الأربعاء، 12 أبريل 2017

أعجاز البيان في سورة عبس وتولى بالقران الكريم


أعجاز البيان في سورة عبس وتولى
أعجاز البيان في عبس وتولى : لقد ذكرنا هناك في كتابنا : (محمدn في القران والسنة) هذا البحث بمعنى وأدلة وصيغة اخرى عما سنأتي بها هنا ان شاء الله فقد جاء في عبارة قوله تعالى:
( عَبَسَ وَتَوَلّى * أَن جَآءهُ الأَعمَى * وَمَا يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو يَذَّكَّر فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى * أَمَّا مَنِ استَغنَى * فَأَنت لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيكَ أَلاّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسعَى * وَهُوَ يَخشَى * فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى)[1].
فقد ذهب المفسّرين من اهل السنة إلى أن هذه الآيات الكريمة نزلت في الرسول الأكرمn لمّا عبس في وجه عبد الله بن أم مكتوم حينما جاءه وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل فرعون العرب والوليد بن المغيرة العتل الزنيم وغيرهم من صناديد الجاهلية لكي يقنعهم بالإسلام ويستميل قلوبهم، فقال ابن أم مكتوم:
يا رسول الله، أقرأني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول اللهn قطعه لكلامه وقال في نفسه:
الآن يقولون هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد، فعبس في وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم[2]، فنزلت الآية عتاباً على الرسولn بما فعله في حق هذا المسكين ابن أم مكتوم، فكانn حينما يرى ابن أم مكتوم يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي فيكرمه حتى يستحي ابن مكتوم من كثرة إكرامه له.
ولكن قال رسول اللهn: « إن الله يبغض المعبس في إخوانه»[3].
وفي حديث من أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وابن أم مكتوم من كثرة إكرامه له، كما قال علي بن ابراهيم:
وأيضاً كان ابن أم مكتوم مؤذناً لرسول اللهn وكان أعمى، فجاء إلى رسول اللهn وعنده أصحابه، وعثمان عنده، فقدّمه رسول اللهn على عثمان، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه، فأنزل الله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) يعني عثمان.
(أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يكون طاهراً زكياً (أَوْ يَذَّكَّرُ) قال: يُذكّره رسول اللهn (فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى).
ثم خاطب عثمان فقال ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) قال: أنت إذا جاءك غني تتصدى له وترفعه  وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا تبالي زكياً كان أو غير زكي، إذا كان غنياً (وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى) يعني ابن أم مكتوم (وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تلهو ولا تلتفت إليه.
ان هذه السورة وردت مستنكرة الموقف والحالة التي حدثت مع الضرير الذي عُبِسَ في وجهه ومن ثم أُعرض عنه، فوصفت ذلك المُعَاتَب الذي تولى عن الأعمى وتشاغل عنه بعدة أمور هي: احدهما: العبس، والثاني: التولي، والثالث: التصدي للأغنياء، والرابع: التلهي عن الفقراء والمؤمنين.
كما في عبارة قوله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) وهي إشارة للأول والثاني، واما عبارة قوله: (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى... فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) هي إشارة إلى الثالث والرابع، فليس المتصدي لفئة معينة والمتلهي عن فئة أخرى شخص آخر غير العابس، لتفهم ان سياق الآيات صريح في اتحاد العابس مع المتصدي والمتلهي معاً.
   بل تلاحظ ان منشأ كلمتي العبس والتولي ليس إلا بسبب الاتصاف بالتصدي والتلهي، وكأنه ان هاتين الصفتين عادة متبعة وملكة راسخة عند العابس، وذلك لأنها موقف وانتهى.
وشاهده الاتيان بصيغة الفعل المضارع كلمة «تصدى»  أي بمعنى تتصدى «تلهى» أي تتلهى، الصريح على الاستمرارية مع التكرار.
تلاحظ الفرق بين قولك عبارة «عثمان عبس في وجوه المؤمنين» وقولنا عبارة «عثمان يعبس في وجوه المؤمنين»، فالعبارة الأولى لا تفيد إلأ تحقق فيما مضى، ولا تدل على انه عادة متبعة أو لا ، وهو على عكس العبارة الثانية فهي تدل بصراحة على استمرارية العبس في الوجوه.
وأن ذلك يعتبر عادة متبعة وملكة راسخة في عثمان، فغرض السورة عتاب على مَن يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فبهذا يرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة[4].
واما تفسير الاية فلظة كلمة ( عبس ) معناها قطّب وكلح، مأخوذ من العَبس وهو قطوب الوجه وتقبَضه وذلك بسبب ضيق الصدر، ويقال: رجل عابس اي بمعنى كريه الملقى الجهم المحيا، ومنه اشتق كلمة عبّاس، أي بمعنى (المقطب وجهه أمام أعدائه لكي يرهبهم ويخوفهم)[5].
فإن كان عُبُوسُهُ مِنَ الغَيْظِ وَنع ذَلِكَ تجده مُنْتَفِخاً فَهُوَ مُبْرْطِمٌ كما عَنِ اللَّيْثِ عَنِ الأصْمَعِي[6] حينما انشد فقال: 
إِذَا زَوَى[7] مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَهُوَ قَاطِبٌ وَعَابسٌ
فإذا كَشَرَ عَن أنْيَابِهِ مَعَ العُبُوسِ فَهُوَ كَالِحٌ
 فإذا زَادَ عُبُوسُهُ فَهًوَ باسِرٌ ومُكْفَهِرَّ
فإذا كَانَ عُبوُسُهُ مِنَ الهَمِّ فَهُوَ سَاهِمٌ
فكلما حدث وتحقق العبس فلا بد من أن يتحقق الضيق الصدري وعدم اشتهاء النفس ومن ثم يظهر أثر ذلك على تقسيمات الوجه، وهو في أكثر الموارد ملازم للتكبر والتعالي ولهذا قال الله تعالى في حق الوليد بن المغيرة عبارة قوله: (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) وهي صفة ذميمة حتى لو وقع من الإنسان مرة، وذلك لاستلزامه الاستهانة والاستخفاف بالآخرين.
وكون الضرير لا يحس بالعبوس وهذا لا يعني عدم قبحه، فعدم معرفة الانسان من اغتابه لا تجعل الغيبة من المباحات، مع ذلك لا نقبل أن ابن أم مكتوم لم يشعر بعملية العبس من قبل العابس.
فلم يقتصر هذا العابس بالعبس بل أعرض وتولى، فإن كان المعبوس في وجهه ضرير لم يرى العبس فإن تولى العابس عنه مما لا يخفى عليه كما أن رؤية الحاضرين عملية العبس كافية بالحكم على قبحها سواء حس بذلك المعبوس في وجهه أو لا.
وقولهم من أن هذا العبس ليس عبس احتقار، بل يعتبر أقرب إلى عبس المضايقة النفسية التي توجد تقلصاً في الوجه عندما يقطع أحد على الانسان حديث[8]، فلا يستلزم هذا رفع القبح عن هذه العملية، فلو كان هذا التفصي والهروب من الإشكال صحيحاً لكانت الغيبة وبقية الصفات المذمومة كذلك.
والغيبة التي منشؤها الحقد والحسد، والاخرى التي منشؤها الضيق النفسي من أفعال الآخرين، فعليك ان تلتزم بحرمة الغيبة الأولى من دون الغيبة الثانية، هذا بالاضافة إلى أن العابس لم يكتفي بالعبس بل أعرض وتولى وهو كان ممن يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء.
ولفظة كلمة ( وتولى ) أي بمعنى أعرض بوجهه، كما في عبارة قوله تعالى: ( إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وعبارة قوله تعالى: (فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ولعله منه عبارة قوله تعالى: ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ).
وهي كناية عن الفرار من الزحف وتلاحظ انه لازمه الإعراض وجهاً عن الأعداء، ولكن الذي يقتضيه سياق الآيات كذلك فأن معنى التولي في المقام فعل سلبي آخر قد صدر من العابس، فهو على غرار عبارة قوله تعالى: ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ).
واما عبارة قوله تعالى : ( أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ) أي بمعنى عبس وتولى بسبب مجيء هذا الضرير، ولفظة كلمة (الأعمى) في المصطلح القرآني عادة ما تأتي بمعنى أعمى القلب وفاقد الايمان وهو المشار إليه في عبارة قوله تعالى:
( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[9] وعبارة وقوله تعالى: (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)[10] وعبارة وقوله تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى)[11].
   وعلى هذا فلفظة كلمة (الأعمى) هنا ليست بالضرورة من أن تكون أعمى البصر وفقد العيون، بل يمكن أن يحصل المقصود منه أعمى القلب والايمان، ومن خلال تتبع موارد استعمال هذه الكلمة في جميع آيات الذكر الحكيم.
ولكن لعل مرجّح كون المراد من الأعمى في سياق هذه السورة هو أعمى القلب، وتعرف ذلك من خلال الأطار العام لاستعمال هذه اللفظة.
فحينما تقول إن الآيات الباقية من السورة قرينة من أن المراد من العمى هو العمى الظاهري، بالاضافة إلى السياق العام للآية يعتبر كاشف عن واقعة قد حصلت فنزلت هذه النصوص.
يقال لك : العكس هو الصحيح ، فعبارة قوله تعالى: ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى) هو قرينة على أن الأعمى جاء طالباً للتزكية أو التذكرة، واي انسان لا يطلب الشيء إلا بعد من فقده، وما فقده ذلك الشخص هي خصلة العمى باصطلاح القرآن.
   فلو بقينا نحن والظهور القرآني في سياق الاية لفا يمكن أن الجزم من كون الأعمى هو من كان فاقداً للبصر الظاهري، بل تجده هو أعم من ذلك ومن العمى القلبي.
فهذا التخصيص أو التقييد بالآية من ان العمى ظاهري هو بحاجة الى دليل، وكذلك ترجيح أن العمى القلبي هو المقصود من الآية له احتمال وجيه ولا تجد أي مجازفة فيه.
واما من قطع من كون الأعمى هو أعمى البصر فَلِمَاذا كانت جميع الروايات المصرحة بنزولها في ابن أم مكتوم ولكن البحث في ما هو مقتضى الظهور القرآني وتفسير القرآن بالقرآن، واما البحث في الظهور ومقتضى البحث الروائي وانسجامه مع ما استظهر من كتاب الله أو عدم انسجامه هو في مكان اخر.
واما عبارة قوله تعالى : ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) أي بمعنى لا تدري لعل هذا الأعمى او الضرير يتزكى ويتطهر بعمله الصالح، وهنا التزكية هي التخلية والاقتلاع عن الآثام والمعاصي وغيرها.
وعبارة قوله تعالى : ( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ) وهي من أن يتحلى بالطاعات والأعمال الصالحة والصفات الحسنة، فسياق الآيتين تشير من ان حالتي التخلية والتحلية.
والمقصود من الأولى وهي لفظة كلمة (التخلية) هي الاقتلاع عن المعاصي وكافة الموبقات المسمات في الذكر الحكيم بلفظة كلمة «التزكية».
والمقصود من الثانية وهي لفظة كلمة ( التحلي ) هي الاتصاف بالسمات الحسنة مع الأعمال الصالحة وذلك لكي تكون نفسه صالحة قابلة للتلقي من دلائل عظيم الله تعالى.
   فمن كل ذلك تعرف أن مهمة نبي اللهn هي تزكية البشرية المشار إليهم في عبارة قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وكذلك تذكرة للمؤمنين المشار اليه بعبارة قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى).
وكذلك عبارة قوله تعالى : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وعبارة قوله تعالى: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، وعبارة قوله تعالى:
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) قيل: بمعنى من كان ذو ثروة وجاه وغنى، وقيل: أي بمعنى من استغنى عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن[12] واكتفى فقط بماله.
واما عبارة قوله تعالى : ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي بمعنى تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه مع الاهتمام به، كما عن ابن عباس قال: تصدى تقبل عليه بوجهك، فلفظة: (التصدي) هو إقبال الانسان على الشيء بكلّه قلباً وقالباً[13].
   وهو كما ذكر الزجاج قال : الأصل تتصدى ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، وتلاحظ انه من قرأ (تصدى) بإدغام التاء فالمعنى أيضاً تتصدى ولكن التاء أدغمت في الصاد وذلك لقرب مخرج التاء من الصاد[14].
   ولكن قرأ ابن كثير ونافع لفظة كلمة « تصَّدى » بتشديد الصاد.
وقد قرأ عاصم وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي لفظة كلمة «تَصَدّى» بفتح التاء والصاد وتخفيفها.
وتلاحظ انه قد قرأ أُبي بن كعب وابو الجوزاء وعمرو بن دينار لفظة كلمة «تتصدى» بتاءين مع تخفيف الصاد، والمعنى واحد في الكل.
وتلاحظ كذلك قراءة ابن مسعود وابن السميفع والجحدري لفظة كلمة «تُصَدى» بتاء واحدة مضمومة وتخفيف الصاد[15]، وقد نسبت هذه القراءة للامام الباقر[16]A.
واما عبارة قوله تعالى : ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) فقد ذهب مشهور المفسرين من اهل السنة الى أن معنى سياق الآية هي:
أن وظيفتك هي الإبلاغ سواء آمن السامع أو لم يؤمن فلا يلزمك أي شيء من عدم تطهره وإيمانه، واختاره الشيخ الطبرسي في تفسيريه ومغنية في الكاشف والشيخ مكارم في الأمثل، وفي تفسير من وحي القرآن:
« وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى » فلن تتحمل أية مسؤولية من خلال ابتعاده عن الخط المستقيم ، وتمرده عن تطلعات الروح إلى آفاق الطهارة وسماوات الصفاء لأنك لم تقصر في الإبلاغ، ولم تدخر أي جهد فيما حركته من الوسائل التي تملكها وفيما استخدمته من الأساليب التي تحركها في اتجاه التزكية للناس جميعاً ، وقد سمعوا ذلك كله وأصروا على الاستكبار والتمرد...الخ.
وكذلك اختاره الفيض الكاشاني والمرتضى الكاشاني (ت1115هـ) في تفسيره المعين والطهراني في متنيات الدرر والشيخ الكرمي في تفسيره المنير وغيرهم ، وهو ظاهر السيد المرتضى.
وقد ذهب علي بن ابراهيم القمي في تفسيره أن معنى الآية هكذا: (أي لا تبالي زكياً كان أغير زكي إذا كان غنيّاً). وقد ذكر العلامة السيد الطباطبائي قال:
قيل : ما نافية ، والمعنى ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الأعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه.
وقيل : ما للاستفهام الإنكاري ، والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.
وقيل : المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور ، وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله[17].
   وتلاحظ ان الأنسبيّة والتعيّن هي لثلاثة عوامل فمنها:
أحدهما : هي ما أشاروا إليه من كون الآيات في مقام العتاب وضمن سياق التوبيخ، فلو كان سياق الآية في مقام بيان حرص العابس والمتولي على إسلام الآخرين لاعتُبِر ذلك مدحاً ومنقبة له، فهي لا تتناسب مع العتاب والذم والتوبيخ ، فتكون كما في عبارة قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[18].
واما العامل الثاني : تلاحظ إن تصدي وتعرض العابس يعتبر لمكان صفة الاستغناء لا غيرها كما هو صريح عبارة قوله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى) أي بمعنى أما المتصف بالغنى فأنت له تتعرض، وتتصدى وأما من أن يكون الهدف منه طلب الهداية لذلك الغني أو من أجل الاستفادة المادية منه، وإطلاق هذه الآية شامل لكلا الحالتين.
   ولهذا تلاحظ البعض من المسلمين وكذلك الصحابة في صدر الأسلام يتصدون لهداية الأغنياء من الكفار والمشركين، ويتركون هداية الفقراء والمستضعفين، بل تلاحظ هذا السلوك عند بعض الرساليين وأصحاب الدعوات والمبادئ على طول مسيرة التاريخ.
وهي تركيزهم على الأغنياء وأصحاب الجاه والثروة والسمعة الاجتماعية وتركهم للفقراء والمستضعفين، توهماً وظناً عندهم من أن هداية أصحاب الأموال والسمعة هي المجدية لنشر الرسالة والهداية.
   وتلاحظ ان هناك سلوك آخر عند بعض الصحابة، وغاية تصديهم للأغنياء وأصحاب الجاه طمعاً في أموالهم أو مداهنة لهم، مع اهمال او عدم المبالاة بإيمانهم أو محاولة هدايتهم، وهو في عبارة قوله تعالى: ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى) وهو بيان حالة السلوك السابق.
وعبارة قوله تعالى : ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وهي إشارة إلى السلوك الاخر، وتأكيد سياق الاية على أن هذا العابس لا يتصدى للأغنياء ويترك الفقراء من أجل هدايتهم بل تراه يتصدى لهم لمكان غناهم فلا يهمه بعد ذلك سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، وتجد ان كلا السلوكين رفضهما القرآن وشدد العتاب والتوبيخ على أصحاب السلوك الاخر.
   ولكن تلاحظ ان البعض القليل من ذهب تبعاً لعامة المفسرين من كون معنى سياق الآية ليس عليك حساب وبأس في عدم إيمانهم وإسلامهم بعد أن بلّغت ما عليك.
فإنما كان هذا إلا لتوهم كونها نازلة في نبي اللهn وأنه هو العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي، فالدخول بهذه العقلية البائسة في تفسير الآية هو الذي أفضى ومن ثم أنتج هذا المعنى من التفسير، وتنزلاً لو كان - وهذا محال – من كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي هو لكان هذا التفسير هو المتعين لا غيره.
   وتلاحظ مثله ما في تفسير من وحي القرآن كما في قوله : «إن مدلول الآيات يوحي بأن النبيn كان يستهدف من حديثه مع هؤلاء الصناديد تزكيتهم الفكرية والروحية والعملية، بعيداً عن مسألة الاهتمام بغناهم من ناحية ذاتية»[19].
وتجد مثله ما في أعيان الشيعة من كون تصدي العابس للأغنياء ليس لغناهم وتلهيه عن الفقراء لا لفقرهم بل إنما لقطعهم حديثه مع من يرجو إسلامه.
ولكن الذي تستوحيه من الآيات أن الاهتمام إنما هو للغني لغناه، وإلا فالاهتمام للغني لتزكيته مع عدم طمعك في ماله فهذا مما يقبح العتاب عليه والتوبيخ فيه، فكيف يعاتب على صفة أصلاً هو لا يتخلق بها مع هذا الاعمى ومن ثم دخوله في تفسير الآيات بعقلية أنها نزلت في رسول اللهn فلو افترضنا وهو محال أنها نزلت فيه لكان ما قاله هو الحق الذي يجب أن يتبع.
   واما عبارة قوله تعالى :( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) فقد قرأ ابن مسعود وابن مصرف وابو الجوزاء لفظة كلمة «تَتَلهى» بتاءين ، ولكن: اُبي كعب وابن السميفع والجحدري قد قرأ لفظة كلمة «تُلهى» بتاء واحدة خفيفة مرفوعة.
وهو كما قال الزجاج : أي بمعنى تتشاغل عنه، فيقال لهيت عن الشيء ألهى عنه إذا تشاغلت عنه[20]، فلفظة (التلهي) هنا هي تعمد التشاغل مع قصد الإعراض، فهو في قبال التصدي الذي هو تعمد التعرض وقصد الإقبال.
   فمن خلال المقابلة فيما بين لفظة (التصدي) ولفظة (التلهي) تستظهر من أن هؤلاء الساعين نحو الخشوع هم من الفقراء والمستضعفين، فسياق الأية وإن لم يكن حال لسانها ذكر عبارة: «وأما ذو العالة والفقير فأنت عنه تلهى» ولكن هذا من خلال التقسيم المردد بلفظة «إما» تعرف أنه من سمات هؤلاء الساعين نحوه هي الفقر والعالة والاحتياج.
وما ذكر من كون التصدي بمعنى المحاولة الرسالية وبذل الجهد في سبيل تغيير أولئك المترفين والمستكبرين، والسعي لغرض إصلاحهم وتزكيتهم كما يقول في عبارة قوله: (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى) لكي تحاول بجهدك الرسالي أن تمنحه زكاة الروح وطهارة الفكر، فيما تحسبه من النتائج الكبيرة لذلك على مستوى امتداد الإسلام في قريش[21].
   ولكن النبيn على امتداد الرسالة لم يألُ جهداً في هداية قومه، من خلال السعي بشتى الطرق والوسائل لغرض هدايتهم وإدخالهم في دين الله، لصار صريح الآية لا يساعد على ذلك وحتى على القول تنزلاً من أنها نازلة فيهn وهو المقصود بها، فالتصدي للأغنياء والمترفين بالآية يقابله التلهي عن الفقراء والمعدمين، فوجه المقابلة تعرفها من أن التصدي هو الاهتمام والتقدير والاحترام للأغنياء، وهذا يقابله التلهي عن الفقراء.
   فلو كان لفظة كلمة (التصدي) بمعنى المحاولة لتحصل ان الرسولn له محاولة رسالية لهداية المترفين فقط دون المستضعفين مع أنه مأمور بالتساوي في دعوته فيما بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسيد والعبد والرجل والمرأة والصغير والكبير وغيرها.
ثم ان الله سبحانه يهدي من يشاء لصراط مستقيم، فتفسير لفظة كلمة (التصدي) بمعنى المحاولة الرسالية هو ليس تفصياً عن المحذور، فهذا من قبيل تغيير مقولة الخليفة الثاني المشهورة في رزية الخميس «إن الرجل ليهجر» إلى: «أن رسول الله غلب عليه الوجع» ، فكذلك قولنا في المجنون من أنه مصاب بمرض عقلي، فنتيجة الكلام واحدة ولكن وقع اللفظ على القلب أهون.
   ومما سبق لا بد من أن يكون معنى لفظة كلمة (التصدي) في سياق الآية بمعنى التعرض والاهتمام والاحترام، واما لفظة كلمة (التلهي) بمعنى التشاغل وعدم المبالاة ، فسياق الآية يدعو للمساواة بالدعوة للإسلام، فهو الواجب الملقى على عاتقهم.
واما هداية الناس وعدمها فهو بيد الله تعالى المشار إليه في عبارة قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء)، فليس مقام الآية فقط في مقام توبيخ العابس بل حتى لو لم يتحقق العبس فلابد من المساواة في الدعوة والتبليغ.
   واما في الآيات الأربع عتاب شديد وزداد بشدة باتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة ـ ضمير الغائب ـ لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين ضمن سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة وذلك بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة.
   وقيل : وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان إعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يُرحم ويخص بمزيد الإقبال والعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه[22]، وقال ابن زيد لو أن رسول اللهn كتم من الوحي شيئاً لكتم هذا عن نفسه[23].
   ومما سبق تعرف ضعف من قال : أن الآيات لا لَوم فيها ولا عتاب على النبيn ولا على الأعمى وإنما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبيn بقصد أن يستعملهم ويرغبهم في الإسلام[24].
وما يخص لفظة كلمة (العابس) فقولهم بعدم توجيه العتاب واللوم إليه هو سدّ لحجية ظواهرالقرآن بل صريحه، وأما المشركين هنا فلا تعرض لهم بالآية لا من قريب ولا من بعيد، وتلاحظ ان منشأ التصريح بذلك هو دخوله في تفسير الآية بعقلية ورأي من أنها نازلة في الرسولn.
وأما لفظة كلمة (العابس) ومن هو، فتجد ان سياق الآيات لا يدل على أن ذلك العابس هو الرسول الأكرمn، فعبارة قوله تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى» فعلان ماضيان ولفظة الضمير «هو» للغائب، فلو كان العابس هو لكان القول عبارة: «يا أيها النبي لِمَ عبست وتوليت أن جاءك الأعمى، وما يدرك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى» فلا إخلال بالبلاغة والفصاحة حينما يُأتى بضمير المخاطب كما تعلم.
   فإن قيل لم يأتي بضمير المخاطب من باب الإجلال لهn، والعبوس مما لا ينبغي أن يصدر عنه, يقال ل كان عبارة قوله تعالى: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى... فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أشد تقريعاً وعتاباً وتوبيخاً فَلِمَاذا جاء بضمير المخاطب، فمن هذا الباب ينبغي أن يأتي بضمير الغائب كعبس وتولى.
واما دعوى من أن عبارة قوله تعالى: ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى... فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) المخاطب بها هو رسول اللهn، فمقصود السياق من لفظة «أنت» أي بمعنى أنت يا نبي الله، والسبب بما أن المتصدي للأغنياء والمتلهي عن الفقراء تلاحظه متحد مع الذي عبس وتولى لا شخص آخر قالوا أنه هو الذي عبس وتولى.
وذلك لأن القرآن ليس جزء منه بل كله خطاب للرسول الأكرمn فلا يعني هذا بالضرورة من أن يكون هو المقصود بها، فلا بد من التفريق بين كونه خطاباً له وبين كونه المقصود من الخطاب وفيه قد نزلت.
وتلاحظ ان بعض المعاصرين ذكر ما مضمونه انه إذا كان سياق الآية غير متوجة ومخاطب للرسولn فلمن هي إذن مخاطبة هذه الاية, فهل هي متوجهة لشخص مجهول من بني أمية.
وهل منشأه عدم التفريق فيما بين المخاطب وبين المقصود من الخطاب، وليس بالضرورة أن يكون المخاطب هو المقصود من الخطاب، ومن ألتزم من أن المخاطب هو المقصود فقد أقحم نفسه في نسبة الذنب والمعصية والجهل للنبي محمدn وهذا ما لا يقبله أي المسلم, ولغرض البيان نأتي بسياق آيات من القرآن الكريم من باب التقرير والتثبيت وهي كما يلي:-
منها : عبارة قوله تعالى : ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) [25] هو خطاب للنبيn، ولكن ليس المقصود هو محمد بن عبداللهn  من هذا الخطاب، فلم يكن له أبٌ حي ولا أمٌ لهn حينها آنذاك.
منها : عبارة قوله تعالى : ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)[26] فليس النبيn المقصود بهذا الحكم وإن كان هو المخاطب، إذ رسول اللهn كما هو متعارف عند الجمانيع  له الحق في أن يتزوج أكثر من أربع.
منها : عبارة قوله تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[27] فهذا الخطاب وإن كان متوجاً ظاهرا إلى النبي محمدn ولكن ليس هو المقصود منه، فمعلوم انه قد عصم الله تعالى رسولهn من أي ذنب حتى الصغير ولو فكرة او خاطرة تمر بذهنه الشريف فكيف بالشرك العظيم.
   وتجد في المصحف غيرها الكثير من الآيات، فخطاب القرآن الكريم كما في الروايات نزل بـ« إياك أعني واسمعي يا جارة »[28] وهذا مثل يضرب لمن تكلم ويريد به غير المخاطب، وما أكثره في الذكر الحكيم.
   وجاء عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسنA مما سأله المأمون: فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)، قال الرضاA:
هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلك نبيهn وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وقوله تعالى: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) قال: صدقت يا بن رسول الله[29].
   وعن محمد بن سعيد الأذخري وكان ممن يصحب موسى بن محمد بن علي الرضاD أن موسى أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها، وأخبرني عن قول الله عز وجل (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) من المخاطب بالآية فإنك أن المخاطب النبيn أليس قد شك فيما أنزل الله عز وجل إليه، فإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذا أنزل الكتاب.
   قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد الهاديD عن ذلك قال: أما قوله: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ) فإن المخاطب بذلك رسول اللهn ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل، ولكن قالت الجهلة:
كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة، إنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عز وجل إلى نبيه (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) بمحضر من الجهلة هل يبعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال:
وإن كنت في شك ولم يقل ولكن ليتبعهم كما قال لهn فقل: (تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا... فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة، وقد عرف أن نبيهn مؤدى عنه رسالته وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبيn أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه[30].
   ومثلهِ جاء في صحيحة ابراهيم بن عمر رفعه إلى أحدهما في قول الله عز وجل لنبيهn ( فَإِن كُنتَ...) قال: قال رسول اللهn: لا أشك ولا أسئل[31].
   وتلاحظ من حيث السياق لا يمكن بأي حال من الاحوال حتى الظن وغيره او الجزم من كونها نازلة في نبيناn، فتلاحظ القرآن مليء بالآيات النازلة بنحو:
«إياك اعني واسمعي يا جارة»، ومن يتابع خطابات القرآن يستظهر منها حينما يكون المخاطب هو النبيn تجد ذلك الخطاب محفوف بكمية من الاحترام والتقدير وعادة ما يكون بهذا التعبير قوله: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ».
   والاغرب من ذلك تلاحظ ان بعضهم احتمل ومن ثم رجّح كون الآية نزلت فيهn وأتهمه بالعبس في وجه بن أبي مكتوم وذكروا اية كشهادة وهي عبارة قوله تعالى:
( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)[32].
وعبارة قوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[33].
فنسب للرسولn من دون أن يشعر الطرد المفضي إلى الظلم كما في ذيل سياق الآية وإطاعة الغافلين عن ذكر الله.
هذا الذي تقدم كله من حيث سياق الآيات وقد عرفت أنها لا تدل على أن المقصود هو الرسولn، وأما من حيث المعنى بلا شك في كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي غيره وذلك لعدة عناصر منها:-
منها : العبس معناه التقطيب في الوجه وهي صفة ذميمة وُصف بها في القرآن الكريم الوليد بن المغيرة في عبارة قوله: (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) فلا يمكن أن يتلبس بها نبيهn وهو الذي قال عنه القرآن عبارة قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وعبارة قوله: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
   وقد سُئلت السيدة عائشة عن خلقهn فقالت : كان خلقه القرآن، فمن يكون خلقه عظيماً لا يمكن أن يتلبس بالعبس والتقطيب في وجوه المؤمنين، وهو بهم رؤوف رحيم  كما في عبارة قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[34] فالرحمة والتعبيس والتقطيب لن يجتمعا أبداً.
   ويتنافى مع قول النبيn في الحديث فقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» وكذلك قول الامام الصادقA «إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[35].
   ومن من أخلاق النبيn أنه ما كان ليؤشر على أي كافر استحل قتله وأُهدر دمه، فكيف يعبس في وجه المؤمن، فحينما أهدر دم عبد الله بن أبي سرح وبعد فتح مكة غيّبه عثمان حتى اطمأن الناس ثم أحضره عند رسول اللهn وطلب له الأمان، فصمت طويلاً ثم آمنه، فأسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول اللهn لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم، فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا؟ فقال: ما كان لنبي أن يقتل بالإشارة إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين[36].
منها : تقدم أن العابس هو المتصف بكونه متصدياً للأغنياء ولاهياً عن الفقراء والمؤمنين، وهوn يجلّ من كون خلقه كذلك، فلا فرق عنده فيما بين العبد والسيد والعربي والأعجمي، بل عمدة اتباعه المسلمين آنذاك كانوا من العبيد والمستضعفين وبالتالي عصمته المطلقة تأبى ذلك.
منها : أن الرسولn مأمور بخفض الجناح لجميع المؤمنين في عبارة قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)، ومأمور بالإعراض عن كافة المشركين في عبارة قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
والآيتين كلاهما من سورة الحجر وقد نزلت قبل سورة عبس، ونتيجة الالتزام من كون الآية نازلة فيهn معناه أنه أعرض عن المؤمنين وخفض الجناح للمشركين.
منها : بإمكانهn أن يلفت انتباه ابن أم مكتوم من أنه مشغول مع القوم ويأتي له في وقت آخر، لا أن يعبس في وجهه ويعرض عنه، فلو كان هكذا لما توانى ابن أبي مكتوم في تلبية طلبهn.
منها : ولو كان المقصود من الآيات هو النبيn فكيف تلائم بين عبارة قوله تعالى مدحاً لهn وهي قوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
وبين عبارة قوله: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ، إذ كان هو مخاطب ومقصود بتزكية الناس جميعاً فكيف يخاطب بهذه السورة من أنه ليس مسؤولاً عن تزكية قومه.
وكيف يقول له بعبارة قوله: ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) والنبيn مبعوث للدعاء والتنبيه، وكيف لا يكون عليه ذلك[37].
   وقد قالوا أن ما فعله ابن أم مكتوم أساءة أدب، فالافضل تأديبه من خلال الإعراض عنه والعبوس[38]. فلو كان هذا القول صحيح فَلِمَ هذا العتاب من قبله تعالى على أمر يستحقه ابن أم مكتوم.
بالأضافة أن العتاب متوجه بشكل أكيد على من يتصدى للأغنياء ويتلهى به عن الفقراء، فمنشأ هذا الإعراض عن ابن أم مكتوم لكونه من فئة الفقراء والمحتاجين، فلهذا تأكّد العتاب.
وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبيn دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمل بأساليب الكلام ، ويشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق والحشوية الذي من عادتهم الافتراء على الأنبياء.
ونسبة السوء إليهم في بعض الأمور، وذلك لغرض مخصوص وهو أن ما نسب إلى بعض ولاة أمورهم وما صدر من القبائح عنهم وصح صدوره لا يكون قادحاً في إمارتهم، ولهذا ينسبون بعض الأمور إلى أعاظم الأنبياء خلطاً للمبحث[39].
   وأما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبيn، ولا فيها ما يدل على أنها خطاب له.
بل تعتبر خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل لدى المتأمل على أن المعني بها غير النبيn لأنه وصفه بالعبوس ليس من صفات النبيn في القرآن ولا خبر من الأعداء المبايين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين.
   ثم وصفه من أنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء وهذا مما لا يصف به نبيناn من يعرفه فليس هذا مشبهاً لأخلاقه الواسطة وتحننه على قومه وتعطفه.
وقيل : إن هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول اللهn كان منه هذا الفعل المنعوت فيها، وإن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك في أنها لم يعن بها النبيn، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم، وقد نزه الله النبيn عما دون هذا في التنفير بكثير[40].
وقيل هذا فاسد[41]، لأن النبيn قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[42] وقال عنه (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )[43] .
كيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ).
ومن عرفهn حسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده.
فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام، على أن الانبياءD منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم، ولا يجوَّز مثل هذا على الانبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم[44].
   وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبيn وقد عظم الله خلقه إذ قال ـ وهو قبل نزول هذه سورة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والآية واقعة في سورة «ن» التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك.
فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول البعثة ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفوراً والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا.
   وقال تعالى أيضاً : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
فأمر بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) النازلة في أوائل الدعوة.
   وكذا قوله : ( لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وفي سياق الآية قوله: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منهn العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينه إلى دنيا أهل الدنيا.
   على أن قبح ترجيح غنى الغني ـ وليس ملاكاً لشيء من الفضل ـ على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الانساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.
   وبهذا وما تقدمه يظهر الجداب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينههnعن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا، وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، لو سلّم.
فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق وقد عظّم الله خلقهn قبل ذلك إذ قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وأطلق القول والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها[45]المصدر : من كتاب اعجاز البيان في القران الفصل الثالث الجزء 4 من موسوعة (اتقان القران وعلوم الرحمن)تاليف: ساجد شريف عطية.


[1]-  سورة عبس الايات من 1 الى 10 .
[2]-  راجع : الدر المنثور : ج 8 / 418 نقلا عن الحاكم وابن مردويه.
[3]- مستدرك الوسائل ج 8 / 321 فردوس الخطاب ج 1 / 153 كشف الخفاء ج 1/289.
[4]-  تفسير الميزان : ج 20 / 219 .
[5]- الألفاظ المؤتلفة : ج 1 / 206 .
[6]- فقه اللغة وسر العربية : 139 .
[7]- أي تقبض وتكلّح .
[8]-  تفسير من وحي القرآن : ج24 /  ص66 .
[9]-  سورة الحج الاية 46 .
[10]- سورة الإسراء الاية 72 .
[11]-  سورة الرعد الاية 19 .
[12]- وهو كما في تفسير أبي السعود : ج 9 / 108 ، وغيره .
[13]- كما ذكر القرطبي في تفسيره ج 19 / 214 .
[14]- زاد المسير : ج 9 / 28 .
[15]- كما في زاد المسير : ج 9 / 27 وغيره .
[16]- كما في تفسير الفخر الرازي : ج 31 / 56 ، وفي: روح المعاني : ج 30 / 41 .
[17]- تفسير الميزان : ج 20 / 220 .
[18]- سورة يوسف الاية 103 .
[19]- تفسير من وحي القرآن : ج24 / 67 اية الله السيد محمد حسين فضل اللّه.
[20]- زاد المسير : ج 9 / 27 .
[21]- تفسير من وحي القرآن : ج 24 / 74 .
[22]- تفسير الميزان : 20 / 219 .
[23]- تفسير الطبري : ج 30 / 50 ، والكلام هنا صحيح وذلك لان سياق الآية صريح على أنها في مقام العتاب والتوبيخ، ولكن تطبيقها على رسول اللهn فهذا الذي لم يصب فيه ابداً.
[24]- تفسير الكاشف للشيخ جواد مغنية العاملي : 7 / 510 .
[25]- سورة الاسراء الاية 23 .
[26]- سورة النساء الاية 3 .
[27]- سورة الزمر الاية 65 .
[28]- كما في تفسير العياشي 1 / 10 واصول الكافي : 2 / 631 حديث 14 .
[29]- كما في عيون أخبار الرضاA: ج 1 / 408 ، باب 37 حديث 1 .
[30]- علل الشرائع : 156 باب 107 حديث 1 .
[31]- علل الشرائع : 157 باب 107 حديث 2 .
[32]- سور الأنعام  الاية 52 .
[33]- سورة الكهف الاية 28 .
[34]- سورة التوبة الاية 128 .
[35]- اصول الكافي : ج 1 / باب 108 .
[36]- الكامل في التاريخ: 1 / 166 ، تاريخ ابن خلدون: 2/460 تاريخ اليعقوبي : 2 / 60.
[37]- تنزيه الأنبياء  ص163 .
[38]- تفسير الفخر الرازي : ج 31 / 55 .
[39]- مقتنيات الدرر ج 12 / ص67 .
[40]- تنزيه الأنبياء  ص119 .
[41]-  وهو قول الشيخ الطوسي أي القول بكونها نازلة في النبي محمدn.
[42]-  سورة القلم الاية 4 .
[43]- سورة آل عمران  الاية 159 .
[44]-  تفسير التبيان : ج 10 / 268 .
[45]-  تفسير الميزان : 20 / 223 .