التأويل والتفسير من جميع
الجوانب
التأويل والتفسير: ذكر في تفسير الميزان الجزء الاول من
أنه يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل
على ما نزل قرآنا ، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ.
واما في تفسير نور الثقلين الجزء
الثالث ذكر قوله تعالى: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون): في تفسير سورة
يوسفA كما جاء عن القطان ووكيع بن الجراح واسمعيل
السرى وسفيان الثورى انه قال الحارث: سألت أمير المؤمنينA عن هذه؟ قالA: والله انا لنحن أهل الذكر، نحن اهل العلم،
نحن معدن التأويل والتنزيل.
ومثلهِ جاء في تفسير الصافي الجزء
الاول قالH: (عن الصادقA يعني من ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس
لينتابوا إليهم ويعودوا. أقول: هذا تأويل وذاك تفسير وشاهد التأويل قوله في سورة
إبراهيمA).
وبمعنى آخر ان التأويل[1] في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشيء وعلى
هذا فإنّ كل عمل أو قول يصل إِلى هدفه النهائي نقول عنه:
إِن تأويله قد حان وقته، ولهذا يطلق
على بيان الهدف الأصلي من إِقدام معين، أو التّفسير الواقعي لكلمة ما، أو تفسير
وإِعطاء نتيجة الرؤيا، أو تحقق فرضية في ارض الواقع، اسم التأويل.
ثمّ يضيف القرآن مبيناً أن هذا المنهج
الزائف لاينحصر بمشركي عصر الجاهلية، بل إِنّ الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضاً
بهذه المسألة، فإِنّهم كانوا يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع،
أو انتظار تحققه: (كذلك كذب الذين من قبلهم).
وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث
إِلى فئتين عظيمتين من المشركين، فتقول: إِنّ هؤلاء لايبقون جميعاً على هذا الحال،
بل إِنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في
النهاية. في حين أن الفئة الأُخرى ستبقى في عنادها وإِصرارها وجهلها، وسوف لا تؤمن
أبداً: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به).
ومن الواضح أنّ أفراد الفئة الثّانية
فاسدون ومفسدون، ولذلك قالت الآية في النهاية: (وربّك أعلم بالمفسدين) وهي إِشارة
إِلى أن الذين لا يذعنون للحق، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع، ولهم دور مهم في
إِفساده.
الف : التطابق بين (التأويل) و(التفسير):
ان
لفظة التأويل هي كلمة ظهرت إلى صف لفظ كلمة التفسير في البحوث القرآنية عند
المفسرين, واعتبرت من قبلهم (المفسرين) متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير من
خلال المعنى.
فالكلمتين (التاويل - التفسير) معاً
تدلان على بيان معنى الالفاظ والكشف عنها كما ذكر صاحب القاموس قال: (أول الكلام
تأويلاً: دبره وقدره وفسره)[2].
وعند الوقوف على المعجمات العربية
تلاحظ أن (التفسير) الذي هو على وزن (تفعيل) اما مأخوذ من (فسر) أو مشتق من (سفر)
وبهذا فنحن أمام رأيين وتفصيلهما كما يلي:
الرأي الأول : الدلالة
المعجمية : وهي
الدلالة المعجمية لـ(التفسير) تحت مادة (فسر) ويتفرع هذا الرأي الى أقول ثلاثة
وهي:
قول الخليل (ت175هـ) كما يلي: (التفسير وهو بيان
وتفصيل للكتاب, وفسره فسرا, وفسره تفسيرا) فالتفسير عنده من (فسر) وتابعه في هذا
القول العلامة أبن منظور (ت711هـ).
وعلى هذا القول يكون (فسر) مصدرا
ومعناه: البيان وكشف المعنى , والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل, وأما الفعل
منه اما من باب (ضرب) فنقول (فسر الشيء يفسره) , أو من باب (نصر) , فنقول (فسر
الشيء يفسره), وهما وردا بنفس المعنى.
واما قول أبن الانباري, وهو كما يلي: (قول
العرب: فسرت الدابة وفسرتها) وهذا الكلام يؤول الى الكشف ايضا, ألا أن هذا الكشف
حسي أخذ الى المعنى المعنوي.
ومثلهِ قول الزركشي (ت794هـ) الذي يرى
أن أصله في اللغة من التفسره, وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء فكما أن
الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض.
فكذلك المفسر, يكشف عن شأن الاية
وقصدها وقصصها ومعناها, والسبب الذي أنزلت فيه, وكأنه تسمية بالمصدر, لان المصدر
(فعل) جاء أيضا على (تفعله ) كما في جرب تجربة.
ووافقه على ذلك السيوطي (ت911هـ) في
احد الأقوال التي نقلها.
الرأي الثاني : (التفسير) مقلوب
الجذر (سفر) الكشف: يقول هذا الرأي على إن (التفسير) مقلوب الجذر عن (سفر) ومعناه
أيضا الكشف , وهو على وزن (تفعيل). كما قال الزركشي:
يقال: سفرت المرأة سفورا, إذا ألقت
خمارها عن وجهها, وهي سافرة, وأسفر الصبح: أضاء, وسافر فلان, وإنما بنوه على
التفعيل, لأنه للتكثير, كما في قوله تعالى: (يذبحون أبنائكم) وقوله تعالى: (غلقت
الأبواب).
فكأنه يتبع سورة بعد سورة بعد سورة,
وآية بعد أخرى والسفر: كشط الشيء عن الشيء كما تسفر الريح الغيم عن وجه السماء
فتسفر.
وقد وضع الراغب الأصفهاني (ت502هـ)
مقارنة سليمة بين (سفر) و(فسر) فقال: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما,
لكن جعل (الفسر) لإظهار المعنى المعقول, ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسره, وسمي
بها قارورة الماء , وجعل (السفر) لغرض إبراز الأعيان للإبصار, فقيل: سفرت المرأة
عن وجهها وأسفر الصبح.
ولكن أمين الخولي فرأى صحة رأي
الراغب, وأكد أن المادتين تلتقيان في معنى الكشف ثم انه يرى أن (السفر) هو الكشف
المادي والظاهري, و(الفسر) هو الكشف المعنوي الباطني, ذلك إن هذا القلب مستعمل
ومطرد في اللغة والاشتقاق.
فقلب اللفظ من كلمة (سفر) إلى كلمة
(فسر) بتقديم الفاء على السين شائع, فهو كما في (جذب) و(جبذ), والنتيجة أن اللفظة
سواء كان على سلامته, أو كان مقلوبا فدلالة المعنى فيه واحدة في اللغة, وتعني كشف
المغلق وتيسير البيان, مع إظهار من الخفي إلى الجلي.
وأما المعنى الاصطلاحي للتفسير فقد
تباينت آراء العلماء فيه, فيتسع عند بعضهم فيجعله متناول لكي يدخل كل علوم القرآن,
ويضيق عند بعض آخر على الدلالة الموضوعة لألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها أفرادا
وتركيبا.
ولكن هناك بعض آخر يعود به الى جملة
ما في القرآن من مراد الله تعالى ويرجع
هذا الاختلاف لتعدد الاتجاهات, وفهم كل المضمون القرآني حسب تصوره وجعله وهذه الآراء
هي كما يلي:-
ما قال به الشيخ الطوسيH (ت460هـ), وثم تابعه على ذلك الرأي الزركشي,
وفصل هذا الرأي السيوطي (ت911هـ) ويتلخص رأيهم في التفسير هو:
حمله على آداب المفسر وشروطه في
التفسير وسعة معارفه وإدراكه على حدود الاصطلاح, بل تجاوز إلى مصادر التفسير في اللغة
والنحو, وجعل التفسير شامل لكثير من علوم القرآن والأحكام والشريعة.
فهم يتكلمون عن التفسير ويريدون
لوازمه من الإحاطة والتخصص ومعرفة مجموعة من العلوم التي يعرف بها التفسير وليست
بتفسير.
كما ذهب إليه أبو حيان الاندلسي (ت745هـ) وتابعه
بعض المفسرين من أهل اللغة, وملخص المفهوم عنده أن التفسير يتعلق بالعلوم اللغوية
التي يتوصل إليها في التفسير.
فأشار إلى علم القراءات, وعلم النحو,
والتصريف, وعلم البلاغة بأقسامها الثلاثة وحالة التركيب في الحقيقة والمجاز, ثم
بعدها تابع في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول.
هو ما ذهب إليه الشيخ الطبرسي
والفناري وتابعهم من المتأخرين (محمد عبد العظيم الزرقاني), وهذا يكون أقرب إلى
طبيعة الدلالة الاصطلاحية للتفسير فتلاحظ فيه تحديد لمفهوم المصطلح العلمي للتفسير
وحصر إرادته الفنية عليه, وتقييده بقدرة الطاقة البشرية, كما قال الطبرسي (التفسير
كشف المراد عن اللفظ المشكل).
وعند مقارنة الآراء تظهر الحصيلة العلمية واحدة في التفسير, (وهي بيان مراد
الله تعالى في كتابه الكريم), وهنا يلتقي المعنى الاصطلاحي للتفسير بالمعنى
اللغوي, وهو إرادة الكشف والبيان.
وأخيرا, يعتبر التفسير هو الكشف عن
الإبهام في الجمل وكلمات القرآن وتوضيح مقاصدها وأهدافها, وبصورة أخرى:
إن فعالية كيفية الكشف ومن ثم استخراج
معاني ومقاصد آيات القرآن الكريم هو ما يطلق عليه منهجية التفسير, أو ان المقصود
من التفسير هو تبين المراد ألاستعمالي لآيات القرآن, وتوضيح المراد الجدي على أساس
قواعد اللغة والأصول العقلانية للمحاورة.
وبعبارة ثانية ان المفسرين الذين
أقتربوا على التوافق فيما بين الكلمتين (التفسير – التاويل) بشكل عام تجدهم
اختلفوا في تحديد ما هو مدى التطابق فيما بينهما ومما سبق نأتي ببعض الاتجاهات فيه
وهي:-
اتجاه عام : وهو عند قدماء المفسرين ويميل
للقول بالترادف فيما بينهما. اذاً عرفنا لدى القدماء كل تفسير تأويل والعكس صحيح
فاصبحت النسبة بينهم هي التساوي.
كما قال مجاهد : ( إن العلماء يعلمون
تأويله ) وكذلك قول ابن جرير الطبري في تفسيره (القول في تأويل قوله كذا... واختلف
أهل التأويل في الآية..).
والاخر
: اتجاه عام عند من تأخر عن القدماء من المفسرين الذي يميلون بالقول من أن
التفسير مخالف للتأويل في بعض حدودهما.
وهو أما في طبيعة المجال المفسر
والمؤول أو لا بنوع الحكم الذي أصدره المفسر والمؤول وفي طبيعة الدليل الذي أعتمد
عليه ذلك التفسير والتأويل وهنا تجد العديد من المذاهب ولكن نذكر ثلاثة فقط منها:-
منها : التمييز فيما بين التفسير والتأويل
من خلال طبيعة مجال المفسر ويقوم هذا الرأي على أساس أن التفسير مخالف
للتأويل من جهة العموم والخصوص.
فالتأويل تلاحظه يصدق بالنسبة لكل
كلام له معنى ظاهر يحمل على غير ذلك المعنى فيكون هذا الحمل تأويل. وتجد ان
التفسير أعم منه لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقاً أعم من أن يكون هذا المدلول على
خلاف المعنى الظاهر أولاً.
منها : التمييز فيما بين التفسير والتأويل
من خلال نوع الحكم وهذا الرأي يقوم على أساس أن التفسير والتأويل متباينين
لأن التفسير هو معناه (القطع من أن مراد اللّه هو كذا).
ولكن أما التأويل هو (ترجيح أحد
المحتملات من دون قطع) ومعنى ذلك أن المفسر (التفسير) أحكامه قطعية والمؤول
(التاويل) أحكامه ترجيحية.
منها : التمييز فيما بين التفسير والتأويل
من خلال طبيعة الدليل: وهذا الرأي يقوم على أساس القول من أن التفسير هو
(بيان مدلول اللفظ اعتماداً على دليل شرعي). ولكن التأويل هو (بيان اللفظ اعتماداً
على دليل عقلي).
فمن هذه الاراء الثلاثة نبحث في تعيين
ما هو مدلول كلمة (التأويل) ثم المقارنة بينها وبين كلمة (التفسير) لكي تتسع لك
الحقيقة من خلال احتواء وقبول جميع هذه الوجوه حينما يكون بحث اصطلاحي يستهدف لك
تحديد معنى مصطلحي لكلمة التأويل في علم التفسير.
وذلك لأن جميع تلك المعاني هي داخلة
ضمن نطاق حاجة المفسر فيمكنه من أن يصطلح على التعبير عن أي واحد منهم من خلال
كلمة التأويل لغرض الاشارة إلى مجال خاص أو درجة معينة من الدليل, ولا تلحظ أي حرج عليه في ذلك.
ولكن الخطر يكمن في اتخاذ المعنى
المصطلحي كمعنى وحيد لللفظ، وفهم كلمة (التأويل) على أساسه إذا جاءت في (النص
الشرعي)[3].
فإن لاحظت لفظة كلمة (التأويل) وموارد
استعمالها في القرآن تجد لها معنى آخرى غير متفقة او متماشية مع ذلك المعنى
الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميزها عنه إلا فقط بالحدود والتفصيلات.
ولغرض فهم لفظ كلمة (تأويل) عليك ان
تتناول معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم إضافة إلى معناها الاصطلاحي.
وتلاحظ انه قد ذكرت لفظة كلمة (تأويل)
في سبع سور من القرآن الكريم الاولى سورة آل عمران كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ
الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء
تَأْوِيلِهِ﴾[4].
والثانية : في سورة النساء كما في
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[5]
والثالثة : في سورة الأعراف كما في
قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى
وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ
يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ
رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾[6].
والرابعة : سورة في يونس كما في قوله
تعالى : ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ﴾[7].
والخامسة : في سورة يوسف كما في قوله
تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ﴾[8].
والسادسة : وهي الاخيرة سورتي الإسراء
والكهف إذ وردت فيها كلمة التأويل على هذا المنوال كذلك.
فمن خلال دراسة الآيات تعلم أن لفظة
كلمة (تأويل) لم تأتي فيها بمعنى التفسير وبيان مدلول الالفاظ فلا يبدو إمكانية
ورودها من خلال هذا المعنى إلا بواسطة الآية الأولى فقط لأن التأويل في الآية
الأولى قد أضيف للآيات المتشابهة.
ولهذا تلاحظ الكثير من مفسري الآية
ذهب الى القول من أن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها وحينئذ تدل
الآية على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة.
بالنتيجة أن قسم من ايات القرآن قد
أستعصى فهمه ولا يعلمه إلا اللّه تعالى والراسخون في العلم وهم الائمة الاطهار
(الاثني عشر خليفة)D وأما ما متاح لنا نحن الناس العاديين لغرض
فهمه وتفسيره ومعرفة معناه من القران فهو الآيات المحكمة فقط.
وموقف أولئك المفسرين من هذه الآية
وحملهم للفظة كلمة (تأويل) هي ضرب من اضراب التفسير كنتيجة لانسياقهم مع المعنى
الاصطلاحي لهذه الكلمة.
فيجب عليك أن تعرف قبل كل شيء هل أن
المعنى الاصطلاحي كان موجود في عصر القرآن، وهل جاءت كلمة التأويل من خلال هذا
المعنى حينها فلا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لكي تحمل كلمة
(تأويل) فيها عليه.
وبملاحظة ما عدا الأولى من الآيات
التي ذكرت فيها كلمة التأويل دلت على أنها كانت تستعمل في القران لمعنى آخر غير
التفسير ولا نملك أي دليل على أنها استعملت بمعنى التفسير في أي مورد ما من القرآن
الكريم.
واما المعنى المناسب لتلك الآيات أن
يكون المراد بتأويل الشيء ما يؤول إليه ولهذا أضيف التأويل إلى الراد إلى اللّه
تعالى والرسولo مرة وإلى الكتاب تارة أخرى، وإلى الرؤيا
والوزن بالقسطاس المستقيم.
فهذا هو المطلوب في أكثر الاحتمالات
من كلمة الـ(تأويل) بالآية الأولى التي أضيف فيها التأويل للآيات المتشابهة كما في
قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء
تَأْوِيلِهِ﴾[9] فتأويل الآيات المتشابهة ليس معناه
بيان مدلولها وتفسير المعاني اللغوية لها.
بل هو نتيجة ما آلت إليه المعاني لأن
كل معنى عام حينما يرغب العقل أن يحدده ويجسده، ويصوره ضمن إطار وصورة معينة فهذه
الصورة المعينة تعتبر تأويل ذلك المعنى العام.
وعلى هذا يصبح معنى التأويل في الآية
الكريمة هو ما أطلق عليه اسم تفسير المعنى لأن الذين في قلوبهم زيغ كانوا يحاولون
تحديد صورة معينة لمفهوم الآيات المتشابهة.
فهو إثارة للفتنة والكثير من الآيات
المتشابهة يتعلق معناها بعوالم الغيب فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها
بصورة ذهنية خاصة عرضة للخطر والفتنة.
ويستخلص من ذلك أمرين أحدهما أن
التأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول إليه الشيء لا بمعنى التفسير واستخدامه من
خلال هذا المعنى هو للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير اللفظ أي بمعنى على تجسيد
معناه العام من خلال صورة ذهنية محددة.
وتلاحظ الامر الآخر أن اختصاص اللّه
تعالى والراسخين في العلم لغرض تأويل الآيات المتشابهة ليس معناه أن الآيات
المتشابهة لا يوجد لها معنى أي مفهوم وأن اللّه تعالى وحده العالم بمدلول الالفاظ
وتفسيرها.
بل معناه أن الله سبحانه وتعالى وحده
الذي يعلم بالواقع الذي أشارت إليه تلك المعاني ومستوعب حدوده وكنهه.
وأما معنى اللفظ بالآية المتشابهة فهو
مفهوم بدلالة القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة فلو لم يكن ليس
لها معنى مفهوم لما صدق لفظ كلمة (الاتباع).
فما دامت الآية الكريمة المتشابهة
يمكن أن تتبع فهو من الطبيعي أن يحصل لها معنى مفهوم وهي تعتبر جزء من القرآن الذي
أنزل لهداية الناس وتبيان كل شيء.
وعدم التميز بين (تفسير اللفظ) و
(تفسير معنى اللفظ) هو الذي أوصلك إلى الاعتقاد من أن التأويل المخصوص علمه باللّه
تعالى هو تفسير اللفظ وبالتالي للقول من أن قسم من الآيات ليس لها معنى مفهوم لأن
تأويلها مخصوص به تعالى.
فإن ميزت فيما بين تفسير اللفظ وتفسير
المعنى تستطيع أن تعرف أن المخصوص باللّه تعالى هو تأويل الآيات المتشابهة أي
بمعنى تفسير المعاني لا تفسير الألفاظ.
وهكذا يمكنك أن تضيف إلى المعاني
الاصطلاحية التي سبقت بكلمة التأويل معنى ثاني هو تفسير معنى اللفظ والبحث عن
استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام ويتجسد به من صورة.
باء : الفرق بين التفسير
والتأويل: هنا
لا بد قبل معرفة الفرق, الوقوف عند مفهوم التأويل لغة واصطلاحا, لكي يتسنى لنا
معرفة الفرق اللغوي والاصطلاحي مع التفسير.
التأويل في اللغة كما جاء في العين من
آل يؤول إليه, إذا رجع إليه, تقول: طبخت النبيذ والدواء فآل إلى قدر كذاو كذا, إلى
الثلث أو الربع, أي بمعنى: رجع.
اذاً معنى التأويل بناء على كلام
الخليل هو الرجوع والصيرورة, ومن بعدها تابع الخليل ابن منظور فقال: الأول:
الرجوع, آل الشيء يؤول أولا ومآلا, رجع.
النتيجة هي المعنى اللغوي للتأويل هو
(الرجوع والصيرورة).
والتأويل في الاصطلاح كما ذكر الزركشي
قال: التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه, فالمفسر ناقل, والمؤول مستنبط, وذلك
استنباط الأحكام, وبيان المجمل, وتخصيص العموم.
وانت تعلم ان كل لفظ احتمل معنيين
فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه, وعلى العلماء اعتماد الشواهد
والدلائل بهذا اللفظ الذي يحمل معاني, وليس لهم ان يعتمدوا مجرد رأيهم فيه.
وتباينت آراء المختصين في مفهوم
التاويل الا أن المحصلة يمكنك أن تجملها في أن معنى كلمة (التأويل) في الاصطلاح:
هو عملية الانتقال بالخطاب من معناه
الظاهر ( الدلالة الحقيقية الواضحة في النص) إلى معنى آخر.
والقصد من المعنى الأخر هي (الدلالة
العميقة التي لا تظهر إلا بالتأمل والتوسع العقلي ويتوصل إليها بدليل مقنع).
اذاً (التأويل) هي عملية ترجيحية لغرض
إثبات دلاله محتملة في الخطاب بدليل أقوى شريطة أن لا تتقاطع تلك الدلالة المتأولة
مع المتسالم من مضامين الكتاب الحكيم والسنة.
ولكن مهما وصل المتؤول إلى معنى
يحتمله المتؤول انه الأرجح فان النص يبقى قابل للخوض فيه لغرض الوصول إلى معنى آخر
ليكون هو الأرجح من المعنى الأول.
بعد ذلك نعود إلى الفرق بين التفسير
والتأويل الذي ذهب فيه العلماء الى اتجاهات عديدة في وجوه الافتراق والالتقاء في
ما بينهما فمن الفروق التي ذكروها هي كما يلي:-
1- التفسير والتأويل هي معنى واحد,
وهذا ما ذهب إليه المبرد وأبو عبيدة وثعلب وابن منظور ومجموعة من العلماء.
2- رأي الراغب الاصبهاني كما قال: ان
التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها, وأكثر استعمال
التأويل في المعاني والجمل, وأكثر ما
يستعمل في الكتب الإلهية, والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.
3- رأي الشيخ الطبرسيH الذي يقول التفسير هو كشف المراد.
4- رأي آخر للطبرسيH قال: اعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف
معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون اللفظ المشكل وغيره, وبحسب المعنى
الظاهر وغيره, والتأويل أكثره في الجمل.
5- رأي أبي منصور الماتريدي (ت323هـ)
قال: التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا والشهادة على الله أنه عني باللفظة
هذا, فان قام دليل مقطوع به فصحيح وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه, والتأويل
ترجيح احد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله.
6- رأي البجلي قوله التفسير يتعلق
بالرواية, والتأويل يتعلق بالدراية, وهما راجعين إلى التلاوة والنظم المعجز الدال
على الكلام القديم القائم بذات الرب.
7- رأي أبي طالب الثعلبي القائل ان
التفسير بيان وضع اللفظة اما حقيقة او مجازا كما في تفسير الصراط بالطريق, والصيب
بالمطر, والتأويل تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الاول, وهو الرجوع لعاقبة الامر,
فالتاويل اخبار عن حقيقة المراد والتفسير اخبار عن دليل المراد لان اللفظ يكشف عن
المراد والكاشف دليل.
8- رأي قيل : ان التفسير كشف المغطى,
والتاويل انتهاء الشيء ومصيره وما يؤول اليه امره.
9- رأي قيل: ان التفسير هو ابانة حكم
اللفظة اما التاويل هو تحميل اللفظ ما هو يحتمل من المعنى.
10- رأي قيل : ان المراد بالتاويل نقل
ظاهر اللفظ عن وضعه الاصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ, ومعنى
هذا ان المراد بالتاويل حمل اللفظ على المعنى المجازي او الاستعمال الكنائي بينما
التفسير قصر اللفظ على معناه الحقيقي.
جـيم : آراء أخرى: أن العلماء المتأخرين اعتبروا دلالة
كلمة (التفسير) قطعية, ودلالة كلمة
(التأويل) ظنية, وحسب رايهم لان الأولى قائمة على النص المأثور, والثانية على
الاجتهاد الظني.
واما الفارق
بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة فالنهج التفسيري لكلّ مفسِّر هو لغرض تبيين
طريقة كلّ مفسِّر في تفسير القرآن الكريم، وهي الأداة والوسيلة الّتي يعتمد عليها
لغرض كشف الستر عن وجه الآية أو الآيات.
فهل أخذ
العقل أداة للتفسير أو النقل؟ أو اعتمد في تفسير آيات القرآن على نفس القرآن
الكريم، أو على السنّة الشريفة، أو على كليهما، أو غيرهما؟.
وفي الجملة
ما يُتّخذ كمفتاح لغرض رفع الإبهام عن الآيات، هو ما نسمّيه المنهج في تفسير
القرآن.
وأمّا ما
يختص بالبحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيريّة، فالمراد منها هي المباحث الّتي
يهتمّ بها المفسِّر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات.
فمثلاً في
الصورة الاولى يتّجه إلى إيضاح المادّة القرآنية من حيث اللغة، وصورة أُخرى إلى
صورتها العارضة عليها من حيث الإعراب والبناء.
وصورة ثالثة
يتّجه إلى الجانب البلاغي، وصورة رابعة يعتني بآيات الأحكام، وصورة خامسة يصبّ
اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي.
وصورة سادسة
يهتمّ بالأبحاث الأخلاقيّة، وصورة سابعة يهتمّ بالأبحاث الاجتماعية، وصورة ثامنة
يهتمّ بالآيات الباحثة عن الكون وعالم الطبيعة، وصورة تاسعة يهتمّ بمعارف القرآن
وآياته الاعتقادية، وصورة عاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.
فلا شكّ أنّ
التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام، والسبب إما لاختلاف أذواق المفسِّرين
وكفاءاتهم ومؤهِّلاتهم، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، أو غيرها من العوامل.
وإن رغبت أن
تُفرِّق فيما بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة، وهي أنّ البحث في المناهج هو بحث عن
الطريق والأسلوب، والبحث في الاهتمامات هو بحث عن الأغراض والأهداف الّتي يتوخّاها
المفسِّر، وتكون علّة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن[10].
وقد عرّف بعض
الباحثين المنهج والاتجاه كما يلي:
المنهج : هو
الاستفادة من الوسائل والمصادر الخاصّة في تفسير القرآن والّتي يمكنك من خلالها
تبيين معنى ومقصود الآية والحصول على نتائج مشخَّصة.
وبمعنى آخر:
إنّ كيفية كشف واستخراج معاني ومقاصد آيات القرآن هو ما يطلق عليه (منهج التفسير).
الاتجاه : هو
تأثير الاعتقادات الدِّينية، الكلاميّة، والاتجاهات العصريّة وأساليب كتابة
التفسير، والّتي تتكوّن على أساس عقائد واحتياجات وذوق وتخصُّص المفسِّر[11].
الخلاصة : إن كلمة (التفسير) يؤدي معناها الى
ما ورد من تعين الظواهر وكشف الألفاظ مأثورا عن المعصوم بحيث يطمئن الى صحته,
ويحقق دلالة لفظ القرآن على المعنى المراد منه, فأن لم يؤثر شيء عن المعصوم فما
دلت عليه اللغة وأيدته موافقات الشرع المقدس.
وأما كلمة (التأويل) يؤدي معناها الى
ما لم يكن مقطوع به, وكان مرددا بين العديد من الوجوه محتملة فيؤخذ من خلال أقواها
حجة, فيوجه إلى المعنى على أساس الفهم واللغة وإعمال الفكر.
وعليه يكون مؤدى كلمة (التفسير) أدل
على المعنى الحقيقي من كلمة (التأويل), والسبب لان التفسير لا يميل الى الاحتمال
المرجح من عدة اعتبارات واحتمالات.
واما مؤدى كلمة (التاويل) فهو يسيغ
معنى اللفظ الى معنى مردد بين معان متعددة يستنبط بما توافر من أدلة, وهذا
الاستنباط يمكن ان تقول قد يدل على قول الله تعالى وقد لا يدل , فهو أمر محتمل.
ولعرض زيادة التوضيح مثلاَ أنظر الى
الاية الكريمة في قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد).
حيث أول الامام محمد الجوادA هذه الآية الكريمة على غير معناها الظاهر,
ووظف الدلالة التأويلية لها لغرض استنباط حكم شرعي.
وهو كما روي لنا ابن أبي داود أن مجلس
ضم الامام محمد الجوادA والمعتصم العباسي فتناقش الفقهاء والعلماء
في المجلس لتحديد مقدار القطع من اليد السارق بعد ثبوت السرقة فأدلى كل بدلوه,
يقول:
ان سارقا أقر على نفسه بالسرقة, وسأل
الخليفة تطهيره باقامة الحد عليه, فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن
عليD فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع,
فقلت:
من الكرسوع لقول الله تعالى في التيمم: فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم وأتفق معي على ذلك قوم, وقال آخرون:
بل يجب القطع من المرفق,لا قال: لا
وما الدليل على ذلك؟ قال:لان الله قال: وأيديكم الى المرافق... والله العالم.
[1]- تفسير الأمثل ج6 ص362 و362. وفي
ج2 ذيل الآية (7) من سورة آل عمران. وكذلك في الآيات (113) و(118) من سورة البقرة.
[2]- القاموس : مادة أول.
[4]- سورة ال عمران الاية 7 .
[5]- سورة النساء الاية 59 .
[6]- سورة الاعراف الاية 53 .
[7]- سورة يونس الاية 39 .
[8]- سورة يوسف الاية 6 .
[9]- سورة ال عمران الاية 7.
[11]- دروس في المناهج والاتجاهات
التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، تعريب قاسم البيضاني، ص18ـ19، المركز العالمي
للدراسات الإسلامية، قم المقدسة.