الثلاثاء، 11 أبريل 2017

البعثة الشريفة ( الوحي والنبوّة )

بسم الله الرحمن الرحيم
البعثة الشريفة ( الوحي والنبوّة )
ان المحبة تقسم لثلاثة وهي محبة إجلال وإعظام كما في محبتك للوالد والاخرى محبة شفقة ورحمة كمحبة الولد والاخيرة محبة سائر الناس فقد جمع النبي o جميع أصناف المحبة في محبتهJ.
كما في تفسير الاية المباركة قوله تعالى: (عالمُ الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلاّ من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شي عدداً)[1].
فقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي عن إمامنا الباقرA قال: (يوكلّ اللّه تعالى بأنبيائه ملائكةً يُحصون أعمالهم ويؤدون اليهم تبليغهم الرسالة، وكّل بمحمد o ملكاً عظيماً منذُ فُصل عن الرضاع، يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشّر ومساوئ الأخلاق وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمّد يا رسول اللّه وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعدُ فيظن أنّ ذلك من الحجر والأرض، فيتأمّل فلا يرى شيئاً)[2].

ومثلهِ ايضا رُوي عن عامر الشعبي أنّ اللّه تعالى قرن جبرئيلA بنبوّة نبيّه ثلاث سنين، يسمع حسّه ولا يرى شخصه، ويعلّمه الشي بعد الشي، ولا ينزل عليه القرآن، فكان في هذه المدّة مبشَّراً غير مبعوث الى الأمّة[3].
وكذلك روى الطبري عنه قال: (اُنزلت عليه النبوّة وهو ابن اربعين سنة، فقرن بنبوّته إسرافيل ثلاث سنين.. ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته حبرئيلA فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكّة، وعشر سنين بالمدينة)[4].
وورد عن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي أنّ النبي o لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في نومه كأنّ آتياً أُتاه فيقول (يا رسول اللّه)o.
فينكر ذلك، فلّما طال عليه الأمر كان يوماً بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالبA، فنظر إلى شخص يقول (يا رسول اللّه)o.
فقال له o (من أنت؟) قال : [ (أنا جبرئيل أرسلني اللّه اليك ليتخذك رسولاً). فأخبر النبي o خديجة بذلك، فقالت يا محمّد، أرجو أن يكون كذلك.
فنزل عليه جبرئيلA وأنزل عليه من السماء، وعلّمه الوضوء والركوع والسجود، فلّما لمّ له أربعون سنة، علّمه حدود الصلاة، ولم ينزل عليه أوقاتها، فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت][5].
واما تاريخ البعثة النبوية المباركة فالمعروف عند أهل البيت D كانت في السابع والعشرين من شهر رجب الأصب, كما عن إمامنا الصادقA قال (اليوم الذي انُزلت فيه النبوة على محمّدo)[6].
وفي كتاب تهذيب الاحكام عن الإمام الهادي A قال (يوم بعث اللّه محمّداًo إلى خلقه رحمةً للعالمين)[7].
ويؤيده ما ذكر في السيرة الحلبية وكذلك ما روي في كنز العمال عن البيهقي، وعن سلمان الفارسي E وكذلك ما روي الحلبي عن الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة[8].
وقيل أن البعثة كانت في ربيع الأول، أو في شهر رمضان، مستندين لقوله تعالى (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن)، وأعتبروا ضرورة اقتران البعثة بنزول القرآن[9].
واما كيفية البعثة كما سأل زرارةE الإمام الصادق A فقال (كيف لم يخف رسول اللّهo في ما يأتيه من قبل اللّه أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقالA إنّ اللّه اتخّذ عبداً رسولاً انزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه)[10].
وكما سُئل الامام A (كيف علمت الرسل أنها رسل ؟ فقال A كشف عنهم الغطاء)[11]. ومما يؤيد هذا محكمات هو العقل والكتاب والسنّة. كما في قوله تعالى: (إنّ علينا للهدى)[12] وقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[13].
وقوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده)[14] وقوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بيّنات)[15] وقوله تعالى: (ويرى الذين أُوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربّك هو الحق)[16] وقوله تعالى: (قل إنني هداني ربي الى صراط مستقيم)[17]. وقوله تعالى: (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربّي)[18] وقوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)[19].
وقوله تعالى: (وادعُ إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم)[20]. وقوله تعالى: (قل إني على بيّنة من ربّي)[21] . وقوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو الى اللّه على بصيرة أنا ومن اتّبعني)[22]. وقوله تعالى: (أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه.. فلا تكُ في مرية منه إنه الحق من ربك)[23].
فالله سبحانه وتعالى لا يوحي إلى انبيائهِ إلاّ بالبراهين والآيات البينة، الدالة على أن ما يوحى إليه هو منه تعالى، فلا يحتاج لشيء سواها، ولا يفزع ولا يفرق[24].
ولكن هناك مجموعة غريبة من النصوص الروائية وصلتنا في بعض كتب الحديث والسيرة والتفسير، تحتوي على أمور مثيرة ومشينة يستبعد تحقّقها في أوّل لقاء لجرائيل A مع النبي o المنتجب لهداية الناس.
وإذا لاحظت الآيات البيّنات التي ذكرناها، ممّا دل على أن من يُصطفى لهداية الناس وينتجب للقيادة ; فلابد أن يكون مهتدي بالذي ارسله وهو الله تعالى وغير محتاج لهداية الناس من الغير أي من تابعيه ; فهو القدوة دونهم.
فيعتبر هو المهدي والهادي لهم وهم مهتدون بسببه، فكيف كان تأييد مثل ام المؤمنين السيدة (خديجة) B أو (ورقة) سبب لاطمئنانه بصحّة ما يوحى إليه. أو يصبح مُزيلاً للشك ولاحتمال الجنون، الذي تضمنّته بعض الروايات!.
واغلب الاحاديث تربط بين أوّل ما نزل من ايات القرآن (مطلع سورة العلق) وبين النبوة والبعثة في طليعة لقاء وحيي رائع بين النبي o وجبرئيل A.
ولكن هناك نصّ فريد في المحتوى متناسق ومنسجم مع طبيعة مهمة النبي o كما في تفسير الإمام الحسن العسكري A عن أبيه الهادي A حيث وصف بعثة جدّه النبي محمد o فقال[25]:
[ إن رسول اللّهo لمّا ترك التجارة إلى الشام، وتصدّق بكل ما رزقه اللّه تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء ويصعده، وينظر من قلله إلى آثار رحمة اللّه، وإلى أنواع وعجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى اكناف السماء واقطار الارض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر تلك الآثار ويتذكر بتلك الآيات ويعبد اللّه حق عبادته، حتى استكمل سن الاربعين، ووجد اللّه قلب نبيّه الكريمo أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها.
فأذِنَ لأبواب السماء ففتحت، وأذِنَ للملائكة فنزلوا، ومحمد o ينظر إلى ذلك، نزلت عليه الرحمة من لدن ساق العرش، ونظر إلى الروح الأمين جبرئيل المطوّق بالنور طاووس الملائكة، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزّه وقال: يا محمدo ! اقرأ. قال: ما أقرأ ؟ قال: يا محمد (اقرأ باسم ربّك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم).
ثم أوحى إليه ما أوحى، وصعد جبرئيلA إلى ربّه. ونزل محمد o من الجبل وقد غشيه من عظمة اللّه وجلال اُبّهته، ما ركبه الحمّى النافضة، وقد اشتد عليه ما كان يخافه من تكذيب قريش إيّاه، ونسبته إلى الجنون، وقد كان أعقل خلق اللّه وأكرم بريته، وكان أبغض الأشياء إليه الشياطين وأفعال المجانين، فأراد اللّه أن يشجّع قلبه ويشرح صدره، فجعل كلّما يمرّ بحجر وشجر ناداه: السلام عليك يا رسول الله][26].
فمن الطبيعي حينها رجوع الرسول o لأهله مسروراً، مستبشراً بما أكرمه اللّه سبحانه وتعالى به، ومطمئن للمهمة الكبرى التي اوكلت اليه فشاركه اهله هذا السرور، فآمنوا بنبوّته فكانوا له السند والحصن المنيع في المواجهات.
ومنه تجد إن العقل لا يتقبل الاحاديث المضطربة في كتب اهل السنة والتي تتهم الرسول o بالاضطراب والشك والجهل ; وعدم تمييزه بين الوحي الإلهي والإلقاء الشيطاني، إلاّ بعد أطمئنان السيدة خديجة B وورقة بن نوفل النصراني، الذي مات على نصرانيته كما قيل.
فأول الايات الكريمة التي نزلت من كلام الله تعالى بأتفاق النصوص الكثيرة عن أئمة أهل البيت D وغيرهم هو مطلع سورة العلق (الآيات الخمسة الأولى).
وقد روى الشيخ الطبرسي u عن الإمام علي بن أبي طالب A حديثاً ورد فيه (أن أوّل ما نزل بمكّة على النبي o من القرآن هو فاتحة الكتاب، ثم اقرأ ثم ن والقلم)[27].
وايضاَ يؤيد ما نحن فيه ما روي الواحدي في كتابه اسباب النزول بسنده عن شرحبيل بن عمرو[28]. وعليه فلا مانع من سبق البعثة النبوية المباركة على نزول مطلع سورة العلق أو سورة الحمد من القرآن.
فصحّ القول أن تكون البعثة مع بداية الوحي غير القرآني في شهر رجب، وبدء نزول الوحي القرآني بشهر رمضان[29].
ويمكن للفاصل الزمن ان يكون طويلاً بين فترة بدء النزول التدريجي للقرآن الكريم، وفترة بدء الوحي، باعتبار اقتران البعثة بالوحي الإلهي، ولكن قد يكون الفاصل قصيراً.
وهناك أخبار وردت تقدّر هذا الفاصل بثلاثة سنين (فترة الدعوة السريّة) إذا لاحظت النصوص التي تحدّد نزول القرآن الكريم تدريجياً بمكّة لعشر سنين.
ومن ثم لاحظ مسالة تتابع الوحي القرآني مع ترابط مطالع السور الأولى كسورة (العلق والمزمّل والمدّثر والقلم والمسد) ستلاحظ أن النبيo بدأ باظهار الدعوة حينما تسلّح بسلاح كلام القرآن.
وإظهارها (الدعوة) هو الذي أدّى لمواجهة سلمية هادئة، وبعدها تطورت إلى مواجهات حادة، فلا يفهم معنى سبب معقول للاتهامهJ بالجنون أو السحر إذا كانت دعوته سرّية، ولم تتضمّن مواجهة علنية لقريش ومن ذلك تجد يظهر لك تسلسل طبيعي للأحداث وهي كالتالي:
ثم : بُعِث الرسول o من يوم الاثنين وهو السابع والعشرين من شهر رجب الاصب.
ثم : التحق بالنبيJ الخاصّه من أهل بيته كـ(علي وخديجةD) في يوم الثلاثاء، وأعلنا إيمانهم بالنبوّة والسير على هدي محمدJ، وتعاهدا (الثلاثة) على المؤازرة والدفاع، فكانا يصلّيان معه في فناء الكعبة أمام عامّة الناس وتحت انظار اهل مكة.
ثم : استمر ذوي النبي o بالالتحاق به، كجعفر وزيد وأبو طالب D وتعرّف جميع بني هاشم على نبوّته من دون أن يطلب منهم الإيمان أو النصرة والمؤازرة في بداية الامر، حتى نزلت اية قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين).
ثم : بالتدرج شيئاً فشيئاً التحق به جمع كثير من سائر القبائل حتى استكملوا الاربعين مسلم.
ثم : قبل إظهار دعوة محمدJ بدأت الآيات بالنزول عليه، واستمر القرآن بالنزول حتى أمره تعالى بالقيام للانذار الناس.
ثم : حدّدت الآيات النازلة تأريخ البدء من خلال إنذار العشيرة (الأقربين) وطلب الإيمان والنصرة منهم لدينه ومؤازرتهم له.
ثم : أُمر محمدJ بإنذار كل الناس، بعد إحكام قبضة أساس دعوته بإعلانه عن وجود من يخلفه بهذا الطريق الالهي ويرعى مسيرته، وهو ربيبه وابن عمه الامام علي بن أبي طالب A.
 الذي أعلن وصمم على مؤازرته والدفاع عنه أمام بني هاشم وبني المطلب عشيرته الأقربين، وذلك في قصة (يوم الدار) المعروفة.
واما مرحلة الدعوة والتبليغ في العهد المكّي فمن خلال تقسيم عصر النبي o لعهدين وهما العهد المكّي والمدني، ثم نقسّم كل عهد منهما لعدّة أقسام نبدأ بتقسيم العهد المكّي لثلاث محاور رئيسية وهي:
المحور الاول : وهي اعداد وبناء القاعدة الاولى لنواة الجهاد الأولى لبداية الدعوة الاسلامية الوحدانية.
المحور الثاني : هي اعلان ظهور الدعوة الوحدانية مع بداية مواجهة وتتضمن الصراع مع الوثنية والمشركين.
المحور الثالث : هي امتداد الزمن الطبيعي المرافق للهجرة المباركة بعد اشتداد الصراع وتصاعد المواجهات مع المشركين.
واما توجهات القرآن ومنهج الحركة الإسلامية فحينما تستقريء الأوامر الأولى الموجّهة إلى النبي o في بدايات السور الأولى تحصل على منطلق ومنهج الحركة الإسلامية التي رسمها الله تعالى في القرآن لرسوله o وأتباع المسلمين برسالته وهي كالتالي:
منها : التثقيف والتعليم على أساس الهدى الالهي كما في قوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم)[30] وقوله تعالى (ورتّل القرآن ترتيلاً)[31].
منها : التربية على طريق العبادة والخضوع لذكره تعالى مع التوكل عليه كما في قوله تعالى (قم الليل إلاّ قليلاً * ورتّل القرآن ترتيلاً * واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلاً * رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلاً)[32].
منها : القيام والحركة لله تعالى وتكبيره وتعظيمه بما ينبغي كما في قوله تعالى (قم فأنذر * وربك فكبّر)[33].
منها : الاعراض عن الذنوب والموبقات مع تجنّب الانحراف على جميع المستويات كما في قوله تعالى (وثيابك فطهّر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر)[34].
منها : الصبر والاستقامة والصمود (الثبات) لكي تحقق النصر كما في قوله تعالى (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً * ذرني والمكذّبين أُولي النعمة ومهّلهم قليلاً)[35] وقوله تعالى (ولربك فاصبر)[36].
منها : استعمال اللين من خلال التعامل بدون إدهان كما في قوله تعالى (واهجرهم هجراً جميلاً)[37] وقوله تعالى (ودّوا لو تدهن فيدهنون)[38].
منها : عدم طاعة المكذبين للدعوة والخضوع لهم أو الانخداع بأساليبهم كما في قوله تعالى (فلا تطعِ المكذّبين ولا تطعِ كلّ حلاّف مهين)[39].
ورسالة الإسلام في كل المراحل والاساليب هدفها تربية الإنسان المسلم على مكارم الاخلاق، من خلال التأسي بالرسول محمد o وهو من خلال الالتزام بأحكام الله تعالى وسلاح الرؤية التوحيدية للوجود والحياة كما في قوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم)[40].
وان التربية السليمة لغرض وصولك إلى التكمال الإنساني، تحتاج الى نموذج فريد وخالص لهذا الكمال الإنساني، وقد تمثّل في الرسول o وهو كما في مطلع سورة القلم بقوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) وبه رسمت الخطوط العريضة لرصيدك الفكري لهذه الحركة الإلهية المباركة الهادية من الظلال.
ألف : نزل القرآن على النبي o
بُعث محمدٌ بن عبدالله J نبياً في يوم الإثنين السابع والعشرين من شهر رجب سنة (13 قبل الهجرة)[41] واقترنت بعثته بنزول خمس آيات من القرآن، وهي الآيات الأولى من سورة العلق وهي قوله تعالى:
(بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[42].
أما نزول القرآن الكريم باعتبارهِ كتاب سماوي ودستور إلهي فلم يبدأ به إلا بعد مضي ثلاث سنين من بعثته المباركة، وعلى هذا فبداية نزول القرآن الكريم كانت في ليلة القدر الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك من عام (10 قبل الهجرة) بمكة المكرمة.
ولاحظ القرآن الكريم نفسهُ يُصّرِح بنزوله في ليلة القدر كما في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[43]. وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[44]. وقوله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)[45].
ولقد استغرق نزول القرآن عشرين عام أي بمعنى من السنة العاشرة قبل الهجرة وحتى السنة الحادية عشر بعد الهجرة المباركة، لأنه كان ينزل نجوماً في فترات وظروف ومناسبات خاصة تسمى بأسباب النزول.
وكانت آخر اية نزلت على رسول الله o هو قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[46] وذلك في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة الهجري وهو في طريق عودته من حجة الوداع إلى المدينة المنورة.
باء : كيفية نزول القرآن الكريم
واما الطريقة التي كان ينزل بها القرآن الكريم على الرسول الأمين محمد o وحياً، فقد صرحت الآيات القرآنية، منها قوله تعالى:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)[47].
وقوله تعالى:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)[48].
وقوله تعالى :
(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[49].
جيم : ماهية الوحي للنبي o
في البدية علينا ان نعرف الوحي في اللّغة وهو الإعلام السريع الخفي. وأما الوحي في المصطلح فهو كما ذكره السيد مرتضى العسكري u قال:
كلمة اللّه جلّ اسمه التي يلقيها إلى أنبيائه ورسله بسماع كلام اللّه جَلَّ جَلالُه دونما رؤية اللّه سبحانه مثل تكليمه موسى بن عمران A أو بنزول ملك يشاهده الرّسول ويسمعه مثل تبليغ جبرائيل A لخاتم الانبياء o أو بالرؤيا في المنام مثل رؤيا إبراهيم A في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل A أو بأنواع اُخرى لا يبلغ إدراكها علمنا[50].
واما في الموسوعة القرآنية قيل: ( وبما أنّ الوحي ظاهرة روحيّة، فإنّه بأيّ أقسامه اتفق فإنّما كان مهبطه قلب رسول الله o أي شخصيّته الباطنة - الروح -). فقد قال تعالى:
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[51]. وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)[52]
والقلب هو لبّ الشيء وحقيقته الأصلية[53]. وقال السيد محمد حسين الطباطبائي u في مسألة نزول القرآن على قلب الرسول o:
وهذا إشارة إلى كيفيّة تلقّيه o القرآن النازل عليه، وأنّ الذي كان يتلقاه من الروح هي نفسه الكريمة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة التي هي أدوات لأدراكات جزئيّة خارجيّة...
فكان o يرى شخص الملك ويسمع صوت الوحي، ولكن لا بهذه يسمع أو يبصر هو دون غيره، فكان يأخذه برحاء الوحي[54] وهو بين الناس فيوحي إليه ولا يشعر ألآخرون الحاضرون..[55].

الهامش 

[1]- سورة الجن الاية 26 ـ 28.
[2]- شرح نهج البلاغة 13/ 207.
[3]- المناقب 1/ 43.
[4]- الطبري 2/ 387.
[5]- في المناقب 1: 44 عن القمي. وايضا رواه الراوندي في قصص الانبياء: 318.
[6]- كتاب الكافي 4: 149، طبعة الآخوندي.
[7]- كتاب تهذيب الاحكام 1: 438.
[8]- السيرة الحلبية 1: 384.
[9]- راجع : الطبري 2: 44، واليعقوبي 2: 22، وابن هشام 14: 256.
[10] - تفسير العياشي 2: 201.
[11] - موسوعة بحار الانوار 11: 56.
[12] - سورة الليل الاية 12.
 [13]- سورة المائدة الاية16.
[14]- سورة الانعام الاية 88.
[15]- سورة الحج الاية 16.
[16] - سورة سبأ الاية 6.
 [17]- سورة الانعام الاية 161.
[18] - سورة سبأ الاية 34.
[19] - سورة الفتح الاية 28.
[20] - سورة الجمعة الاية 67.
[21] - سورة الانعام الاية 57.
[22] - سورة يوسف الاية 108.
[23] - سورة هود الاية 17.
[24] - راجع : موسوعة اعيان الشيعة 1 / 224.
[25] - انظر : البعثة النبوية الشريفة في دورها الأول تاليف : منذر الحكيم.
[26]- راجع : موسوعة بحار الانوار للشيخ المجلسيu 18: 206 تفسير الإمام الحسن العسكريA عن الإمام الهادي A.
 [27] - مجمع البيان للطبرسي u 1: 405.
[28] - اسباب النزول / 11.
[29] - حاول العلاّمة الطباطبائي u التوفيق بين احاديث البعثة في 27 رجب، وروايات نزول القرآن في رمضان، وتبني على التسليم باقتران بدء نزول القرآن بالبعثة النبوية، فتحصل نزول مطلع سورة العلق بـ27رجب، ودام هذا التدرج بالنزول لـ23عام، ونزول القرآن في شهر رمضان يعتبر نزول دفعي (نزول مجموع القرآن على قلبه o).
 [30]- سورة العلق الاية 1 ـ 5.
[31] - سورة المزمل الاية 4.
 [32]- سورة المزمل الايات 2 ـ 9.
[33] - سورة المدثر الايات 2 ـ 3.
[34] - سورة المدثر الايات 4 ـ 6.
 [35] - سورة المزمل الايات 10 ـ 11.
[36] - سورة المدثر الاية 7.
 [37] - سورة المزمل الاية 10.
[38] - سورة القلم الاية 9.
[39]- سورة القلم الايات 8 ـ 10.
[40]- سورة العلق الاية 1 ـ 5.
[41] - تؤكد الروايات الكثيرة المروية عن أهل البيت D على أن بعثة الرسول o كانت في السابع و العشرين من شهر رجب.
[42] -  سورة العلق (96) الآيات: 1 - 5.
[43] -  سورة البقرة (2) الآية: 185.
[44] - سورة القدر (97) الآية: 1.
[45] - سورة الدخان (44) الآيات: 1 - 3.
[46] - سورة المائدة (5) الآية: 3.
[47] -  سورة الشورى (42) الآية: 7.
[48] - سورة يوسف (12) الآية: 3.
[49] - سورة العنكبوت (29) الآية: 45.
[50] - راجع : مصطلحات قرآنية: المحقق آية الله السيد مرتضى العسكريH .
[51] - سورة البقرة (2) الآية: 97.
[52] - سورة الشعراء (26) الآية: 193 - 194.
[53] - التمهيد في علوم القرآن : 1 / 30 الطبعة الأولى سنة: 1416 هجرية، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي قم المقدسة جمهورية ايران الاسلامية.
[54] -  برحاء الوحي: شدة ألمه والإحساس بكربه.
[55] - تفسير الميزان: 15 / 346.