الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق2 جوانب الاعجاز البياني


ق2 جوانب الاعجاز البياني
3 – بيان الاستعارة : تلاحظ انه قد ذكر في كتابه الكريم في عبارة قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ)[1].
جاء انه استعير في عبارة الآية الكريمة: لفظة كلمة (السلخ) وهو كشط الجلد عن الشاة ونحوها لإزالة ضوء النهار عن الارض قليلاً قليلاً، بجامع ما يترتب على كل منهما من ظهور شيء كان خافياً.
فمن خلال كشط الجلد ظهر لحم الشاة، وكذلك غروب الشمس تظهر الظلمة التي هي الأصل واما النور فهو طاريء عليها، يسترها بضوئه. وهذا التعبير الفني يسميه اهل البلاغة في عبارة: (الاستعارة التصريحية التبعية).
وتجدانها هي استعارة رائعة وجملية، من خلال نظمها الفريد مع إيحائها وظلها واشعارها قد رسمت منظر بديع للضوء وهو ينحسر عن الكون قليل ثم قليل وللظلام وهو يدب إليه في بطء واضح.
فتأمل اللفظ المستعار وهي لفظة كلمة (نسلخ) إن هذه الكلمة هي التي استقلت بهذا التصور والتعبير داخل الآية فهل يصلح مكانها غيرها.
وكذلك عبارة قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)[2] وقد استعير بالآية الكريمة خروج النفس شيئاً فشيئاً كما هو خروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر بمعنى النفس، وتنفس بمعنى خرج النور من المشرق عند انشقاق الفجر.
ثم بعدها تأمل اللفظة المستعارة وهي كلمة (تنفس) بصوتها الجميل وظلها الظليل، قد رسمت  صورة بديعة في إطار الآية، فهل من ألفاظ اللغة العربية على كثرتها يؤدي ما أدته، ويصور ما صورته.
ومثلهِ كذلك في عبارة قول الله تعالى : ( إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)[3].
فقد استعير في الآية الكريمة لفظة كلمة (الطغيان) للأكثر الماء بجامع الخروج عن حد الاعتدال والاستعارة المفرط في كل منها. ثم اشتق من الطغيان: لفظة كلمة (طغى) أي بمعنى كثر.
وتعتبر هذه استعارة نادرة لا توجد في غير القرآن إنها تصور لك الماء إذا كثر وفار واضطرب بالطاغية الذي جاوز حده، وأفرط في استعلائه ثم استقر لمعناه.
ثم بعدها تأمل اللفظة المستعارة لكلمة (طغى) فإنها بصوتها وظلها ودلالتها فقد استقلت من خلال رسم هذه الصورة الساحرة في إطار الآية المعجزة.
وفي عبارة قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[4].
تلا قدحظ هنا استعير في الآية الكريمة: في لفظة كلمة (الصدع) وهو كسر الزجاج للتبليغ بجامع التأثير في كل منهما.
أما من جهة التبليغ فلأن المبلغ قد أثر في الأمور التي قام بتبليغها وبيانها من حيث لا ترجع إلى حالتها الأولى من الخفاء، وأما في الكسر فلأن فيه تأثير لا يعود المكسور معه إلى إلتئامه ابدا .
وبعدها اشتق من الصدع معنى التبليغ اصدع أي بمعنى بلغ، استعارة رائعة وجميلة إنها تبرز لك ما أمر به رسول اللهn في صورة مادة يشق بها ويصدع.
فإنها تبرز لك المعنى المعقول من خلال صورة حسية متحركة كأنك تراها بعينك وتلمسها بيديك.
فتأمل اللفظة المستعارة كلمة (اصدع) فإنها بصورتها واشارتها قد استقلت من رسم صورة فردية مؤثرة فمن يقرأها يخيل إليه أنه يسمع حركة هذه المادة المصدوعة.
وتصور لو استبدلت لفظة كلمة (اصدع) بلفظة كلمة (بلغ) ألا تشعر أن عنصر التأثير قد تضاءل وأن الصورة الحية المتحركة قد اختفت وأن المعنى قد أصبح شاحب وباهت المعنى. فتلاحظ إن اللفظة المستعارة هي التي رسمت هذه الصورة في إطار الآية المعجزة.
وعبارة قوله تعالى : ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً)[5].
فقد استعير في الآية الكريمة كلمة الموج وهي (حركة الماء) للدفع الشديد في سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة ثم بعدها اشتق من الموج بمعنى الدفع الشديد بلفظة (يموج) اي بمعنى يدفع بشدة.
وعبارة قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[6].
فقد استعير في الآية الكريمة الظلمات للضلال بعدم الاهتداء في كل منها واستعير النور بالاهتداء في كل منها وهذا المسلك الأدبي يسميه أهل البلاغة بعبارة (الاستعارة التصريحة الأصلية).
تجد ان هذه الاستعارة الفردية تجعل الهدى والضلال يستحيلان نوراً وظلمة. وذلك لإنها تبرز المعاني المعقولة الخفية من خلال صورة محسوسة، حية متحركة كأن عينك تراها ويدك تلمسها.
وتأمل لفظة كلمة (الظلمات) فإنها تصور لك بظلامها الضلال الليل الدامس يطمس معالم الطريق أمام الضلال فلا يهتدي إلى الحق.
ثم تأمل لفظة كلمة (النور) أنها بنورها تصور لك الهداية كمصباح منير ينير لك جوانب العقل والقلب ويوضح لك معالم الطريق أمام المهتدي لكي يصل بسهولة إلى الحق فينتفع به ويطمئن قلبه وتسكن نفسه ويحظى بالسعادة في الدنيا والأخره.
4 – خلاصة سبك وجزالة وتناسق بيان القران الكريم: المقصود من نظم القرآن هي طريقة تأليف الحروف وكلماته، وجمله، وسبكها مع أخواتها في قالب محكم، ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض مع أخواتها في قالب واحد.
ثم بعدها طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض والمقاصد التي يتكلم عنها، لغرض الدلالة على المعاني من خلال أوضح عبارة في أعذب سياق وأجمل النظم الذي ذكرناه.
وكما تلاحظ ان هناك فرق واضح فيما بين الاول لفظة كلمة الأسلوب والثاني لفظة كلمة النظم, فأن دائرة الاول (الأسلوب) هي أوسع وأشمل فلا يدرك من خلال الجملة الواحدة.
ولكن بينما الثاني لفظة كلمة (النظم) يمكن إدراكه في الجملة الواحدة بل وحتى في الكلمة الواحدة في ايات القران.
فالمتأمل في حروف ايات القرآن الكريم وكلماته لا يجد فيها شيئاً خارجاً عن المألوف المتداول في اللغة قديماً وحديثاً، ولكن عندما تعطر فمك بآيات الله تشعر من أن للعبارة القرآنية كيان خاص قد شيد عليه تراكيبه ورسم معالم صورة نظمه الرائع على هذا الكيان الفريد من نوعه.
ولكن ايات القرآن وردت في ثوب غير تلك الأثواب وفي صورة غير تلك الصور، وهو نسيج الوحده، وصورة ذاته، فلا هو من الشعر ولا هو من النثر ولا هو من السجع، إنما هو القرآن من عند الله.
ومجئ النظم القرآني على هذا الشكل من الإتقان والإحكام إنما يعود إلى أن الله تعالى لانه قد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله علماً إذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطة أي لفظة تصلح أن تبين المعنى بعد المعنى.
ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورةً أن بشراً لم يكن قط محيطاً. فلهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة[7].
فإن الذي يتمعن النظر في نظم القرآن يلاحظ ذلك التناسق الكامل والتآلف التام فيما بين العبارة القرآنية والمعنى الذي يُراد بيانه، وتوضيحه.
فالألفاظ في النظم يُلائم بعضها البعض وهي كلها متوجهة إلى الغرض المنشود من حيث إذا كان المعنى غريباً كانت ألفاظه غريبة وإذا كان المعنى معروفاً مستحدثاً كانت الألفاظ تناسبها.
وكما قال بديع الزمان : فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها. ويكون ذا قوة وقدرة إذا كان أجزاؤه مصداقاً لما قيل من الشعر فيه وانشد:
عبارتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
من أن تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته وكل شيء فيه ومن ثم يمدّ كل بقدره الغرض الكلي مع ثمراته الخصوصية. وفي الأمثلة التالية نلقي أضواء على هذا الجانب فمنها:-
( أ ) – جاء بالاسف والقسم : تجد انه حينما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف حالة النبي يعقوبA وهو يتأسف على النبي يوسفA فكانت تعتبر هذه الحالة غريبة في نظر أبنائه لأنهم لم يسدوا مكان النبي يوسفA.
وتلاحظ انه قد عبر عن هذه الحالة بكلمات غريبة كلها، كما قال الله سبحانه على لسانهم فيعبارة قوله تعالى : (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)[8].
من حيث هنا أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن حرف التاء أقل استعمالاً وأبعد عن أفهام عامة الناس، واما حرف الباء والواو أعرف عند عامة الناس وهي أكثر دوراناً على الألسنة وأكثر استعمالاً في الكلام.
ثم جاء الله سبحانه وتعالى هنا بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة إلى أخواتها فإنّ لفظة (كان) وما قاربها أعرف عند عامة الناس من تفتأ.
وجميع الناس للفظة (كان) وما قاربها أكثر استعمالاً منها وكذلك لفظ كلمة (حرضاً) هو أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن الوضع في نظم وترتيب الايات.
فتلاحظ أن تجاوز كل لفظة بلفظة اخرى من جنسها في الغرابة أو الاستعمال وذلك توخياً لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بتلك الألفاظ ولكي تتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم.
وجاء في مناهل العرفان في علوم القرآن[9] لتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريلA على النبيn هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس.
وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريلA ولا لمحمدA في إنشائها وترتيبها بل الذي رتبها أولا هو الله سبحانه وتعالى ولذلك تنسب له دون سواه وإن نطق بها جبريلA ومحمدn وملايين الخلق من بعدهما من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة.
وذلك كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
 فالله جلت حكمته هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتفهم كما نبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي لأجل التفهيم والتفهم.
ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه في نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريلA أو محمدn ولا لغيرهما.
كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولا إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه وقد أسف بعض الناس فزعم أن جبريلA كان ينزل على النبيn بمعاني القرآن والرسولn يعبر عنها بلغة العرب.
 وزعم آخرون أن اللفظ لجبريلA وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم.
 وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمدn أو لجبريلA ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله مع أن الله يقول حتى يسمع كلم الله وهم كما في عبارة قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[10].
( ب ) -  بيان ضعف البشر أمام الجبروت : وتجد في هذا المجال عبارة قوله تعالى : (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)[11] وهذا في سياق بيان الضعف البشري أمام جبروت الخالق تبارك وتعالى.
وهنا بمقامنا أراد بيان ضعفهم أمام العذاب الخفيف القليل فأتى بلفظة (إن) التي تفيد التشكيك في وقوعه، وكذلك جاء بلفظة كلمة (المسّ) بدل الإصابة أو الحرق فهو دونها في مرتبتها ودون الدخول.
وتجد كذلك لفظة كلمة (نفحة) مع تنوينها الذي يشعرك بضعف العذاب وحقارته ولفظة (من) المفيدة للبعضية فلم يأتهم كل العذاب بل هي نفحة عابرة يسيرة من جزء صغير من العذاب.
ثم جاء لفظة كلمة (العذاب) فلم يُضاف إلى اسم دال على القهر والجبروت بل تراه قد أضيف إلى أرق اسم يدلك على الشفقة وهو اللفظ (رب) ثم بعدها أضيف كلمة الرب إلى مقرّب محبوب وهو ضمير خطاب رسول اللهn.
فتلاحظ إن جميع الكلمات مسوقة إلى هدف واحد وهو وصف هذا العذاب بالقلة والضآلة والحقارة لكي يبيّن وبالتالي أن المذنبين يندمون ويتأسفون على ما عملوا لدى تعرضهم لنفحةٍ من عذاب الله كما في عبارة قوله تعالى: (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
وهكذا لو أستعرضنا آيات القرآن في نموذج من الموضوعات المذكورة فيه لكي تلاحظ هذا التناسق والانسجام الغريب العجيب فيما بين المعاني والألفاظ المختارة لأدائها فلا تلحظ أي تعقيد حينما يعثر الفكر في طلب مراده.
بل العكس تجد الألفاظ تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، مثل ألفاظ اللغة المستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر وبعيدة عن البشاعة عذبة سلسة مثل الماء في سلاسته والعسل في حلاوته والنسيم في رقته.
وبالإضافة لما ذكرنا مسبقاً عن التناسق فيما بين العبارة والمعنى الذي يراد توضيحه فتلاحظ إن هنالك نوع من التناسق الرائع فيما بين الكلمات في الجملة الواحدة وبين الحروف في الكلمة الواحدة.
فنظرة واحدة إلى تلك الحروف تبرز أمامك تناسبها لبعضها بشكل طبيعي في الهمس والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق وهو مما يصنع أنغام متناسقة ومتناسبة.
فهذه الخاصية ترجع إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها, كما أن وضع الكلمة في ضمن الآية واختيار موقعها والتئامها مع اختها له أثر كبير في إعطاء هذا الاشعار الخاص المؤثر في نفس السامع.
 ( ج ) -  كلمة (حرث) لتشبيه النساء : تلاحظ انه قد اختير لفظة كلمة (حرث) لغرض تشبيه النساء به من دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات وذلك في عبارة قوله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)[12]
وجاء في تفسير التبيان للشيخ الطوسيH الجزء الثاني قال: قيل في معنى قوله: (حرث لكم) قولان :
أحدهما - أن معناه : مزرع أولادكم، كأنه قيل : محترث لكم، في قول ابن عباس، والسدي، وإنما الحرث: الزرع في الاصل.
والقول الثاني : نساؤكم ذو حرث لكم، فأتوا موضع حرثكم أنى شئتم، ذكره الزجاج.
ولعله أختيار هذه اللفظة من دون سواها لما تحمل من لطف الكناية في ذلك التشابه بين الاول: صلة الزارع بحرثه والثاني: صلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص.
ومن ثم أوضح ذلك النبت وهو ماء الزرع الذي يخرجه (الحرث).
ومن ثم ذلك النبت (ماء الزرع) الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح واصلاح ادامة الحياة.
ولكن بينما جميع هذه اللطائف لا تستفاد من لفظة كلمة (الأرض) إذ قد تكون هذه الارض جدباء لا تصلح لحراثة الزرع وكذلك لفظة الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث.
وجاء في تفسير مجمع البيان الطبرسيH الجزء الثاني قال: انه روي عن الصادقA إن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس.
وقد قيل نزلت الاية ردا على اليهود حيث قالوا أن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول فكذبهم الله عن ابن عباس وجابر وقيل أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة فأنزل الله إباحته عن الحسن.
فمن خلال ذلك تلاحظ أن ايات القرآن الكريم تتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصوير وتشخيص للصورة وأجملها وأحلاها وزن بالنسبة إلى نظائرها.
( د ) –  ظلام الصمت: وتجد من هذا القبيل لفظة كلمة (أغطش) في عبارة قوله تعالى: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)[13].
فتجدها مساوية من حيث الدلالة اللغوية لكلمة (أظلم)، ولكن لفظة كلمة (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء اللغة.
فهذه الكلمة تعبر عن الظلام المنتشر فيه الصمت وعمّ الركود وخيمت في أنحائه مظاهر الوحشة. فلا يفيد هذا المعنى لفظة كلمة (أظلم) فهي تعبر عن السواد الحالك وليس غير ذلك.
فحينما تصف ايات القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة ـ اللاتي انتقدن مراودتها يوسفA عن نفسه ـ إلى جلسة نقلت لنا عبر الازمان في بيتها لكي تطلعهن فيها على ذلك الصبي يوسف وجمالهA.
 فيعذرنها ويلتمسن لها العذر فيما أقدمت عليه، فقدمت لهن في ذلك المجلس طعاماً بلا شك. وقد أوضحت ايات القرآن هذا، ولكن تلحظ انه لم يعبر عن ذلك بالطعام.
فهذه الكلمة تصور شهرة الجوع وتنقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وأسبابه، ولكن بماذا عبّر القران.
وأين تجد في اللغة تلك الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولكن بشرط لا تمس تلك الحادثة او الصورة التي نقلت لنا عبر سنين بأي تعكير أو تشويه.
تجد هنا قد أبدعت ايات القرآن لذلك تعبيراً عجيباً رائعاً حيث ذكرت في عبارة قوله تعالى: (لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً)[14].
ولفظة كلمة (متكأ) تعطيك معنى تصور لك من مائدة الطعام ذلك النوع الذي يقدّم تفكهاً وتبسطاً وتجميلاً للمجلس وتوفيراً لأسباب المتعة فيه، حتى من شأنيته أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والأتكاء.
ولعل زليخة أدركت بغريزتها النسائية ما سيؤول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ وما يحتاج فيه إلى سكين كما في عبارة قوله تعالى: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا).
وتلاحظ أحياناً يكون الاختيار للكلمة في مكان من دون أماكن اخرى ويستبدل به غيرها لسبب جدا لطيف بالرغم من كون الموضوع واحداً، لكن الكلمة المختارة تعطيك مدلول خاص لا يوفيه حقه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة.
ومن باب المثال : نزلت الملائكةD بالبشرى لنبي الله زكرياA بيحيى A ومثلهِ جاءت البشرى للسيدة مريم العذراءB بالسيد المسيحA.
ولكن تلاحظ وضع المبشرين مختلف، وتلقّى الخبر من الملائكة يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الرد الآخر، واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقاً بحالة ووضعه.
وهو كما قال النبي زكريا A عندما جاءته البشرى كما في عبارة قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)[15].
بينما قالت السيدة مريم B عندما جاءتها البشرى كما في عبارة قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)[16].
وجاء في كلام النبي زكريا A لفظ كلمة (الغلام) وهو الموافق والمطابق لحاله وذلك لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم.
ولكن الغريب في المعجزة هو أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وحينها امرأته عاقر فكانت التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي لفظة كلمة (غلام).
أما السيدة مريم B فالتعجب في جانب آخر ومغاير إذ أنها عذراء ولم يمسسها أي بشر ولم تك بغياً، فالغرابة والمعجزة من أن تلد وهي عذراء فكانت هي الكلمة المعبرة التي تؤدي المعنى بدقة وتوضح وجه الاستغراب لها هي لفظة كلمة (ولد).
فسبحان الله الذي أحاط علمه بسر اللغات ومكنوناتها كما في عبارة قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
( هـ ) – أستعمال كلمة قرية بدل مدينة والعكس: وتلاحظ انه من هذا القبيل استعمال لفظة كلمة (قرية) تارة واستعمال لفظة كلمة (المدينة) تارة اخرى في موضع آخر من سورة الكهف.
فتجد انه عندما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة (أهل قرية) لأن مادة كلمة (قرى) هي تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل.
ولكن عندما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنزهما جاء التعبير بلفظة كلمة (المدينة) لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها أليق بإضاعة المساكن والضعفاء، كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها ما موجود في القرى.
وتجد كل ذلك تلاحظه في عبارة قوله تعالى : ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا...وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ..)[17].
واليوم تفرض العولمة نفسها على الحياة، ويتحول العالم إلى قرية صغيرة واحدة، تتضاءل فيها تأثيرات الحدود الجغرافية والسياسية، لا يصح لنا أن نحافظ على هذه الحواجز والجدران المعززة بالعوازل، لكي تفصل بين أبناء هذه الأمة، تحت عناوين قومية أو مذهبية أو حزبية أو قبلية.
ومن الملفت للنظر، أن تكون خطوط الاتصال بين كل فئة منا والعالم، أكثر منها مع أبناء محيطها وشركائها في الدين والوطن[18].
بقي لفظة كلمة (قرية) عند صحاح المسلمين بما فعل القوم الظالمين من أهل القرى قبلكم، حيث قال تبارك وتعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً)[19] وإنما عنى بالقرية أهلها.
كما أخرج البخاري في صحيحه، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة انّ أبا هريرة قال: سمعت رسول اللّهn قال: قرصت نملة نبيّاً من الاَنبياء فأمر بقرية النّمل فأحرقت، فأوحى اللّه إليه أن قرصتْك نملة أحرقت أُمّة من الامم تُسبّح[20].
إنّ هذا النبيn سواء أكان من أُولي العزم أو من غيرهم، فهو إنسان معصوم لا يأخذ البريء بذنب المجرم، فلو افترضنا انّ النملة كانت مجرمة ـ مع أنّها ليست كذلك لاَنّ عملها عمل غريزي ـ فما هو ذنب سائر النمل[21].
إنّ فعل المحرِّق كان أقل شعوراً ورأفة من جنود سليمان فانّهم ما كانوا يحطّمون النمل عن شعور ولو كانوا يحطمون فانّما يفعلون ذلك دون أي شعور، قال سبحانه: (حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)[22].
( و ) -  دقة استعمال التعابير: تجد في قصة النبي يوسف A قد استعمل التعبير القرآني في كلمة (فأكله الذئب) ولم يستعمل عبارة (افترسه الذئب)، وعلماً أن الشائع في الاستعمال هو إطلاق كلمة الافتراس على مثل هذا النوع من صياغة الكلام، وتعتبر تلك اللطيفة دقيقة وهي أن حدث الافتراس من فعل السبع ومعناه القتل فقط.
وتلاحظ ان أصل الفرس (الافتراس) : هي دق العنق، واخوته إذا ادّعوا على الذئب أنه أكله أكلاً، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلاً ولا عظماً.
وسبب ذلك هي أنهم حذراً من مطالبة أبيهم إيّاهم بأي اثر باقٍ منه يشهد لهم بصحة ما ذكروه فادّعوا فيه الأكل لكي يزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس (الافتراس) لا يعطي تمام هذا المعنى فلا يصلح على هذا الا أن يعبّر عنه بالأكل.
تؤدي الكلمة وتوضع في مكان معيّن من العبارة من حيث لو تغيّر وضعها في حالة تقديم أو تأخير أو حذف لاختل ذلك اللفظ وذاك الوزن الخاص.
كما في عبارة قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى..)[23]. على فرض لو حذفت لفظة كلمة (الأخرى) لاختلت الفاصلة ولتأثر الوزن.
واما لو قيل عبارة : ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الأخرى) من خلال حذف لفظة كلمة (الثالثة) لاختل الوزن كذلك.
ومثلهِ كذلك عبارة قوله تعالى : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)[24].
فلو قيل عبارة : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك قسمة ضيزى)، من خلال حذف لفظة كلمة (إذن) لاختل الإيقاع المستقيم بلفظة كلمة (إذن).
فتلاحظ انه كأن هذه الكلمات والحروف موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات والاهتزازات.
فمن هنا يتضح السبب في إطلاق العرب الأوائل في بداية نزول الوحي اسم الشعر على ايات القرآن الكريم، وذلك لأنهم لم يعهدوا هذه الحساسية وهذا الوزن وهذا النغم إلا في الشعر وهذا قياس مع الفارق.
ولكن هؤلاء العرب عندما عرضوه على أوزان الشعر المعهودة عندهم، وجدوا ايات وسور القرآن الكريم لم تتقيد بقيود الشعر الكثيرة من قافية موحدة وتفعيلة تامة.
لذلك وجدوا أن ايات القرآن الكريم ملك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه كما أنه بفواصله الخاصة به قد أوجد الإيقاع الخاص به فلا يملكون إلا أن يقولوا:
إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسلفه لمُغدق، وإن أعلاه لمُثْمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. والله العالم.

[1]- سورة يس الاية 37.
[2]- سورة التكوير الاية 18.
[3]- سورة الحاقة  الاية 11.
[4]- سورة الحجر الاية 94.
[5]- سورة الكهف الاية 99.
[6]- سورة ابراهيم الاية 1.
[7]- مباحث في إعجاز القرآن الدكتور مصطفى مسلم ص133 وص142 طبعة دار القلم.
[8]- سورة يوسف الاية 85.
[9]- لمحمد عبد العظيم الزرقاني (المتوفى : 1367هـ) الناشر : مطبعة : عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة: الثالثة.
[10]- سورة التوبة الاية 9 .
[11]- سورة الانبياء الاية 46.
[12]- سورة البقرة الاية 223.
[13]- سورة النازعات الاية 29.
[14]- سورة يوسف الاية 31.
[15]- سورة ال عمران الاية 40.
[16]- سورة ال عمران الاية 47.
[17]- سورة الكهف الاية 82 – 77.
[18]-  راجع : أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع العلامة الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضليH.
[19]- سورة الانبياء الاية 11 .
[20]- راجع : صحيح البخاري:4 / 62، باب حدثنا يحيى بن بكير من كتاب الجهادو السير ؛ سنن أبي داود: 4 / 367 برقم 5266. ومثلهِ في صحيح مسلم.
[21]- راجع : الحديث النبوي بين الرواية والدراية دراسة موضوعية منهجية لأحاديث أربعين صحابياً تأليف الشيخ جعفر السبحانيK. وراجع : أعلام الدين في صفات المؤمنين.
[22]- سورة النمل الاية 18 .
[23]- سورة النجم الاية 19 – 20.
[24]- سورة النجم الاية 21.