السبت، 15 أبريل 2017

التقية في الكتاب والسنة والاجماع والعقل


التقية في الكتاب والسنة والاجماع والعقل
التـقـية: كثيرا ما تجد حرية الفكر فما معنى هذهِ الحرية بالإسلام، وهل يوجد عليها قيود في استخدامها, ولكن الإسلام عبارة عن المعتقد والوظيفة الشرعية والتي منها الواجبات والمحرّمات.
فإن أريد بالحرّية هذا المعنى أي يعمل الشخص بوظيفته من غير إلزام فهو صحيح، وإلا فالمحرّمات والواجبات قيود من اللّه سبحانه وتعالى ولا يجوز للمكلّف أن يتعدّاها.
واما الحكم الشرعي بين الثابت والمتغيّر, فهل يمكن القول بأنّه هناك مجال للبحث بأحكام الشريعة الإسلامية، باعتبار أنّ هناك أصيل ومتجدد، وفق ظروف كلّ عصر وزمن، على حسب اختلاف المجتمعات، أم أنّ الحكم الشرعي واحد لا يتغيّر؟
انّ تعدّد حكم الواقعة الواحدة بحسب اختلاف المجتهدين في الأعصار فيها أمر غير ممكن وغير واقع، لأنّه مخالف لمذهب العدليّة، الملتزمين ببطلان التصويب في الوقائع التي وردت فيها الخطابات.
أو استفيد حكمها من مدارك أخرى، فإنّ مقتضى الاطلاقات ثبوت الحكم، واستمراره بحسب الأزمنة في طرف فعليّة الموضوع، في أيّ ظرف كان، ولو كان استقبالاً.
ودلّت عليه الروايات كذلك، مثل صحيحة زرارة المروية في كتاب الكافي قال: سألت أبا عبداللّهA عن الحلال والحرام فقال:
« حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره وقال: قال عليA: « ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنّة».
وأمّا فتاوى المجتهدين في مورد الخلاف، فلا تصيب من فتاواهم في واقعة واحدة إلا فتوى واحدة من ذلك، نعم فتوى كلّ واحد من المجتهدين مع اجتماع شرائط التقليد فيه عذر بالنسبة للمكلف في موارد الخطأ، ثمّ انّ الحكم المجعول في الشريعة له مقامان: الاول مقام الجعل والثاني مقام الفعليّة.
وعليه يمكن أن ينطبق عنوان الموضوع في شيء من زمان، فيكون فعليّاً، ولا ينطبق على ذلك الشيء في زمان آخر، فلا يكون ذلك الحكم فعليّاً.
وناتج هذا من ارتفاع فعليّة الحكم لا من تغيّر المجعول في الشريعة، كما إذا كان شيء آلة قمار بزمان، وسقط عن آلية القمار في زمان آخر بعد ذلك الزمان فاللّعب به بلا رهان، باعتبار عدم انطباق عنوان آلة القمار عليه في زمان اللّعب لا يكون محرّم، وهذا ليس من تغيّر حكم حرمة آلة القمار، كما هو واضح.
وكوجوب الجهاد الابتدائي، فبناءً على اشتراط الجهاد الابتدائي بحضور الإمام A فلا يكون في زمان الغيبة وجوب الجهاد فعليّاً، لعدم حضورهA لا لأنّ مع عدم حضوره تغيّر حكم الجهاد في الشريعة، وأمثاله الكثير.
نعم: بالشريعة يمكن أن تكون لشخص أو أشخاص أحكام مختصّة بهم، ولكن هذه الأحكام تنتهي برحيلهم، مثل الأحكام المختصّة بالنبيJ، وهذه قضايا خارجية لا علاقة لها بالأحكام العامة الشرعية التي يُعبّر عنها بالقضايا الحقيقية.
واما المسميات الحديثة مثل مسمى المثقف والأحكام الشرعية فهل يجوز للمثقف المطّلع أن يحدّد الأفكار والمفاهيم الإسلامية، ويكون صاحب رأي ونظر في القضايا الإسلامية المختلفة (غير الأحكام الشرعية)، وهل يجوز لنا أن نأخذها عنه؟ أو ذلك يفتقر للعلوم الحوزوية ولابدّ من مراجعة العلماء فيها.
فهنا لابدّ من الرجوع للعلماء فيها، فإنّ ذلك فهو مقتضى قوله تعالى: «فَاسألُوا أهلَ الذِّكر إنْ كُنتُم لا تَعلَمونَ».
لشدة علاقة هذا المبحث في المباحث الاخرى نتطرق له باختصار وناتي بفقرات للسيد ابو القاسم[1] الخوئي H في بحث أقسام التقية، ومنها التقيّة المحرّمة قال:
« وإذا كانت المفسدة المترتّبة على فعل التقية أعظم من المفسدة المترتّبة على تركها أو كانت المصلحة في ترك التقيّة أعظم من المصلحة المترتّبة على فعلها، كما إذا علم بأنّه إن عمل بالتقيّة ترتّب عليه اضمحلال الحقّ واندراس الدّين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت، وإذا ترك التقية ترتّب عليه قتله فقط، أو قتله مع جماعة آخرين، ولا إشكال حينئذ في أنّ الواجب ترك العمل بالتقيّة وتوطين النفس للقتل؛ لأنّ المفسدة الناشئة عن التقيّة أعظم وأشدّ من مفسدة قتله».
ثمّ يقولH : « ولعلّه من هنا أقدم الحسين A وأصحابه F لقتال يزيد بن معاوية وعرّضوا أنفسهم للشهادة وتركوا التقية عن يزيد. وكذا بعض أصحاب أميرالمؤمنينA، بل بعض علمائنا الأبرار (قدّس اللّه أرواحهم وجزاهم عن الإسلام خيراً) كالشهيدين وغيرهما».انتهى
هنا التقيّة المحرّمة وهي لو عمل بها شخص لدفع الضرر عن نفسه ولكن ترتّب على عمله بها (التقية) يؤدي الى ضرر عامّ أهمّ مثل الخطر على معالم الدّين والفساد في الامة أو استمرار ذلك بحيث يعلم أنّ الشارع لا يوافق على وجود هذه المفسدة واستمرارها ففي مثل هذهِ لا يجوز العمل بالتقيّة.
واما التقيّة الواجبة عكس ذلك فهي يترتّب على التمسك بها ورعايتها الخلاص من المفسدة ولا يوجد في تركها والعمل بالوظيفة الأوّلية إلا مصلحة غير لازمة الاستيفاء.
وأمّا قضية الامام الحسين A فكانت المصلحة في شهادته بيد الأعداء الغاصبين للخلافة وعدم العمل بالتقيّة لهم، وحقق الامامA بذلك هدفه من حيث أفسد عليهم الأمر.
ولو لم ينهض لما ترتّب هذا الأثر العظيم من الحفاظ على الدّين الإسلامي وطريق أهل بيت العصمة والطهارة والهداية.
وكان قيام الامام الحسين بن علي D تنبيهاً للناس من غفلتهم وإظهاراً للعقائد الحقّة التي يجب اتّباعها مع الحفاظ عليها، لكي تستفاد منها الجيل القادم من نهضتهA.
وهل التقية نفاق فهناك فرق بين النفاق والتقية. فالنفاق يكون بالتظاهر بالحق وكتمان الباطل وهذا بخلاف التقية التي هي اظهار الباطل في موارد الخوف والخطر والضرر وكتمان الحق.
وجرت سيرة الانبياء والاولياء والمؤمنين على العمل بها وقد استدل لجوازها بالادلة الاربعة كما يلي:
القرآن هو الدليل الاول:
في كتابه العزيز قوله تعالى : ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمان..)[2]. فتجد مؤمن آل فرعون يكتم ايمانه خوفاً من الضرر. 
وقوله تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌ بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب الله ولهم عذاب عظيم)[3].
فتجد الصحابي الشهيد عمّار بن ياسر يعمل بالتقية والنبي J يمضي عمله ويجوّز له العمل بها.
واشتهر من خلال كتب التفسير أن الآية نزلت في عمّار بن ياسر الذي عذّب في سبيل الله تعالى حتى ذكر آلهة المشركين، فقال له النبيJ: (إن عادوا فعد) كما روي في:
روي في الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة عمار بن ياسر.
روي في تفسير الماوردي[4].
روي في تفسير الواحدي[5] بهامش تفسير النووي.
روي في تفسير الصافي[6].
روي في تفسير الميزان[7].
وفي تفاسير السنة والشيعة هناك آيات أخرى دلالتها صريحة أو ضمنية على التقيّة وهي قوله تعالى:
( لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير)[8].
وايضا ( سورة الكهف الاية19. وسورة الانعام الاية119. وسورة البقرة الاية195. وسورة الحج الاية78. سورة فصلت الاية34).
السنة هي الدليل الثاني:
من الروايات التي تدل على جواز العمل بالتقية كثيرة فمنها سئل الامام الصادق A عن التقية فقال:
التقية من دين الله، قلت: من دين الله؟ قال: أي .... من دين الله، ولقد قال يوسف: (ايتها العير انكم لسارقون) والله ما كانوا قد سرقوا شيئاً، ولقد قال ابراهيم : (إني سقيم) والله ما كان سقيماً.
روي في كتاب الكافي للكليني[9].
روي في كتاب المحاسن[10].
وهناك أحاديث كثيرة بنفس المضمون في سنن ابي داود[11] ومثلها اخرج البخاري[12] من طريق قتيبة بن سعيد، عن عروة بن الزبير أن السيدة عائشة أخبرته أنّه استأذن على النبيJ رجل ، قالJ: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام. فقالت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟ فقال: (أي عائشة)، إنّ شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
وكذلك في نفس المضمون في تفسير الحسن البصري[13] وسنن ابن ماجة[14], وغيرها الكثير.
الاجماع هو الدليل الثالث
اتفاق جميع المسلمين بدون استثناء على ان النبيJ كان يدعو الناس سراً للاسلام لمدة ثلاث سنين من نزول الوحي فلو كانت التقية غير مشروعة كونها نفاق لما سرت الدعوة للدين الاسلامي بهذا العمر من التستر والكتمان.
وذكر الاجماع أن التقية جائزة ومشروعة جمهور علماء اهل السنة مثل القرطبي المالكي[15] في كتابه الجامع لاحكام القرآن فقال:
( اجمع أهل العلم على ان من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه ان كفر وقلبه مطمئن بالايمان).
وكذلك ابن كثير الشافعي[16] تفسيره, وابن حجر العسقلاني[17] في كتابه فتح الباري.
العقل هو الدليل الرابع
تعتبر التقية موافقة لمقتضى (العقل) فجميع الناس يستعملونها في حالة الخطر والضرر بدون أن تسميتها بالتقية, ولاحظ ان فقه المذاهب الاسلامية ذهبوا لجوازها فتجد الامام مالك[18] في كتاب المدونة الكبرى يقول بعدم وقوع طلاق المكره على نحو التقية محتجاً بذلك بقول الصحابي ابن مسعود:
( ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلماً به. ولا شك أن الاحتجاج بهذا القول يعني جواز إظهار خلاف الواقع في القول عند الاكراه ولو تم أي الاكراه بسوطين).
ومثلهِ من اهل السنة ابن عبد البر المالكي[19] في كتاب (الكافي في فقه اهل المدينة) حيث افتى بعدم وقوع عتق وطلاق المكره، ولو كانت التقية لا تجوز في خصوص العتق والطلاق عند الاكراه من ظالم عليهما لقال بوقوعهما.
وكذلك من اهل السنة ابن العربي[20] في كتاب (احكام القرآن) وكذلك في تفسير ابن جزي[21] وكذلك ابن حيان الاندلسي[22] في كتابه (البحر المحيط) وكذلك القرطبي[23] في كتابه (الجامع لاحكام القرآن).
وذكرت في فتاوى قاضيخان الفرغاني[24] والسرخي[25] في كتابه (المبسوط) وابن نجيم الحنفي[26] في كتابه (الاشتباه والنظائر) والكيالهراسي الشافعي[27] في كتابه (احكام القرآن).
وكذلك من اهل السنة الرازي[28] في كتابه (التفسير الكبير) وابن حجر العسقلاني[29] في كتابه (فتح الباري) والنووي[30] في كتابه (مجموع شرح المهذب) وكذلك ابن قدامة الحنبلي[31] في (المغني) وغيره كثير ولم ناتي بالنصوص واكتفينا باسم الكتاب والصفحة والمؤلف خشية الاطالة. والله العالم.

[1] - التنقيح: ج4، ص257.
[2] - سورة غافر الاية 28.
[3] - سورة النحل الاية 106.
[4] - تفسير الماوردي  ج3 ص 215.
[5] - تفسير الواحدي  ج 1 ص 466.
[6] - تفسير الصافي  ج3 ص 57.
[7] - تفسير الميزان  ج 12 ص 357.
[8] - سورة ال عمران الاية 28.
[9] - الكافي للكليني H  2: 172 - 3.
[10] - المحاسن  258،303.
[11] - صحيح البخاري  ح 5780 وقريب منه 5685و5707.
[12] - سنن ابي داود  4: 251،4791.
[13] - تفسير الحسن البصري  2: 76.
[14]-  سنن ابن ماجة  2: 1338،4032.
[15] - القرطبي المالكي  في الجامع لاحكام القرآن 10: 180.
[16] - تفسير ابن كثير الشافعي  2: 609.
[17] - ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 1: 264.
[18] - الامام مالك في المدونة الكبرى 3: 29.
[19] - ابن عبد البر المالكي في الكافي في فقه اهل المدينة 503.
[20] - ابن العربي  في احكام القرآن 3: 1177،1182.
[21] - تفسير ابن جزي  : 366.
[22] - ابن حيان الاندلسي في البحر المحيط 2: 424.
[23] - القرطبي في الجامع لاحكام القرآن 10: 180.
[24] - فتاوى قاضيخان الفرغاني 5: 484.
[25] - السرخي  في المبسوط 24: 48، 51، 77، 152.
[26] - ابن نجيم الحنفي في الاشتباه والنظائر 89.
[27] - الكيالهراسي الشافعي في احكام القرآن 3: 246.
[28] - الرازي في التفسير الكبير 20: 121.
[29] - ابن حجر العسقلاني  في فتح الباري 12: 263.
[30] - النووي في مجموع شرح المهذب 18 : 3.
[31] - ابن قدامة الحنبلي  في المغني 8/ 262.