمن وجوب الذبح من بعد الجهد، وتضمن نفيه البتة.
وتجد ان بيان ذلك من الجملة: في عبارة قوله تعالى: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) وقد احتملت الحال والاستئناف. ولكن الأول أظهر وهو إشارة إلى أن مماطلتهم قد قارنت أول أزمنة الذبح.
وبناء على الاستئناف يصح اختلاف الزمنين: وهي احدهما زمان نفي المقاربة، ووالاخر زمان الذبح؛ فالمعنى منه هو: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك. أي بمعنى: وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته.
وبمعنى اخر : أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. ولكن قيل: وما السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون فهو في عبارة احدهما إمَّا غلاء ثمنها، والاخرى إمَّا خوف فضيحة القاتل، والثالثة إمَّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياءDعلى ما عهد منهم.
وتلاحظ مثلهِ عبارة قوله تعالى في هذه الآية: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فإنه هنا نفيٌ مع لفظة كلمة (يَكَدْ) يتضمن- في أحد التأويلين- هو نفي الرؤية.
وكذلك قد تضمن بالاحتمال الآخر وجوب الرؤية بعد عسر وشدة؛ فإن الكائن في ظلمات البحر اللجي، التي ما زال فيها شيء من ضوء، لا يرى يده إلا بمشقة.
ولكن حينما يغوص للأعماق، التي تغرق في ساحة الظلام الشديد، ومن ثم مد يده أمام عينيه، فإنه لا يراها أبداً. ومن هذا، ونحوه قال سيبويه: إن أفعال المقاربة لها نحو آخر.
أي بمعنى: من أنها دقيقة التصرف. وبقي قول ابن الأنباري وغيره ممن اعتقد زيادة لفظة كلمة (يَكَدْ) وأن المعنى منها: لم يرها، فهو ليس بصحيح.
ثم بعدها ختم الله تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بهذه الحقيقة المعنوية الكبرى، فيقول سبحانه كما في عبارة قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).
 صورة النور والآراء فيه: جاء انه قد ذكر الشيخ الطوسي[21] u في التبيان قال : روي عن ابن مسعود وغيره أن ذلك في قوم كانوا اظهروا الاسلام ثم أظهروا النفاق فكان النور الايمان والظلمة نفاقهم.
والسؤال الذي طرح هنا : من غير الله وهو الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة, هذا النور الذاتي؟.
ومن هنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني البياني المعجز, كما يتضح بعده المعنوي الرفيع في عبارة قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).
فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه بنوره، الذي أضاء هذا الوجود كله، ويهديه إليه، فهو باق في ظملة الجهل والغيِّ والضلال، فلا يهتدي أبدًا. وكيف يهتدي، وهو لا يملك أي شيئ من النور، الذي هو سبب الهداية.
ولغرض تأكيد هذا المعنى جيء بعد لفظة (مَا) النافية لفظة (مِن) التي يدل وجودها على استغراق النفي وشموله لكل جزء من أجزاء هذا النور.
فلو قيل: في عبارة قوله: ( فَمَا لَهُ نُّورٍ ) من دون لفظة (مِن) ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودها.
وقد ذكر الشيخ مكارم الشيرازي[22]K حينما ذكر: تحدث الفلاسفة والمفسّرون والعرفاء الاسلاميون كثيراً عن مقاصد الآيات فيرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «النّور» تعني هنا «الهادي».
وقد ذهب البعض الآخر من أنّ المراد هو لفظة كلمة «المنير». وقد فسّرها آخرين بعبارة قوله تعالى: «زينة السماوات والأرض».
فكلّ هذه المعاني صحيحة، ولكنَّ مفهوم هذه الآية أوسع بكثير ممّا ذُكر، فكتاب الله المجيد والأحاديث قد فسّرت النور بأشياء عدّة منها كما يلي:
1 ـ عبارة قوله: «القرآن المجيد»: ـ ذكرت الآية الخامسة عشر من سورة المائدة عبارة قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين).
ولكن ورد في الآية مائة وسبعة وخمسون من سورة الأعراف في عبارة قوله تعالى: (واتبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون).
2 ـ لفظة كلمة «الإيمان» قد ذكرت الآية مائتان وسبعة وخمسين من سورة البقرة في عبارة قوله تعالى: (والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور).
3 ـ عبارة : «الهداية الإلهية» مثلما ورد في الآية مائة واثنان وعشرون من سورة الأنعام في قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
4 ـ عبارة «الدين الإسلامي» كما تقرأ في الآية الثانية والثلاثين من سورة التوبة عبارة قوله تعالى: (ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).
5 ـ تلاحظ انه نقرأ عن رسول اللهn في الآية السادسة والاربعين من سورة الأحزاب في عبارة قوله تعالى: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).
6 ـ عن الأئمة الأطهارD: كما ورد في الزيارة الجامعة لهم: قوله: «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقّين». ومثلهِ في نفس هذه الزيارة قوله: «وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار».
7 ـ تلاحظ «العلم والمعرفة» من حيث عُرِّف بالنور كما ورد في الحديث المشهور وهو: «العلم نور يقدفه الله في قلب من يشاء» والله العالم.

[1]- سورة النور الاية 39.
[2]- سورة البقرة الاية 257.
[3]- هو عند صناع التحقيق من اهل اللغة .
[4]- سورة الحديد الاية (57): 12.
[5]- سورة التحريم الاية (66): 8.
[6]- القمي 2: 106، عن أبي عبد الله A,
[7]- في (ألف): (واقعات).
[8]-  في المصدر: (في البر ولا في البحر).
[9]-   القمي 2: 107، عن أبي عبد الله A.
[10]-  ذيل الاية: 44 من سورة الأسراء، وذيل الايات: 48 إلى 50 من سورة النحل.
[11]- التفسير الاصفى للفيض الكاشاني u ج2 ص 852.
[12]- سورة النمل الاية 44.
[13]- سورة لقمان الاية 32.
[14]- سورة طه الاية 78.
[15]- سورة الرعد الاية 12.
[16]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي u ج7 ص228.
[17]- ديوان شعر ذي الرمة : 90 .
[18]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي u ج7 ص229.
[19]- سورة الزخرف الاية 52.
[20]- سورة البقرة الاية 71.
[21]- كتاب التبيان في تفسير القران للشيخ الطوسي u ج1 ص87.
[22]- كتاب تفسير الامثل للشيخ مكارم الشيرازي K ج11 ص 102 – 106.