ق2 إعجاز البيان في سورة
المدثِّر
( 4 ) : - قوله تعالى : ( وَلَا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ ): تلاحظ
ان هذا التوجيه هو إنكاراً لذاته وهو عدم المَنِّ بما يقدمه من الجهد في سبيل
الدعوة استكثارًا له، واستعظامًا فهو المراد من عبارة قوله تعالى: (وَلَا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ)[1].
وهذا النَهْيٌ عن المنِّ بما سيبذله
من الجهد والتضحية في سبيل دعوة ربه, فيه إشارة إلى أنه سيقدم الاكثر والكثير،
وسيبذل الغالي والنفيس، وسيلقى من الجهد والتضحية والعناء الكثير.
فالدعوة لا تستقيم في نفسٍ تُحِسُّ
بما يُبذَل فيها من التضحيات. فهذا البذل فيه من الضخامة، من حيث لا تحتمله النفس
إلا حينما تنساه؛ بل حين لا تستشعر به من الأصل؛ وذلك لأنها مستغرقة في الشعور
بالله، فتشعر أن كل ما تقدمه هو من فضل الله تعالى، ومن عطاياه.
كما ذكر ذلك تفسير نور الثقلين قال :
في اصول الكافى : قال رسول اللهo: من اعطى لسانا ذاكرا فقد اعطى خير الدنيا
والاخرة، وقال في قوله تعالى: ( ولا تمنن تستكثر ) قال: لا تستكثر ما عملت.
فهذا الفضل يمنحها إياه، وعطاء
يختارها له، ومن ثم يوفقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم، فيستحق الشكر لله،
لا المنَّ والاستكثارَ.
وهو معنى قول الحسن والربيع: لا تمنن
بحسناتك على الله تعالى، مستكثرًا لها. أي رائيًا إياها كثيرة، فتنقص عند الله عز
وجل.
وقد قرأ الحسن والأعمش: لفظة
(تَسْتَكْثِرَ) بالنصب، على إضمار: أن. وكما قرأ ابن مسعودE: عبارة (أَنْ تَسْتَكْثِرَ) بإظهار: أن.
فهنا المنُّ بمعنى الإعطاء، وهو
الكلام على إرادة التعليل. أي بمعنى: ولا تعطِ لأجل أن تستكثر. أي: تطلب الكثير
ممن تعطيه. وعلى هذا المعنى جاء قول ابن عباس E: في عبارو (لا تعطِ مستكثرًا).
أي بمعنى : طالبًا للكثير ممن تعطيه.
فهو نهي عن الاستغزار؛ وهو أن يهب شيئًا، وهو يطمع أن يتعوَّض من الموهوب له أكثر
مما وهب له.
كما قال الفرَّاء في معاني القرآن
معقبًا على قراءة ابن مسعود: فهذا شاهد على الرفع في كلمة (تَسْتَكْثِرُ). ولو جزم
جازم على هذا المعنى، كان هو الصواب.
وجاء مثلهِ كذلك الجزم قراءة الحسن
وابن أبي عبلة. وخرِّجت قراءتهما؛ إما للوقف. أو الإبدال من لفظة (تَمْنُنْ)؛ كأنه
قيل: ولا تمنُنْ، لا تستكثرْ، على أنه من المنِّ، الذي في عبارة قوله تعالى:
(ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى)[2] لأنه من يمُنُّ بما يعطي، يستكثره،
ويعتد به.
وجاء في عبارة قوله تعالى: (ولا تمنن
تستكثر) قال ابن عباس وابراهيم والضحاك وقتادة ومجاهد: معناه لا تعط عطية لكي
تُعطى أكثر منها، وقال الحسن والربيع وانس: معناه لا تمنن حسناتك على الله مستكثرا
لها، فينفصل ذلك عبدالله.
ولكن ابن زيد قال : معناه لا تمنن ما
أعطاك الله من النبوة والقرآن مستكثرا به الاجر من الناس.
وقال ابن مجاهد : معناه لا تضعف في
عملك مستكثرا لطاعتك، وقال قوم: معناه لا تمنن على الناس بما تنعم به عليهم على
سبيل الاستكثار لذلك.
وقد قال جماعة من النحويين: إن كلمة
(تستكثر) في موضع الحال ولذلك رفع. وأجاز الفراء الجزم على أن يكون جوابا للنهي،
والرفع هو الوجه.
وكلمة المن هي ذكر النعمة بما يكدرها،
ويقطع حق الشكر فيها، كما يقال في عبارة: من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك، فأما من
على الاسير إذا أطلقه، فهو قطع أسباب الاعتقال عنه.
وكذلك يقال : لمن أنعم على وجه المن،
لانه بهذه المنزلة، وأصله القطع كما في عبارة قوله: (فلهم أجر غير ممنون)[3] أي بمعنى غير مقطوع.
وهنا الاستكثار هو طلب الكثرة كما
يقال في عبارة : استكثر فلان من المال والعلم، ومرادنا هو طلب ذكر الاستكثار
للعطية[4].
( 5 ) : - قوله تعالى : ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
): ان
المقصود به هو توجيه الصبر لربه فهو المراد في عبارة قوله تعالى: (وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ)[5].
أي بمعنى : اصبر لربك على أذى
المشركين. ولكن الأحسن حمله على العموم، فيفيد الصبر على كل مصبور عليه، ومصبور
عنه. وتجده يدخل فيه الصبر على أذى المشركين؛ وذلك لأنه فرد من أفراد العام، لا
لأنه وحده هو المراد.
وتلاحظ الصبر بمفهومه العام هو
الوصية، التي تتكرر عند كل تكليف في هذه الدعوة، أو تثبيت، وهو الزاد الأصل في
معركة الدعوة إلى الله تعالى.
وتعتبر هي معركة طويلة عنيفة، لا زاد
لها يسدها إلا الصبر، الذي يُقصَدُ فيه وجه الله تعالى، ويُتَّجَهُ به إليه
احتسابًا عنده وحده كما في عبارة قوله تعالى: (إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير
حساب)[6].
وعبارة قول الله تعالى : ( وبشّر
الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * اُولئك
عليهم صلوات من ربّهم ورحمة واُولئك هم المهتدون)[7].
وعبارة قول الله تعالى : ( استعينوا
بالصّبر والصلوة )[8]. وعبارة قول الله تعالى: ( والله يحبّ
الصّابرين )[9] وعبارة قول الله تعالى: ( ولنجزينّ
الّذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)[10]. وعبارة قول الله تعالى: ( وجزاهم بما
صبروا جنّةً وحريراً )[11]. وغير ذلك من الآيات المذكورة في سلسلة
بحار الانوار[12].
وجاء في المجمع : الصبر هو حبس النفس
عن اظهار الجزع; وعن بعض الأعلام: الصبر حبس النفس على المكروه إمتثالاً لأمر الله
تعالى، ويؤيده عبارة قول الله تعالى: (ولربّك فاصبر) وهو من أفضل الأعمال حتّى قال
النبي o: الإيمان شطران: شطر صبر وشطر شكر.
وجاء في أخبار جنود العقل قالA: والصبر وضدّه الجزَع.
وكذلك ذكر في كتاب اصول الكافي : عن
حفص بن غياث قال: قال أبو عبدالله A: ياحفص إنَّ من صبر صبر قليلاً، وإنَّ من
جزع جزع قليلاً، ثمَّ قال:
عليك بالصبر في جميع اُمورك فإنَّ
الله عزَّوجلَّ بعث محمّداًo فأمره بالصبر والرفق، فقال:
( واصبر على ما يقولون واهْجُرهم
هَجراً جميلاً) وقال تعالى: (إدفع بالّتي هي أحسن السيّئة)ـ الآية.
فصبر رسول اللهJ حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها فضاق صدره،
فأنزل الله تعالى على رسول اللهo: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون) ـ
الآية.
ثمَّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل
الله عزَّوجلَّ عليهo: (وقد نعلم أنّه ليحزنك الّذي يقولون) ـ إلى
أن قال: ـ (ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم
نصرنا).
فألزم رسول اللهo نفسه بالصبر، فتعدّوا، فذكروا الله تبارك
وتعالى وكذّبوه، فقال النبيo: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي
على ذكر إلهي، فأنزل الله عزَّوجلَّ:
(ولقد خلقنا السموات والأرض وما
بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون).
فصبر في جميع أحواله ثمَّ بُشِّر في
عترته بالأئمّةD ووُصفوا جميعهم بالصبر، فقال جلَّ ثناؤه:
(وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا).
فعند ذلك قالn : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر
الله عزَّوجلَّ ذلك له، فأنزل الله عزَّوجلَّ: (وتمّت كلمة ربّك الحسنى بما صبروا)[13].
كما عن ابن عباس F: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على
أداء الفرائض وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر
على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة.
وذلك لشدته ووقعه على النفس، وعدم
التمكن منه، إلا من خلال المزيد من اليقين؛ ولذلك قال النبي n: أسألك من اليقين ما تهون به عليَّ مصائب
الدنيا.
ولهذا الصبر المحمود العديد من
الفضائل، لا تحصى، ويكفي في ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[14].
وقول النبي n: قال الله تعالى: إذا وجهت إلى العبد من
عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله، أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم
القيامة أن أنصب له ميزانًا، أو أنشر له ديوانًا.
( 6 ) : - الاية الثامنة الى
العاشرة من سورة المدثر: فبعد
ان انتهى التوجيه الرباني لرسوله n اتجهت سياق الآيات إلى بيان ما ينذر به
الكافرين، في لمسة بيانية توقظ الحس لليوم العسير، الذي ينذر بمقدمه النذير، في
عبارة قوله تعالى:
( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ *
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير)[15].
تلاحظ إنه التهديد، والوعيد للمكذبين
بالآخرة بحرب من الله المباشرة. والنقر في الناقور هو ما يعبر عنه بالنفخ في
الصور.
ولكن تلاحظ التعبير هنا أشد إيحاء
بشدة الصوت ورنينه؛ تجده كأنه نَقْرٌ يُصَوِّت، ويُدَوِّي. وأصله القَرْعُ، الذي
هو سببه.
وكذلك منه منقار الطائر؛ وذلك لأنه
يقرع به. وهو الصوت الذي، ينقر في الآذان أي بمعنى: يقرعها قرعًا لانه أشد وقعًا
من الصوت، الذي تسمعه الآذان؛ ولهذا وصف الله تعالى ذلك اليوم، الذي ينقر فيه
بالناقور انه بعبارة: (يَوْمٌ عَسِيرٌ).
ثم بعدها أكَّده سبحانه وتعالى بنفي
كل ظِلًّ لليسر فيه: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير) اذاً هو عسرٌ كله، لا
يتخلله يسرٌ أبدًا.
ولكن جاءت عدة احتمالات في تركيب هذه
الجملة، فمنها ما ذكر في كتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) الذي قال: (ذلك مبتدأ
ويومئذ بدل ويوم عسير خبره).
ولكن الملاحظ عليه أنّ لفظة (ناقور)
هي في الأصل من كلمة (نقر)، ومعناه الدق المؤدي إلى الإثقاب فمنها سمّي المنقار،
وهو ما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها، ولهذا يطلق اسم النّاقور على المزمار
الذي يخرق صوته اُذن الإنسان وينفذ إلى شعوره.
وتجد انه يستفاد من آيات القرآن أنّ
في نهاية عالم الدنيا وبدء المعاد ينفخ في الصور مرّتين، أي بمعنى أن له صوتين
موحشين ومرعبين يملآن مسامع عالم الدنيا بأسرها.
فأوّلهما هو صوت الموت، وثّانيهما هو
صوت اليقظة والحياة، ويعبر عنهما في عبارة (نفخة الصور الاُولى) وعبارة (نفخة
الصور الثّانية).
ولاحظ هذه الآية قد أشارت إلى نفخة
الصور الثّانية. والتي يكون معها او مصحوبة بيوم البعث وهو يوم صعب جداً على
الجميع وثقيل على الكفّار.
وعلى كل حال فإنّ آيات القران
المذكورة تشير إلى حقيقة وهي أنّ مشاكل الكفّار تظهر الواحدة بعد الأُخرى في يوم
نفخة البعث، وهو يوم أليم ومفجع، ويركّع أقوى الناس[16].
واما لفظة (الفاء) في عبارة قوله
تعالى: (فَذَلِكَ) هي رابطة لجواب الشرط. ولفظة (ذَلِكَ) هي إشارة إلى وقت النقر
المفهوم في عبارة قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ).
أي بمعنى : فذلك اليوم، الذي ينقر فيه
بالناقور هو يوم عسير على الكافرين، غير يسير ابدا.
وتجد ان في الإشارة بلفظة (ذَلِكَ)
الدالة على معنى البعد، مع قرب العهد لفظًا بالمشار إليه، هو إيذان ببعد منزلته في
الهول والفظاعة.
ثم بعدها ترك هذا اليوم مع وصفه بهكذا مجملاً
منكرًا في عبارة (يَوْمٌ عَسِيرٌ) يوحي بالاختناق والكرب والضيق والهول العظيم.
ولاحظ عبارة قوله تعالى: (غَيْرُ
يَسِير). أي بمعنى : هو غير سهل، وكذلك يفيد تأكيد عسره على الكافرين، فهو يمنع من
أن يكون عسيرًا عليهم من جهة دون الجهة الأخرى، وتجده يشعر بتيسُّره على المؤمنين.
تلاحظ كأنه قيل كما في عبارة: عسير
على الكافرين، غير يسير عليهم، كما هو الحال يسير على أضدادهم وهم المؤمنين. فتجد
فيه قد جمع بين توعد الكافرين وزيادة غيظهم، وبين بشارة المؤمنين وتسليتهم.
فمع هذه البشارة للمؤمنين وتسليتهم،
فتلاحظ قلب المؤمن لا يخلو من الخوف من هذا اليوم العسير. كما روي عن ابن عباسF أنه قال: لما نزلت: (فَإِذَا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ).
قال رسول الله o: كيف أنعَم، وصاحب الصور قد التقم القرن،
وحَنَى جبهته، يستمع متى يؤمر؟ قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قالo: قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، وعلى الله
توكلنا.
وقد اختلف هل أن المراد به هو يوم
النفخة الأولى، أو هو النفخة الثانية. ويمكن أنها النفخة الثانية؛ إذ هي التي يختص
عسرها على الكافرين.
وتجد النفخة الأولى حكمها، الذي هو
(الاصعاق) فهو يعمُّ الجميع، على أنها مختصة بمن كان حيًّا عند وقوعها من المؤمن
والكافر سوياً إلا ما شاء الله.
( 7 ) : - الاية 11 الى الاية 15
من سورة المدثر: ثم
بعدها أنتقل سياق الاية الكريمة بنا من هذا التهديد العام إلى مواجهة فرد بذاته
وهو من الكافرين المكذبين.
ومن ظاهر كلمات الاية انه يبدو له دور
كبير في التكذيب والتبييت بالسوء للدعوة. وقد قيل: إنه الوليد بن المغيرة
المخزومي. فيرسم الله تعالى مشهدًا من مشاهد كيده؛ كما في عبارة قوله تعالى:
( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ)[17]. وقد نزلت الاية في الوليد بن
المغيرة وهو شيخ كبير كان من دهاة العرب.
أي بمعنى في عبارة : ذرني مع من خلقته
وحيدًا فريدًا، لا مال له، ولا ولد، ثم جعلت له من عندك مالاً كثيرًا مبسوطًا[18] يعتزُّ به، وبنين حضورًا، يتمتع
بمشاهدتهم، لا يفارقونه بالتصرف في الاعمال، أو التجارة.
وذلك لكونهم مكتفين لوفرة نعمهم وكثرة
خدمهم وعبيدهم. كما في تفسير نور الثقلين قال: أنزل الله على رسولهn في ذلك: (ذرنى ومن خلقت وحيدا) وانما سمى
وحيدا لانه قال لقريش: أنا اتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة.
فكان له مال كثير جداً وحدائق واسعة،
وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وتلك القنطار في ذلك الزمان،
ويقال: ان القنطار جلد ثور مملوء ذهب، فأنزل الله: ذرنى ومن خلقت وحيدا.
وجاء في التفسير الاصفى للفيض
الكاشانيu انها : نزلت في الوليد بن المغيرة - عم أبي
جهل - فإنه كان يلقب بالوحيد، سماه الله به تهكما.
وكذلك قيل: سبعة، كلهم رجال- وهيَّأت
له الرياسة والجاه العريض تهيئة، يتبطَّر بهما ويختال، حتى لقِّب بريحانة قريش. ثم
هو بعد ذلك كله يطمع في المزيد. فذرني معه، أكفيك أمره، ولا تشغل بالك بمكره
وكيده.
وعبارة قوله تعالى: (وَحِيدًا)- مما
سبق- حال من العائد المحذوف في عبارة قوله تعالى: (خَلَقْتُ). وقد قيل هو حال من
الياء في لفظة (ذَرْنِي). أي بمعنى في عبارة: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه في
الانتقام منه.
ولكن قيل : هو حال من التاء في لفظة
(خَلَقْتُ). أي بمعنى: خلفته وحدي، لم يشركني في خلقه أحد. وتلاحظ القول الأول
أجمع الأقوال الثلاثة السابقة.
وأما عبارة قوله تعالى: ( ذَرْنِي )
فهو من: وَذَرَ يَذَرُ؛ كوَدَعَ يَدَعُ، إلا أن وَذَرَ ، لم يستعمل في كلامهم،
بخلاف: وَدَعَ.
وهو كما قال سيبويه: ولا يقال: وَذَرَ
، ولا وَدَعَ، استغنوا عنهما بلفظة (تَرَكَ). وهذا إنما يخرَّج على الأكثر في:
وَدَعَ.
ففي القرآن وردت عبارة قوله تعالى:
(مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ) بالتخفيف، وهي لغة كلغة التشديد، وليست مخففة منها كما
يقال. ثم هي قراءة النبيn وقراءة عروة بن الزبير الذي كان له جلسة
ينال من الامام علي بن ابي طالبA في مسجد الكوفة.
كما في صحيح مسلم قال: أن عبد الله بن
عمر وأبا هريرة سمعا رسول اللهo يقول : لينتهيَّن أقوام عن ودَعهم
الجُمُعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين.
وجاء في كشف الخفاء للعجلوني عن أبي
داود عن رجل من الصحابة عن النبيn: دعوا الحَبَشَة ما ودَعوكم واتركوا
التُّرْكَ ما تركوكم.
وكما يقال : يَذَرُ الشيءَ ؛ كما يقال
: يَدَعُ الشيء. ومعناهما متقارب، إلا أن لفظ الأول يستعمل في مقام التهديد
والوعيد، لما فيه من معنى الدفع والقذف.
ولاحظ معنى الأول في عبارة قوله
تعالى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)[19] وعبارة قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ
حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)[20].
وأما اللفظ الثاني فيستعمل في مقام
الكره والبغض، لما فيه من معنى التوديع. ولاحظ معنى اللفظ الثاني في عبارة قوله
تعالى: (مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى)[21].
وجاء التشديد فيه للمبالغة؛ لأن من
ودَّعك مفارقًا، فقد بالغ في تركك.
وأما عبارة قوله تعالى : (ثُمَّ
يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) فهو استبعاد لطمعه وحرصه على الزيادة، مع استنكار لذلك.
هذا ما دلت عليه لفظة (ثُمَّ).
كما جاء في كتاب معجم احاديت المهديA عن الامام الباقر A يعني بهذه الآية إبليس اللعين خلقه وحيدا من
غير أب ولا أم.
وتلاحظ ان عبارة قوله : وجعلت له مالا
ممدودا ، يعني هذه الدولة إلى يوم الوقت المعلوم ، وهو يوم يقوم القائم من ال محمدD.
واما عبارة قوله : بنين شهودا ومهدت
له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا: إنه كان لآياتنا عنيدا.
تلاحظ إنه استبعد ذلك منه، واستنكر؛
ذلك لأنه أعطي المال والبنين، وبسط له الجاه العريض، والرياسة في قومه، واجتماعهما
يعتبر هو الكمال عند أهل الدنيا، فلا مزيد على ما أعطي وأوتي وكله من الله.
أو لا: لأن طمعه في الزيادة لا يتناسب
مع ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم؛ لهذا ردعه الله تعالى ردعًا عنيفًا
عن ذلك الطمع، الذي لم يقدم طاعة ولا شكرًا لله تعالى، يرجو بسببها المزيد.
بل تراه قد عاند دلائل الحق، ووقف في
وجه الدعوة، وحارب رسولها الكريم، وصد عنها نفسه وغيره، ومن ثم أطلق حواليها
الأضاليل فقال في عبارة قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا)[23].
( 8 ) : - قوله تعالى : ( كَلَّا إِنَّهُ كَانَ
لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ): في
العبارة قوله تعالى: (كَلاَّ) فتعتبر ردعٌ وزجرٌ له، وكذلك ردٌّ لطمعه الفارغ،
وقطعٌ لرجائه الخائب.
واما في عبارة قوله تعالى: (إنَّهُ
كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا) هي تعليل لذلك الطمع على سبيل الاستئناف؛ فتجد إن
معاندة آيات المنعم مع وضوحها، وكفران نعمه مع سبوغها.
وجاء في ميزان الحكمة للريشهري قال
عيسى A: بحق أقول لكم: إن أكناف السماء لخالية من
الأغنياء، ولدخول جمل في سم الخياط أيسر من دخول غني الجنة.
وكما عن ابن أبي الحديد : قد ورد في
الأخبار الصحيحة أن أباذر قال: انتهيت إلى رسول اللهo وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم
الأخسرون ورب الكعبة.
فقلت : من هم ؟ قالn: هم الأكثرون أموالا، إلا من قال: هكذا
وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ماهم، ما من صاحب إبل
ولابقر ولاغنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه
بقرونها، وتطأه بأظلافها، كلما نفدت اخراها عادت عليه اولاها حتى يقضي الله بين
الناس.
ومثلهِ في تفسير الامثل قال الآية
الأُخرى تردع الوليد بشدّة، يقول تعالى: (كلا إنّه كان لآياتنا عنيداً) ومع أنّه
كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس، بل متجذر في الفطرة، وله
جاذبية خاصّة وأغصان مثمرة. فكان يعاند ويعتبر ذلك سحراً ومظهره ساحراً.
ولفظة كلمة «العنيد» : هي من (العناد)
وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة، أي أنّه يعلم بأحقّية الشيء ثمّ يخالفه
عناداً، والوليد هو مصداق واضح لهذا المعنى.
والتعبير بلفظة (كان) يشير إلى
مخالفته المستمرة والدائمة.
وقد أشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم
من خلال عبارات قصيرة وغنية في المعنى، في عبارة قوله تعالى: (سأرهقه صعوداً).
وهذا مما يوجب إزالة النعمة المانعة
عن الزيادة والحرمان منها بالكامل؛ وما أوتي هذا المعاند من نعمة هواستدراجًا له.
قيل: ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان مستمر من ماله وولده، حتى هلكوا جميعاً.
ثم بعدها عقِّب الله تعالى على هذا
الردع والزجر بالوعيد، الذي يبدل اليسر، الذي جعِل فيه عسرًا، والتمهيد الذي مهِّد
له مشقة، كما في عبارة قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)[24].
( 9 ) : - قوله تعالى : ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
): تجده
مثل لما يلقاه من العذاب الصعب، الذي لا يطيقه أي احد، تراه يصور حركة المشقة.
يعتبر التصعيد في الطريق هو أشق السير وأشده إرهاقًا.
فإذا كان دفعًا بدون إرادة من المصعد،
كان أكثر مشقة وأعظم إرهاقًا. وهو في الوقت ذاته تجده تعبير عن الحقيقة.
فالانسان الذي ينحرف عن طريق هداية
الإيمان السهل الميسر، يسلك الطريق الوعر والشاق المبتوت، وتراه يقطع الحياة في
قلق وشدة وكربة وضيق؛ كأنما يصعد الى السماء، أو يصعد متسلق وعر صلد، لا ريَّ فيه
ولا زاد، ولا راحة ولا أمل في نهاية الطريق.
وجاء في الترغيب والترهيب للمنذري عن
أبي سعيد عن النبي o قال في قوله تعالى ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
) : جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا
وضع رجله عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، يصعد سبعين خريفًا، ثم يهوي كذلك.
فقد أشارت الآية الكريمة إلى مصيره
المؤلم من خلال عبارات قصيرة وغنية بمعناها، كما في عبارة قوله تعالى: (سأرهقه
صعوداً) ولفظة «ساُرهقه»: هي من (الإرهاف) وهو غشيان الشيء بالعنف.
وكذلك تعني فرض العقوبات الصعبة، وقد
جاء بمعنى الإبتلاء من أنواع العذاب، وكلمة الصعود، هي إشارة إلى ما سيناله من سوء
العذاب.
وكذلك يستعمل اللفظ في العمل الشاق،
إذا يشق صعود الجبل، ولهذا فسّر البعض ذلك من انه العذاب الإلهي.
ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي
للوليد بن المغيرة، فقد ذكر التاريخ عنه أنّه بلغ ذروة الجاه والرفاه في حياته،
ثمّ عاقبه اللّه تعالى بنقصان ماله وولده حتى هلك[26].
( 10 ) : - الاية 18 الى الاية 25
من سورة المدثر: ومن
ثم يرسم الله تعالى لهذا الرجل المكذب المعاند صورة منكرة له، تثير السخرية من
حاله وملامح وجهه ونفسه، التي تبرز من خلال كلمات الاية؛ كأن فيها الحياة الشاخصة
متحركة الملامح والسمات، كما في عبارة قوله تعالى:
( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ
عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا
سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)[27].
فهذا الرجل يضغط على ذهنه، ويعصر
أعصابه، ويقبض جبينه المشرك، وتكلح ملامحه وقسماته. ويفعل كل ذلك لكي يجد ثغرة او
عيب يعيب به هذا الكتاب العظيم.
ومن بعد هذا المخاض الطويل وبعد هذا
الحَزق كله، لا يُفتح عليه بشيء، فيولي عن هذا النور مدبرًا، ويصد عن الحق
مستكبرًا ومعانداً، وفي عبارة يقول: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ).
واما عبارة قوله تعالى: (إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ) هي تعليلٌ للوعيد، واستحقاقه له. أو هو بيان لعناده لكلمات
عطرة من آيات الله تعالى.
تجد في هذه الآيات الكريمة توضيحات
كثيرة عمّن أعطاه اللّه المال والبنين وخالف بذلك رسول اللّهo أي بمعنى اخر هو الوليد بن المغيرة، كما في
عبارة قوله تعالى: (إنّه فكر وقدّر).
فمن خلال التفكير نعرف الله تعالى فلا
بأس به، وهو حسن، ولكن بشترط أن يكون في طريق الحق، وتفكر ساعة أفضل من عبادة عمر
بكامله، لما يمكن أن يحدث تغيير في مصير الإنسان، وأمّا إذا كان التفكر في طريق
الكفر والفساد فهو مثل تفكر «الوليد» كان من هذا النوع.
ولفظة كلمة «قدّر» : هي من التقدير،
وهو التهيؤ لغرض نظم أمر ما في الذهن مع التصميم على تطبيقه، ثمّ يضيف كما في
عبارة قوله: (فقتل كيف قدّر) وتلاحظ بعدها يؤكّد ذلك فيضيف كما في عبارة قوله:
(ثمّ قتل كيف قدّر).
وهو يعتبر إشارة لما قيل في سبب نّزول
السورة حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما يقذف به الرسولo وعندما سمّوه بالشاعر لم يقبل بذلك.
ثم فقالوا : كاهن فلم يقبل، ثم قالوا
: مجنون فرفض، ومن ثم قالوا: ساحر، قال: بلى، وذلك لمخالفتهم فكرة السحر الذي كان
يفرق بين المرء وأهله، أو يجمع الواحد والآخر.
وقد ظهر ذلك في عصر الإسلام، كما عبّر
عنه القرآن في هذه الحالة التي حدثت عند الوليد من خلال تعبير مختصر وبليغ
لمطالعته للأمر وتفكره فيه.
ثمّ تقديره لذلك وإن كان أصل الإقتراح
من قريش، وعلى كل حال فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره
الشيطاني، ولذا كانت شدّة تفكره سبباً للتعجب[28].
واما عبارة قوله تعالى: (فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ) هي تعجيبٌ من تقديره ورميه الغرض، الذي كانت تنتحيه قريش. أو يمكن
هو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به.
وقد جاء في تفسير القمي قال عذاب بعد
عذاب يعذبه القائم A ثم نظر إلى النبي o وامير المومنين A.
وجاء في مختصر تفسير الميزان قال كان
الرّجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئاً يبطل به دعوته ويرضي به قومه المعاندين
ففكر فيه أيقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو اسطورة، فقدّر أن يقول: سحر من كلام
البشر لأنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.
أو لا هو حكاية لما كرروه من قولهم في
عبارة: قتل كيف قدَّر، تهكمًا بهم، وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله.
وأما عبارة قوله تعالى: (ثُمَّ قُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ) فهي تكرير لغرض المبالغة. ولفظة (ثُمَّ) هي للدلالة على أن ما
بعدها أبلغ مما قبلها.
ولكن قد قيل ان هذا التكرار تاكيدا
للدعاء وذكر في علوم القران انه قد افترض بعض العرب امام تحدي القرآن لهم بنزوله
على شخص أمي من أن يكون أحد من البشر قد علم النبيn القرآن ولم يجرأوا وهم الاميون على دعوى
تعلمه من احد منهم.
تجدهم ادركوا بالفطرة ان الجاهل لا
يعلم الناس شيئاً وانما زعموا أن هناك غلام رومي، اعجمياً، نصراني، يعمل في مكة
قينا (حداداً) ويصنع السيوف، هو الذي علم النبي محمدn، الكتاب.
وذلك الغلام كان على عاميته يعرف
القراءة والكتابة. وقد تحدثت ايات القرآن الكريم عن افتراض العرب هذا ولكن رد
عليهم رداً بديهياً كما في عبارة قوله تعالى : (لسان الذي يلحدون اليه أعجمي وهذا
لسان عربي مبين)[29].
فتلاحظ ان القرآن الكريم أمتد بنظره
الغيبي الى البعيد المجهول في الماضي والمستقبل البعيدين على السواء، فتراه يقص
عليك أحسن القصص عن أمم خلت، وما وقع في حياتها من عظات وعبر.
وما صاحبها من مضاعفات، يتحدث عن كل
ذلك حديث من شاهد الاحداث كلها، وراقب جريانها، وعاش في عصرها، فيما بين اصحابها.
وأما في عبارة قوله تعالى : ( ثُمَّ
نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) فتلاحظ انها
باقية على أصلها من الدلالة على التراخي الزماني.
أي بمعنى : ثم نظر في ايات القرآن مرة
بعد مرة ومرات، ثم قطَّب وجهه، لمَّا لم يجد فيه أي مطعن، ولا يدري ماذا يقول كما
قال الشيخ الطبرسيu: نظر من ينكر الحق وبدفعه، ولو نظر طلبا
للحق كان ممدوحا وكان نظره صحيحا.
وقيل: نظر في وجوه الناس، ثم لمَّا
عسُر عليه الرد، قطَّب وجهه وبسَر. أي: كلح، ثم أدبر عن الحق، واستكبر عن اتباعه،
(فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَر). أي: يروَى ويتعلَّم.
وإنما عطف هذا بالفاء بعد أن عطف ما
قبله بـ(ثُمَّ) للدلالة على أن هذه الكلمة، لما خطرت بباله، لم يتملك أن نطق بها
من غير تلعثم وتلبث.
ثم أكَّدَ ذلك بقوله تعالى : (إِنْ
هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ولذلك لم يوسِّط بين الجملتين بأداة العاطف.
وجاء انه روي عن الوليد بن المغيرة
أنه قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس،
ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله
لمغدق، وإنه يعلو، وما يعلى.
فقالت قريش: صَبَأ، والله الوليد.
والله لتصبأن قريش كلهم. فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد عنده حزينًا،
وكلمه بما أحماه، فقام، فأتاهم، فقال: تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يخنق ؟
وتقولون : إنه كاهن، فهل رأيتموه
يتكهن ؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قط ؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل
جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهم لا. ثم قالوا: فما هو؟
ففكر : ثم فقال : ما هو إلا ساحر. أما
رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يرويه عن
أهل بابل، ويتعلمه منهم. فارتجَّ النادي فرحًا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين
منه.
ولهذا قد صور له التعبير القرآني
المعجز هذه اللمحات واللقطات الحيَّة، التي يثبتها في المخيلة أقوى مما تثبتها
الريشة في لوحة الرسام.
وتراها أجمل مما يعرضها الفيلم
المتحرك على الأنظار، فتدع صاحبها سخريةَ الساخرين أبد الدهر، وتثبت صورته
الزَّرِيَّة في صلب الوجود، تتملاها الأجيال بعد الأجيال.
فإذا ما انتهى وهو المصور العليم
الخبير من عرض هذه اللمحات الشاخصة لهذا المخلوق المعاند بعدها عقَّب بالوعيد
المفزع، والتهديد الساحق، كما في عبارة قوله: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)[30].
[1]- سورة المدثر الاية 6.
[2]- سورة البقرة الاية 262.
[3]- سورة التين الاية 6.
[4]- الشيخ الطوسي u تفسير التبيان ج10 ص165.
[5]- سورة المدثر الاية 7.
[6]- سورة الزمر الاية 10.
[7]- سورة البقرة الاية 155 – 156.
[8]- سورة البقرة الاية 153.
[9]- سورة ال عمران الاية 146.
[10]- سورة النحل الاية 96.
[11]- سورة الانسان الاية 12.
[12]- جديد ج 71/56 ـ 60، وطبعة كمباني ج 15 كتاب الأخلاق ص 136.
[13]- مستدرك سفينة البحار العلامة آية الله الشيخ علي النمازي ج6.
[14]- سورة الزمر الاية 10.
[15]- سورة المدثر الاية 10 - 8.
[16]- الشيخ مكارم الشيرازي K تفسير الأمثل ج19 صفحة 162- 161.
[17]- سورة المدثر الاية 15 – 11.
[18]- هو ما بين مكة والطائف . وله حضورًا في الأندية والمحافل
ووجاهتهم واعتبارهم- قيل: كان له عشرة بنين. وقيل: ثلاثة عشر في مكة.
[19]- سورة الاعراف الاية 127.
[20]- سورة الطور الاية 45.
[21]- سورة الضحى الاية 3.
[22]- تأويل الآيات : ج 2 ص 734 ح 5 - جاء في تفسير أهل البيت D رواه الرجال عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر A في قوله عزوجل: ذرني ومن خلقت وحيدا، قال ... (البرهان : ج 4 ص
402 ح 9) عن تأويل الآيات.
[23]- سورة المدثر الاية 16.
[24]- سورة المدثر الاية 17.
[25]- تفسير الأمثل ج19 ص167.
[26]- تفسير المراغي، ج29،
ص131.
[27]- سورة المدثر الاية 25 – 18.
[28]- تفسير الامثل ج19 ص169.
[29]- سورة النمل الاية 103.
[30]- سورة المدثر الاية 26.