الأربعاء، 12 أبريل 2017

ق2 اساليب التفسير الروائي من جميع جوانبهِ


ق2 اساليب التفسير الروائي
3- عصر الصحابة والتابعين : لقد حظيت الروايات التفسيريَّة لرسول اللهo وأئمة أهل البيتD باهتمام الصحابة والتابعين، حتّى أنّ البعض من الصحابة الكبار أمثال ابن عباس وابن مسعود كانوا لا يروْن أنفسهم مستغنين عن الإمام عليّ A والاستفادة من علمه. وأكثر أحاديث التفسير لابن عباس تلقّاها عن الإمام عليّA.
وفي الحقيقة تجد إنّ الصحابة والتابعين قاموا بتفسير القرآن أيضاً، فقد وصلتنا من آثار الاحاديث كثيرة كما عن ابن عباس وغيره. وذكروا أنّ الروايات التفسيريَّة في هذه الفترة جُمعت بصورة تدريجيَّة باسم (كتب التفسير الروائي). فمثلاً في مباحث الاُصول لاية الله العظمى السيد كاظم الحائري ذكر في ظواهر القرآن قال:
ما ينسب إلى الأخباريّين من دعوى أنّ ظواهر القرآن بالخصوص غير حجّة، ولعدم الفرصة الآن لنا لمراجعة كلمات الأخباريّين نعتمد هنا على ما نقل عنهم الاُصوليّون. والذي يظهر من نقل أصحابنا الاُصوليّين عنهم أنّ لهم في مقام سلخ الحجّيّة عن الآيات القرآنيّة مسلكين:
الأوّل: منع ثبوت ظهور للكتاب الكريم كي يكون حجّة أو غير حجّة.
والثاني: دعوى ظهور خروج الكتاب الكريم عن قانون حجّيّة الظهور.
والذي يرتبط بما نحن فيه هو المسلك الثاني، فإنّ المسلك الأوّل ليس تفصيلاً في حجّيّة الظهور كما هو واضح، ولذا نقدّم المسلك الثاني في البحث على المسلك الأوّل فنقول:
إنّه ذكر في كلمات أصحابنا من قبل الأخباريّين أو نقلاً عنهم الاستدلال على عدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم بوجهين: أحدهما من نفس الكتاب، والثاني من السنّة:
وإسقاط ظواهر القرآن بالقرآن: أمّا الوجه الأوّل: فهو قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الألْبَاب)[1].
حيث يقال: إنّ النهي عن اتّباع المتشابهات يشمل الظواهر أيضاً، فالمحكم ما يكون نصّاً في معنى واحد، والمتشابه ما يكون له عدّة معاني يشبه بعضها بعضاً في كونه معنى لهذا الكلام سواء كانت تلك المعاني متساوية، أو كان بعضها أرجح من بعض.
والتحقيق بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر: عدم تماميّة الاستدلال بهذه الآية على مطلوب الأخباريّ. ولتوضيح ذلك نعرض أوّلاً ما قاله أصحابنا7 في المقام، ثُمّ نستعرض ما هو الصحيح عندنا.
فقد جاء في كلمات أصحابناF في المقام: أنّه بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر لا يتمّ الاستدلال بالآية المباركة لإسقاط ظهور الكتاب عن الحجّيّة؛ لأنّ دلالة الآية المباركة على ذلك لو تمّت فإنّما هي بالظهور لا بالنصوصيّة والتصريح.
وعليه فردع الآية الشريفة عن حجّيّة ظهور الكتاب يستلزم المحال، وهو ردعها عن حجّيّة نفسها. أمّا وجه الملازمة فواضح؛ لأنّ الآية بنفسها ـ كما قلنا ـ لها ظهور وليست نصّاً وتصريحاً بالمقصود. وأمّا وجه استحالة اللازم فلأنّها لو ردعت عن حجّيّة نفسها للزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها، وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.
ويورد على هذا بأنّ المحال الذي ذكر إنّما يكون لازماً لشمول الآية الشريفة لنفسها وردعها عن حجّيّة نفسها، وهذا دليل على عدم شمولها لنفسها، وعدم ردعها عن حجّيّة نفسها، وتبقى الآية شاملة لباقي ظواهر الكتاب، وتكون حجّة في الردع عن حجّيّة باقي ظواهر الكتاب غير ظهور نفس هذه الآية.
ويجاب على هذا الإيراد بدعوى القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة ظهورها وعدم الحجّيّة، فإمّا أنّ تمام ظواهر الآيات حجّة، أو أنّ شيئاً منها ليست بحجّة.
وهذه الآية لو ردعت عن حجّيّة ظهور آية فمن المقطوع به أنّها إنّما تردع عنها لأنّه ظهور قرآنيّ، ولا فرق بينه وبين ظهور نفس هذه الآية، فبالتالي تكون حجّيّتها وردعها عن ظواهر الكتاب مستلزمة لعدم حجّيّتها، وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل[2].
إلى هنا تنتهي سلسلة البحث في كلمات أصحابنا على فرض شمول كلمة المتشابه للظاهر.
أقول: كأنّ الأصحاب F فرضوا الآية الشريفة من سنخ كلام الأقريطشي الذي قال تهجّماً على منطق اُرسطو: (إنّ جميع أخبار أهل أقريطش كذب) ـ وأقريطش بلد من بلاد يونان ـ فيعتبر هذا الكلام مستلزماً لاجتماع النقيضين؛ إذ يلزم من صدقه كذبه، ومن كذبه على تقدير كذب باقي أخبار الأقريطشيّين صدقه.
فالأصحاب F نسجوا الكلام على هذه الآية نسجاً منطقيّاً، بينما لو أخذنا بمفهومها العرفيّ لا تصل النوبة إلى هذا السنخ من البحث، ويجب تبديل منهج البحث، وبما أنّهم نهجوا هذا المنهج فنحن أوّلاً نقتفي أثرهم لنبيّن ما الذي ينبغي أن يقال لو انتهجنا هذا المنهج، ثُمّ نشرح بعد ذلك المنهج الصحيح للبحث.
أمّا ما نذكره بناءً على انتهاج منهج الأصحاب في المقام فهو ما يلي: قد وقع الخلاف بين أصحاب المنطق الارسطيّ والمنطق الرمزيّ في الإيمان بالمعاني الكلّيّة من قبيل الإنسان والحيوان وغير ذلك، وإنكارها.
فمنطق اُرسطو يؤمن بالمعاني الكلّيّة إلى صفّ الاُمور الجزئيّة، بينما المنطق الرمزيّ يقول: إنّ الألفاظ المفروض دلالتها على معان كلّيّة ليست إلاّ رموزاً للأفراد كنفس الأعلام الشخصيّة، فكلمة (الإنسان) مثلاً لا تدلّ على معنى كلّيّ جامع بين أفراده وإنّما هي رمز لزيد وعمرو وبكر.
وبناء على هذا المبنى لا يمكن للّفظ أن يشمل نفسه لاستحالة اتّحاد الدالّ والمدلول، أو الرمز وذي الرمز، وعلى هذا لا مجال لتصوّر اجتماع المتناقضين في مثل كلام الأقريطشي؛ لأنّ هذا الكلام لايشمل نفسه.
وكذلك الآية الشريفة لا تشمل نفسها، ولا تردع بالمباشرة إلاّ عن ظواهر باقي الآيات، فإن قلنا بما ادّعي: من العلم بتماثل تمام ظهورات الكتاب في الحجّيّة وعدمها، لزم ردعها بالملازمة عن نفسها، بيان استحالة ردعها عن نفسها، فيبطل القول بردعها عن باقي ظهورات الكتاب. أمّا إذا أنكرنا هذا العلم ـ وهو الصحيح ـ فهي حجّة في إثبات عدم حجّيّة باقي ظواهر الكتاب.
أمّا بناءً على مبنى المنطق الارسطيّ، وهو الاعتراف بالمعاني الكلّيّة، وأنّها وإن كانت متّحدة خارجاً مع الأفراد لكنّها متغايرة معها مفهوماً وتصوّراً، وحاصلة بإجراء عمليّة التجريد بوجه من الوجوه على الأفراد وأخذ الجامع بينها ـ وهذا هو المبنى الصحيح ـ فعليه لا مانع منطقيّاً من شمول اللفظ لنفسه، فقولنا مثلاً:
(الكلمة لفظ) يشمل لفظ الكلمة بلا لزوم اتّحاد الدالّ والمدلول، فإنّ المدلول في الحقيقة هو المعنى الكلّيّ المتغاير مع الأفراد المنطبق على تمام الأفراد بوجه من الانطباق، ومن تلك الأفراد المنطبق عليها ذاك المعنى الكلّيّ هو نفس لفظ الكلمة.
وكذلك قولنا: (كلّ كلمة اسم وفعل وحرف)، فلفظ (كلمة) ليس ابتداءً مرآة إلى ذات الأفراد، بل مرآة إلى معنى تجريديّ منطبق على الأفراد بوجه من الوجوه.
وعلى هذا يستأنف البحث في مسألة شمول الآية الشريفة وكلام ذاك الأقريطشي لنفسها وعدمه. والأصحاب أحالوا كلا الأمرين أعني: حجّيّة الآية بلحاظ نفسها، وشمول كلام الأقريطشي لنفسه بنكتة واحدة، وهي: استلزام وجود الشيء لعدمه، فالآية لو شملت نفسها لزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها، وكلام الأقريطشي لو شمل نفسه لزم من صدقه عدم صدقه.
ولكن التحقيق: أنّه لو تمّت دعوى الاستحالة في الموردين فهي بملاكين لا بملاك واحد، ففي كلام الأقريطشي تكون الاستحالة بملاك استلزام وجود الشيء لعدمه، وفي الآية الشريفة ليس هذا هو ملاك الاستحالة، فإنّها لو ردعت عن نفسها لم يلزم من حجّيّتها الواقعيّة عدم حجّيّتها الواقعيّة، وإنّما يلزم من حجّيّتها التعبّد بعدم حجّيّتها.
إذ لو دلّت أمارة شرعيّة على عدم حجّيّة شيء مّا ـ كالشهرة مثلاً ـ لم يثبت بذلك عدم حجّيّة ذاك الشيء واقعاً، وإنّما يثبت بذلك عدم حجّيّته ظاهراً. فالذي يلزم من حجّيّة هذه الآية هو التعبّد بعدم حجّيّة نفسها لا عدمها واقعاً، وهذا ليس محالاً بنكتة استلزام وجود الشيء لعدمه.
نعم، هو محال بملاك اللغويّة، فإنّ جعل الحجّيّة لدلالة الآية الشريفة على عدم حجّيّة نفسها لغو؛ إذ لو لم يصل هذا الجعل لم يكن له أثر في إثبات عدم الحجّيّة، ولو وصل لم يمكن التعبّد بعدم الحجّيّة؛ إذ التعبّد بعدم شيء إنّما يكون في ظرف عدم وصول ذلك الشيء وعدم العلم به، وعليه فلا أثر لهذا الجعل إطلاقاً.
وما ذكرناه: من ثبوت الاستحالة في المقامين بملاكين، إنّما هو من باب التسليم بما ذكروه في مسألة خبر الأقريطشي: من لزوم استلزام وجود الشيء لعدمه. والواقع أنّ أساس المغالطة في مثل كلام الأقريطشي شيء آخر، وهو بنفسه منشأ الاشتباه في النظر إلى الآية الشريفة على أحد وجهين. وتوضيح المقصود يتمّ بالكلام تارةً بشأن خبر الأقريطشي، واُخرى بشأن الآية الشريفة:
أمّا خبر الأقريطشي: فهو في الحقيقة ينحلّ إلى عدّة أخبار غير متناهية، فإنّه قد أخبر عن كذب باقي أخبار الأقريطشيّين، وهذا بنفسه خبر لأقريطشي، فقد أخبر عن كذبه، وهذا أيضاً بنفسه خبر لأقريطشي فقد أخبر عن كذبه، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وهذا الانحلال جاء من ناحية كون القضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة.
بعدد أفراد موضوعها المحقّقة والمقدّرة، فهذا الكلام من الأقريطشي ليس خبراً واحداً يلزم من صدقه كذبه، بل هو أخبار لا متناهية يلزم من صدق كلّ واحد منها كذب طرفيه، ومن كذبه صدق طرفيه، فلم يلزم كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه.
وأمّا الآية الشريفة: فتارةً يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو ظهورات الكتاب، واُخرى يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو الآيات الظاهرة:
فإن فرض الأوّل: كانت هذه الآية منحلّة أيضاً إلى قضايا لا متناهية بحسب الظهورات؛ إذ هي تدلّ على عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا بنفسه ظهور فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهو ظهور ثان لها فتدلّ على عدم حجّيّته.
وهذا في صالح عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا ظهور ثالث فتدلّ أيضاً على عدم حجّيّته، وهذا ظهور رابع لها في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
فللآية ظهورات لا متناهية، والأفراد منها في صالح عدم حجّيّة ظواهر الكتاب، والأزواج منها في صالح حجّيّتها، ولا يلزم من حجّيّة أيّ واحد من تلك الظهورات عدم حجّيّته، وإنّما يلزم منه عدم حجّيّة الظهور السابق عليه المردوع عنه بهذا الظهور اللاحق، وبالنتيجة تسقط هذه الآية عن الحجّيّة وتبقى باقي ظهورات الكتاب ثابتة على حجّيّتها. وذلك لأحد وجوه ثلاثة:
الأوّل : إنّ العرف لا يرى محصّلاً لكلام ينحلّ إلى ظهورات لا متناهية يردع كلّ واحد منها عمّا قبله، فيصبح هذا الكلام مجملاً ليس له ظهور في الردع عن باقي ظهورات الكتاب.
الثاني : إنّنا لو غضضنا النظر عمّا ذكرناه من إجمال الآية قلنا: إنّ لدينا سلسلة من الظهورات اللامتناهية، أوّلها ظهورات سائر الآيات غير هذه الآية الكريمة، وهي مردوعة بظهور هذه الآية المردوع بظهور آخر لها، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
والسيرة العقلائيّة قائمة على حجّيّة أيّ ظهور من الظهورات في حدّ ذاته، أي: أنّ المرتكز عند العقلاء هو العمل بكلّ ظهور لم يردعهم رادع عن مرتكزاتهم. ولا يمكن إثبات حجّيّة كلّ هذه الظهورات بالفعل بالسيرة؛ إذ حجّيّة الظهور الرادع يستحيل أن تجتمع مع حجّيّة الظهور المردوع عنه.
ولو كانت الظهورات متناهية لكانت الحجّيّة تنصبّ على آخر السلسلة بوصفه ظهوراً لا رادع عنه؛ إذ هو في ذاته ولو خُلّي وطبعه حجّة، والمفروض عدم رادع عنه، والذي قبله وإن كان أيضاً حجّة لو خلّي وطبعه لكنّه مردوع عنه بالظهور الأخير.
ولكن المفروض في المقام أنّ الظهورات ليست متناهية، عندئذ تنصبّ الحجّيّة على أوّل السلسلة، بنكتة أنّ فرض الحجّيّة الفعليّة لأوّل السلسلة ـ وهو باقي ظهورات الآيات غير هذه الآية ـلا يعني تعبّداً لنا بما هو خلاف طبع العقلاء، وإنّما يعني سقوط الظهور الثاني عن الحجّيّة بالقطع بكذبه، بينما فرض الحجّيّة الفعليّة للظهور الثاني يعني التعبّد بعدم حجّيّة الظهور الأوّل.
أي: التعبّد بما هو خلاف طبع العقلاء. فدوران الأمر بين هذين الفرضين أوجب فعليّة تأثير الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة أوّل السلسلة بعد ما لم يكن بالإمكان استقرار الارتكاز على حجّيّة كلّ ما في السلسلة.
الثالث : إنّ ظهورات هذه الآية متكاذبة فيما بينها، فإنّ تنافيها في الحجّيّة الفعليّة يؤدّي إلى تكاذبها، فمثلاً الظهور الأوّل لها يدلّ على عدم حجّيّة ظهور باقي الآيات.
وهذا السلب مع فرض سلب حجّيّة نفس ما يظهر من هذه الآية من السلب لغو[3]، فنقطع بكذب أحد السلبين، وهذا بخلاف باقي ظهورات الآيات، فلا تكاذب بينها وبين ظهور هذه الآية الرادع عنها؛ إذ من الممكن أن تكون تلك الظهورات مطابقة للواقع، ومع ذلك سلبت الحجّيّة عنها. إذن فظهورات هذه الآية تتساقط بالتعارض والتكاذب، ويبقى باقي ظهورات الكتاب حجّة.
وإن فرض الثاني ـ أي : أنّ هذه الآية ردعت عن الآيات الظاهرة لا عن ظهورات الآيات (ولعلّ هذا هو الظاهر من الآية بعد فرض تسليم كونها بصدد الردع عن الحجّيّة) ـ :
فعندئذ لا تنحلّ هذه الآية إلى قضايا لا متناهية؛ لأنّ عدد الآيات الظاهرة متناه لا محالة، فهذه الآية تدلّ على عدم حجّيّة باقي الآيات الظاهرة، ولكن لا تردع عن حجّيّة نفسها؛ لما عرفت:
من استحالة ذلك، وحينئذ إن ادّعينا العلم بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور بطل ردع الآية عن حجّيّة باقي الآيات الظاهرة أيضاً؛ لاستلزام ذلك المحال الذي عرفناه، وإن لم ندّع ذلك ـ وهو الذي ينبغي ـ تمّ مقصود الأخباريّ من الاستدلال بعدم حجّيّة ظهورات الكتاب بهذه الآية.
وهذا تمام الكلام فيما لو نهجنا المنهج الذي سلكه الأصحاب في المقام.
والتحقيق : أنّ هذا المنهج أساساً غير صحيح، فإنّنا لسنا بإزاء بحث منطقي نتكلّم فيه عن شمول اللفظ لنفسه وعدمه، وإنّما نحن بإزاء كلام عرفيّ لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ.
ولا أقصد بذلك أنّ كلّ لفظ يشمل نفسه بحسب البحث المنطقي لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ، فلا بأس بالقول بشموله لنفسه عرفاً ما لم تكن قرينة على الخلاف، فقولنا مثلاً:
(الكلمة لفظ) شامل للفظ (الكلمة) بلا إشكال، وإنّما نقول فيما نحن فيه بعدم شمول الآية لنفسها للقرينة؛ لأنّ الآية ـ بحسب الفرض ـ ظاهرة في أنّها بصدد الردع عن اتّباع المتشابهات، وتركيز هذا القانون بين المتشرّعة، وهو ترك العمل بالآيات المتشابهة، وهذا بنفسه قرينة على عدم شمولها لنفسها؛ إذ على فرض شمولها لنفسها لا يتحقّق ما هو الغرض منها: من الردع عن اتّباع المتشابهات.
وحينئذ إن ادّعينا القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور وعدمها بطل دليل الأخباريّ؛ لما مضى: من استحالة ردعها عن نفسها، وإلاّ تمّ دليل الأخباريّ بناءً على شمول المتشابهات للظواهر.
هذا كلّه بناءً على تسليم أصل دلالة الآية الشريفة على الردع عن العمل بالمتشابهات.
ولكن الصحيح : أنّ هذه الآية ليست بصدد الردع عن العمل بالمتشابهات أصلاً. قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الألْبَاب)[4].
وهذه الآية ـ كما ترى ـ لا تدلّ على أكثر من عدم جواز الاقتصار على العمل بالمتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقطع صلتها بالمحكمات رغم أنّها اُمّ الكتاب، كما كان ذلك عمل المشاغبين في صدر الإسلام، ولازال عملهم إلى يومنا هذا.
وليس الشيء المذموم في هذه الآية هو اتّباع المتشابهات في ضوء المحكمات، والاعتراف بأنّها اُمّ الكتاب، ومن دون قطع الصلة بين المتشابهات والمحكمات. وبتعبير آخر: إنّ الآية الشريفة لم تنه عن اتّباع المتشابهات بلسان (لا تتّبع المتشابهات) مثلاً، وإنّما جاءت بلسان التخصيص بعد القسمة كأن يقول أحد: (إنّ كتابي هذا ينقسم إلى قسمين منطق وحكمة، فالجالسون في الغرفة الفلانيّة درسوا المنطق).
وهذا ظاهر في أنّ الجالسين في تلك الغرفة درسوا المنطق فقط؛ لأنّ التخصيص بعد القسمة يعطي عرفاً معنى أنّ مَن خصّص به أحد القسمين مقتصر على ذاك القسم. والآية المباركة من هذا القبيل، حيث قسّم الكتاب إلى قسمين: آيات محكمات واُخر متشابهات، ثُمّ ذكر أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون أحد القسمين وهو المتشابهات، وهذا يعني أنّهم يقتصرون على العمل بالمتشابهات.
ومن الواضح عدم جواز العمل بالمتشابهات حتّى مع فرض شمولها للظواهر لا على ضوء المحكمات والنصوص، فالعمل بالظواهر يجب أن يكون بعد مدارسة النصوص والمحكمات التي يحتمل قرينيّتها لفهم المقصود من تلك الظواهر، أو أنّ أصل التبعيض في الدين والعمل بقسم دون قسم أيضاً غير جائز.
فذمّ مثل هذه الطريقة التبعيضيّة لا يدلّ بوجه من الوجوه على ذمّ اتّباع المتشابه المقرون باتّباع المحكم وعلى ضوئه.
وهنا بحث آخر في مقام النقاش في الاستدلال بالآية الكريمة لعدم حجّيّة ظواهر الكتاب، وهو أنّه ما معنى المتشابه؟ فهم بعد أن تسالموا على أنّ المتشابه هو الكلام الذي له عدّة معان بعضها يشبه بعضاً اختلفوا في أنّ هذا الشبه الموجود بين المعاني هل هو الشبه في أصل علاقة تلك المعاني باللفظ حتّى تشمل كلمة المتشابه الظواهر، أو هو الشبه في درجة العلاقة باللفظ فلا تشمل الظواهر؛ لأنّ درجة علاقة المعنى الظاهر باللفظ أشدّ من المعاني الاُخرى، وليست المعاني متشابهة في درجة العلاقة باللفظ.
أقول : إنّنا حتّى إذا قلنا : إنّ درجة الشبه هو أصل علاقة المعنى باللفظ، فكلمة (ابْتِغَاء تَأْوِيلِه) (بناء على ما فسّروا به التأويل من حمل اللفظ على معنى غير قواعد اللغة وقواعد اللسان) قرينة على أنّه لا يقصد باتّباع المتشابه ما يشمل اتّباع الظاهر، فحتّى لو كان لكلمة المتشابه إطلاق يشمل الظاهر فهذا الإطلاق مقيّد بكلمة (ابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) .
هذا كلّه بحسب ما تسالموا عليه : من أنّ المتشابه في الآية عبارة عن اللفظ المتشابه المعاني، والتأويل عبارة عن حمل اللفظ على غير ما تقتضيه قواعد اللغة. إلاّ أنّ هذا ممّا لا نسلّم به.
وأوّل مَن ذكر أنّ المراد من التأويل هنا غير التأويل بالمعنى المصطلح هو ابن تيميّة، حيث ذكر: أنّ المراد بالتأويل في الآية المباركة ليس هو التأويل بالمعنى المصطلح، بل هو التأويل بمعنى الأوْل وما يرجع إليه الشيء ويؤوْل إليه.
واستدلّ[5] على ذلك باستقراء آيات اُخرى جاءت فيها كلمة التأويل، وأثبت أنّ التأويل فيها جاء بمعنى ما يؤوْل إليه معنيين آخرين من كلمة التأويل في المقام، لينحصر المقصود في إرادة معنى الأوْل والرجوع.
أمّا المعنيان الآخران فأحدهما التأويل بمعنى التفسير، والثاني التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
ويقول بالنسبة للمعنى الأوّل بأنّه ليس مقصوداً في المقام، وليس فهم المتشابه من القرآن محصوراً بالله تعالى مثلاً؛ لأنّ القرآن نزل نوراً وهدىً وشفاءً للبشريّة، واُمرنا بتدبّره وتعقّله، ويذكر لذلك بعض الشواهد. ويقول بالنسبة للمعنى الثاني:
إنّه لا يمكن صرف اللفظ في الآية الكريمة إليه؛ لأنّ هذا المعنى لم يكن بعد قد عرف في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمّة الأربعة، ولا كان التكلّم بهذا الاصطلاح معروفاً في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحداً منهم خصّ لفظ التأويل بهذا[6], وقد ذكروا فائدة[7].
والتحقيق : أنّ هذا الرجل وإن أصاب في المدّعى ولكنّه أخطأ في الدليل، فإنّ ورود التأويل في آيات اُخرى بهذا المعنى يكون منشأً لإمكان إرادة المعنى بهذا اللفظ لا تعيّن إرادته به، فيحتمل ذلك.
ويحتمل وروده بالمعنى المصطلح الذي استعملت فيه كلمة (التأويل) في عدّة من النصوص والأخبار المقاربة لعهد القرآن الكريم، فغاية ما ينتج من هذا الاستقراء هي صيرورة التأويل في هذه الآية مجملاً لنا بغضّ النظر عن قرينة متّصلة، أو منفصلة تعيّن لنا المراد منها.
أمّا ما نثبت به نحن نفس المدّعى فهو وجود قرينة في نفس الآية المباركة على المعنى الذي ذكره، وهي فرض الاتّباع في قوله: (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، فإنّ فرض اتّباع كلام هو فرض الأخذ بمدلوله المتعيّن، فإنّ الاتّباع بقول مطلق في نظر العرف يعني الأخذ بالمعنى المفهوم من الكلام لا الأخذ بأحد معنيين متساويين للكلام بلاقرينة.
فمثلاً ماذا يفهم من الأوامر التي وردت في التمسّك بالكتاب والسنّة واتّباعها؟ هل يتوهّم أحد شمولها لحمل اللفظ على أحد معانيها المشتركة. إذن فمعنى اتّباع المتشابه هو اتّباع ما يظهر من المتشابه، واتّباع الظهور ليس تأويلاً بالمعنى المصطلح، فيتعيّن أن يكون المراد بالتأويل هنا الأوْل والرجوع.
يبقى الكلام في أنّ هذا الأوْل والرجوع ماذا يراد منه؟.
والتحقيق : أنّ الآية الكريمة قسّمت الآيات إلى محكمات ومتشابهات، وليس المقصود بالمتشابه كون اللفظ متشابه المعنى بأن تكون للّفظ معان متعدّدة متشابهة في علاقتها باللفظ، أو في مقدار علاقتها به، بل المقصود به كون المعنى متشابهاً، أي: مجمل الحقيقة غير معلوم الحدود بحسب عالم التطبيق، وتصوّر ذاك المعنى بتصوّر مصداقه.
فمثلاً: (استواء الرحمن على العرش) ليس لفظاً متشابه المعنى، لكن معناه بحسب التقريب إلى الذهن لا يخلو من غموض وإبهام، ولا يمكن تصوّر المصداق المناسب منه له تعالى، وما يؤوْل إليه المعنى من حقيقة الواقع والمصداق المتحقّق بحسب الخارج، وهذا بخلاف الآيات المحكمة، فإنّها محدّدة المعنى سهلة التصوّر بحسب عالم التطبيق.
والخلاصة: أنّ المقصود بالتأويل هو الأوْل والرجوع وما يؤوْل إليه المعنى في عالم التطبيق والمصداق. والمقصود بالمتشابه هو المتشابه من حيث المعنى ولا يمكن اتّباعه. والمراد بالمحكم ـ بقرينة تقابله للمتشابه ـ هو المحكم بلحاظ ما يؤوْل إليه المعنى في عالم المصداق وتجسيد المعنى لا بلحاظ المعنى.
وبما ذكرناه أيضاً يبطل تفسير التأويل بمعنى غامض وخفيّ بالنسبة لكلا قسمي الكتاب المحكمات والمتشابهات، وهو دعوى أنّ التأويل يكون بمعنى الوجود الجمعيّ للقرآن الذي اُشير إليه في قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ).
حيث فرض إحكاماً ثُمّ تفصيلاً، فاستظهر من تلك الآية أنّ هناك وجودين للقرآن: وجوداً جمعيّاً ووجوداً تفصيليّاً، فالوجود التفصيليّ هو هذا القرآن الموجود بأيدينا، والوجود الجمعيّ هو تأويل هذا القرآن.
هذا المطلب لا يحتمل في هذه الآية؛ إذ إنّنا نتسائل ما هي الجهة التي بلحاظها فرضت الآية المتشابهة متشابهة؟ هل هي جهة المعنى، أو جهة التأويل؟
إن قلتم: إنّها جهة المعنى لزم أن تكون الآية المتشابهة متشابهة المعنى، وقد فرغنا عن أنّ المقصود هو التشابه بالأوْل لا بالمعنى.
وإن قلتم: إنّها جهة التأويل لزم أن تكون الآيات المحكمة محكمة التأويل، بينما هي غير محكمة التأويل بناءً على تفسير التأويل بذاك الوجود الجمعيّ، فإنّ الوجود الجمعيّ للقرآن بتمامه متشابه، وممّا لا يمسّه إلاّ المطهّرون مثلاً[8] وعلى أيّ حال، فهذا بحث تفسيريّ بحت لا علاقة له بوظيفة الاُصوليّ؛ لأنّنا بيّنّا أنّ الاستدلال بالآية غير تامّ على كلّ حال[9].
4- عصر جمع وتأليف الروايات التفسيريَّة: يعتبر أوّل تدوين في هذه المجموعة لدى الشيعة الامامية هو الكتاب المنسوب إلى الإمام عليّ بن ابي طالبA الّذي ورد على شكل حديث مفصّل في بداية تفسير النعماني[10].
ولكن هناك كتاب آخر، هو مصحف الامام عليّ بن أبي طالبA الّذي جاء فيه تأويل القرآن والتفسير وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ومرتّب على حسب النزول، وإن كان هذا الكتاب ليس في متناول أيدينا الآن[11].
ويمكنك مراجعة كتاب مؤلف تحت عنوان (مصحف عليA هو القران) وهو الجزء التاسع عشر من موسوعة اتقان القران وعلوم الرحمن لمؤلف هذا الكتاب.
وتجد التفسير المنسوب إلى الإمام محمد الباقر A المعروف بتفسير عليّ بن إبراهيم القمّي المنقول عن طريق أبي حمزة الثمالي وأبي الجارود. ومثلهِ التفسير المنسوب إلى الإمام الصادق A وكذلك تفسير فرات الكوفي (كان حيّاً في سنة 307هـ)، والتفسير المنسوب للإمام العسكريA.
وقد بوبت وجمعت الاحاديث الفقهيّة الصادرة عن رسول اللهo وأئمة أهل بيتهD في مجاميع روائية وصلتنا اليوم مثل:
كتاب اصول الكافي، وكتاب من لا يحضره الفقيه، وكتاب التهذيب، والاستبصار؛ وكذلك دُوِّن في هذا الزمن تفسير جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري (ت320هـ)، وكذلك الصحاح الستّة لأهل السنّة.
بعدها واجهت حركة تدوين التفاسير ركود نسبي من القرن الخامس إلى القرن التاسع الهجري؛ فيما برزت التفاسير العقليّة والاجتهاديّة.
واما في زمن كتابة التفاسير الجديدة، برز الاهتمام بالاحاديث التفسيريّة الّتي عادةً ما تُبحث اثناء التفسير أو بصورة منفصلة عنه؛ كما فعل العلّامة الطباطبائي حينما ذكر البحث الروائي بعد كلّ مجموعة من الآيات.
فان لم تسلم احاديث التفسير في عصر التدوين والجمع من ظاهرة الوضع، مع وجود الإسرائيليات وتسلّل بعض الروايات الضعيفة؛ وهذا ما يستوجب عليك الحذر والدقَّة عند الاستفادة من بعض المصادر الروائيّة.
جيم : مكانة الروايات في التفسير: يمكنك تقسيم آراء العلماء حول مكانة وحدود الاستفادة من الاحاديث في التفسير إلى ثلاثة آراء وهي:-
الرأي الاول : استقلالية القرآن وعدم احتياجه للحديث بالتفسير.
ويعتبر منشأ هذا الرأي هو أنّ الكتاب نزل بلسانٍ عربي مبين، وأنّ العقل كافي لغرض فهم القرآن فلا يحتاج إلى الأحاديث لغرض تفسيره.
ولكن هذا الرأي يتعارض مع ما جاء في الاية بقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[12] وكذلك نفس الكلام يجري لتعارضه مع حديث الثقلين.
ويمكنك أن تقول من أنّ الجذور التأريخية لهذا الرأي راجعة إلى شعار (حسبنا كتاب الله) الّذي رُفع في زمن رسول اللهo والّذي أصرّ على فصل القرآن عن أهل بيتهD.
الرأي الثاني : عدم جواز تفسير القرآن إلّا من خلال الروايات. وهذا الرأي متطرِّف منسوب لبعض الأخباريين.
الرأي الثالث : اتخاذ الاحاديث وسيلة وقرينة لغرض تفسير الآيات.
وهذا الرأي يعتبر معتدل وهو المختار، الّذي يعتبر من ان الروايات الشريفة هي قرائن لتفسير القرآن، وأدوات لتوضيح معاني ومقاصد الآيات، ولها استخدامات متنوّعة في التفسير، كما هو حال القرائن العقلية وآيات القرآن.
فأحاديث أئمة أهل البيتD لا يمكنها أن تفترق وتبتعد عن القرآن لأنّه الأصل واما الروايات هي الفرع لذلك الأصل وهو القران.
ويُمكنك أن تقول إنّ سنّة رسول اللهo وأهل البيتD تعتبر هي المصدر لغرض تفسير القرآن، ومن جهةٍ أخرى تكون هي قرينة ووسيلة للتفسير فلا يوجد تنافي بينهما.
الخلاصة : فالمقصود من الحديث في منهج التفسير الروائي هو السُنّة نفسها من (قول وفعل وتقرير) المعصومA وتشمل سنّة رسول اللهo وأهل بيتهD.
كما معلوم بدأ التفسير الروائي في زمن رسول اللهo واستمرّ إلى عهد أهل البيت D والصحابة، الّذين نقلوا الروايات التفسيريّة للنبيّ o في الكثير من أقوالهم.
ثمّ بعدها جمعت في مجاميع تفسيريّة فتجد هناك ثلاثة آراء رئيسة بالنسبة إلى مكانة الأحاديث في تفسير القرآن وهي:-
الرأي الاول : استقلالية القرآن وعدم حاجته إلى الأحاديث.
الرأي الثاني :  عدم جواز تفسير القرآن إلّا من خلال الأحاديث.
الرأي الثالث : استخدام الروايات كوسيلة وقرينة في التفسير.
فمن التفسير الروائي الميسر للقرآن الكريم كما قال رسول اللهo لمقدادE عن كتاب نَوَادِرُ الرَّاوَنْدِيِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍA عَنْ آبَائِهِD قَالَ:
( قَالَ عَلِيٌّA خَطَبَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ o فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ فِي زَمَانِ هُدْنَةٍ وَأَنْتُمْ عَلَى ظَهْرِ سَفَرٍ وَالسَّيْرُ بِكُمْ سَرِيعٌ فَقَدْ رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ وَيَأْتِيَانِ بِكُلِّ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ فَأَعِدُّوا الْجَهَازَ لِبُعْدِ الْمَجَازِ فَقَامَ مِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَقَالَE:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا نَعْمَلُ ؟ فَقَالَJ:
إِنَّهَا دَارُ بَلَاءٍ وَابْتِلَاءٍ وَانْقِطَاعٍ وَفَنَاءٍ فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْأُمُورُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ. وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ وَمَنْ جَعَلَهُ الدَّلِيلَ يَدُلُّهُ عَلَى السَّبِيلِ وَهُوَ كِتَابُ تَفْصِيلٍ وَبَيَانُ تَحْصِيلٍ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ وَلَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَظَاهِرُهُ حُكْمُ اللَّهِ وَبَاطِنُهُ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَظَاهِرُهُ وَثِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ.
لَهُ نُجُومٌ وَعَلَى نُجُومِهِ نُجُومٌ لَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ وَلَا تُبْلَى غَرَائِبُهُ فِيهِ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَمَنَارُ الْحِكْمَةِ وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ النَّصَفَةَ.
فَلْيَرِعْ رَجُلٌ بَصَرُهُ وَلْيَبْلُغِ النَّصَفَةَ نَظَرُهُ يَنْجُو مِنْ عَطَبٍ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ نَشَبٍ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمُسْتَنِيرُ فِي الظُّلُمَاتِ وَالنُّورُ يُحْسِنُ التَّخَلُّصَ وَيُقِلُّ التَّرَبُّص‏)[13].انتهى.
فلاحظ هنا رسول الله o جعل القرآن الكريم هو المنجى والخلاص من الفتن ان اقبلت مثل قطع الليل المظلم.
ومثلهِ قال الامام الصادق A ان من لم يعرف الامام والامامة من القرآن المجيد المبارك لا محيص من وقوعه في الفتن ؛ فهل عرفنا تشيعنا من القرآن الكريم ام نحن واقعون في الفتنة من حيث لا نشعر[14].
وكما جاء في كتاب المحاسن‏: دَاوُدَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ A قَالَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَنَكَّبِ الْفِتَنَ[15].
ومثلهِ جاء في كتاب تفسير العياشي‏: عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِA مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَنَا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَنَكَّبِ الْفِتَنَ.
وتتعلّق مناهج التفسير بالمصادر والأدوات وكيفيّة استخراج معاني ومقاصد الآيات، وأمّا الاتجاهات التفسيريّة فتتعلّق بذوق وعقائد وعلوم المفسِّر وأسلوب الكتابة وغيرها.
وكما علمت انه بدأت بعض المناهج بالظهور في عهد رسول اللهJ كمنهج تفسير القرآن بالقرآن، وقد ظهرت وتطوّرت أساليب ومناهج جديدة في القرن الثاني الهجري نتيجة عوامل مختلفة.
وتلاحظ انه من العوامل المؤثّرة في نشوء وتنوّع المناهج والاتجاهات التفسيريّة عبارة عن:
طبيعة القرآن، الأمر القرآني باتباع النبيّJ باعتباره مفسِّراً للقرآن، اعتقاد المفسِّرين، الآراء الشخصيّة، نفوذ أفكار غير المسلمين في الأوساط الإسلامية، اختلاف المصادر والوسائل، وكذلك الاتجاهات العصرية، مع أسلوب الكتابة عند المفسِّرين.
وتلاحظ ان المناهج التفسيريّة تُقسَّم إلى قسمين وهي ناقصة وكاملة، واما المناهج الناقصة فهي ستة أقسام:
القرآن بالقرآن، الروائي، العلمي، الإشاري، العقلي، الاجتهادي، والتفسير بالرأي. والمنهج الكامل هو الّذي يراعي جميع المناهج السابقة باستثناء التفسير بالرأي.
وقد قُسِّمت الاتجاهات التفسيريّة على النحو التالي:
1- المذاهب التفسيريّة : ( تفسير الإسماعيليّة - تفسير الإثني عشرية).
2- المدارس التفسيريّة : ( تفسير المعتزلة - تفسير الأشاعرة).
3- ألوان التفسير : ( التفسير الفقهي - التفسير الأدبي أو الفلسفي أو الأخلاقي).
4- الاتجاهات العصريّة : ( التفسير الجهادي - التفسير السياسي).
5- أساليب كتابة التفسير: ( الترتيبي – الموضوعي - المختصر، المتوسط، المفصَّل المزجي).

[1]- سورة آل عمران الاية 7 .
[2]- قال اية الله العظمى السيد الحائريK: لا يخفى أنّ إنكار حجّيّة الآية بالنسبة لنفسها أو مطلقاً لا يحلّ مشكلة استلزام وجود الشيء لعدمه، فإنّ نفس كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه مستحيل، واستلزام الشيء لنقيضه غير معقول، لا أنّ هذا معقول وممكن غاية ما هناك أنّ ذاك الشيء الذي يلزم من وجوده عدمه يستحيل وجوده.
ثم قالK : وهذا يعني أنّ الأصحاب في المقام لم يستطيعوا الفرار من المحال بل التزموا بالمحال، وهو استلزام حجّيّة هذه الآية لعدم حجّيّتها وإن أنكروا حجّيّة هذه الآية. وقد عرضت هذا الكلام على سيّدي الاُستاذ الشهيدH فأمضاه.
[3]- لا يخفى أن كلّ سلب بالنسبة لما بعده من السلب حكم واقعيّ بالنسبة للحكم الظاهريّ، فيجمع بينهما بما يجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ من دون تكاذب. ودعوى اللغويّة تكون كدعوى لغويّة الحكم الواقعيّ الذي نفاه الحكم الظاهريّ، ولو تمّت لسرت إلى باقي ظهورات آيات الأحكام فيقال: (إنّها تلغو بسلب الحجّيّة عن الظهورات الدالّة عليها).
[4]- سورة ال عمران الاية 7.
[5]- الذي يبدو ممّا هو منقول في تفسير المنار أنّ هذا الاستدلال ليس لابن تيميّة، وإنّما هو لمؤلّف تفسير المنار (محمّد رشيد رضا). أمّا ما ذكره ابن تيميّة فهو إبطال إرادة?.
[6]- تفسير المنار، ج 3، ص 172 ـ 196.
[7]- ذكرها اية الله العظمى السيد كاظم الحائريK وهي: من الطريف جواب جدليّ على استدلال الأخباريّين بالآية المباركة نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيدH، وهو: أنّه بناءً على ما التزموا به من قطعيّة الكتب الأربعة، ومن فتح باب التمسّك بالروايات في تأويل القرآن مهما كانت غريبة ومهما كان السند ضعيفاً يقال لهم:
قد روي في الكافي عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله)A: «في قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب) قال: أمير المؤمنين والأئمّةD (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) قال: فلان وفلان وفلان، (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أصحابهم وأهل ولايتهم، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم) أمير المؤمنين والأئمّةD». تفسير البرهان، ج 1، ص 270. والكافي، ج 1، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح14، ص414 و415 بحسب الطبعة الجديدة، إلاّ أنّه جاء في الطبعة الجديدة: (فلان وفلان)، ولعلّ كلمة (فلان) الثالثة ساقطة عن الطبعة.
[8]- كأنّ هذا المقطع الأخير من الكلام الذي يبحث تفسير التأويل بمعنى الرجوع إلى الوجود الجمعيّ للقرآن إشارة إلى ردّ ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّH في تفسير الميزان، ج3، ص54 و55.
[9]- راجع : ظواهر القرآن في مباحث الاُصول لاية الله العظمى السيد كاظم الحائريK.
[10]- قد تكتب هذه الرسالة تحت عنوان رسالة المحكم والمتشابه، وتُنسب إلى السيّد المرتضىH، وقد جاءت في اجزاء سلسلة بحار الأنوار (المجلّدات المختصّة بالقرآن).
[11]-  بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّH، ج 89، ص 40.
[12]-  سورة النحل الآية 44.
[13]- بحارالأنوار 74 136 باب 6- جوامع وصايا رسول اللهJ.
[14]-  سلسلة بحار الأنوار 2 242 باب 29- علل اختلاف الأخبار.
[15]-  موسوعة بحار الأنوار 89 115 باب 12- أنواع آيات القرآن وناسخها.